تعود تفاصيل الحكاية لآزيد من عشر سنوات، حيث أبت ذاكرتي أن تنسى ذاك اليوم الذي كنت أشعر فيه بملل كبير، فقصدت احدى قريباتي أطلب منها مرافقتي في جولة بالمدينة نخفف بها من وطأة الروتين اليومي، أعلنت قريبتي موافقتها على الفور وخرجنا . أخذنا الطريق الى شارع مولاي علي بوغالب، وهناك انتبهنا الى أن باب المقبرة مفتوح، راودتني فكرة حينها ووجدتني أخاطب قريبتي قائلة: - مارأيك في زيارة لقبر جدتنا واهدائها بعض السور القرآنية القصيرة ومن بعد نكمل طريقنا ؟ أجابت القريبة: - حسنا، فكرة أحبذها . قلت متحمسة : - لطالما استأنست بمجالستها واليوم أجد نفسي مشتاقة اليها رحمة الله عليها . ردت قريبتي: - وأنا أيضا . في جرأة كبيرة، سلمنا أقدامنا للخطوات التي تقودنا الى وسط المقبرة، والكل يعلم فوضوية مقبرة مولاي علي بوغالب بالقصر الكبير وعشوائية تواجد القبور بها من ذلك الوقت الى الآن . شرعنا في البحث عن قبر جدتنا الذي كنا نعتقد أنه متيسر وسهل العثور عليه على اعتبار أنها كانت حديثة الوفاة، لكننا تفاجأنا ونحن نغوص في أغوار المقبرة أننا لن نتمكن من العثور عليه. قررنا أن نتوزع بين القبور ونقرأ الأسماء المكتوبة على رأس كل ميت، لربما هذه الطريقة توصلنا الى قبر جدتنا الذي نبحث عنه، كانت بعض الأسماء العائلية تثير ضحكنا، وكلما عثرت احدانا على واحد منها نادت على الأخرى وتبادلنا قهقهات الضحك، نسينا كليا أننا نتواجد بداخل مقبرة، وأن من حولنا أموات يجب مراعاة حرمة رقودهم، وبينما نحن على هذا الوضع، التقطت آذاني فجأة صوتا لأقدام تمشي وتقترب بخطى ثابتة نحونا، لم تنتبه قريبتي للأمر لأنها كانت أبعد مني قليلا ببعض المترات، التفت فاذا بي أرى كلبا أسود اللون، عيونه براقة، قادم باتجاهي، صرخت الصرخة الأولى وأتبعتها بأخرى أشد قوة ودويا وأنا أرتجف خوفا، ومن دون شعور وجدتني أنقض على قريبتي وأنا أغرس فيها أظفاري من شدة الرعب، تملك الفزع قريبتي وهي تشاهد الكلب الأسود ينظر الينا بعينين براقتين مخيفتين، أمسكنا ببعضنا البعض وتراجعنا الى الخلف نريد اخلاء المكان، أقدامنا التي تجرأت في البداية على دخولها المقبرة عاجزة الآن عن الفرار، لا تعرف لها وجهة، وتقفز من دون وعي هنا وهناك تدوس على القبور مرة وعلى الأشواك والأزبال مرة. استمر الحال على ما هو عليه ولم نهدأ هدوءا نسبيا الا ونحن نرى الكلب يعود من حيث قدم، رحل وكأنه جاء يحمل الينا رسالة انذارية مفادها المغادرة، ويوجه لنا درسا قويا تشير سطوره الى أن المقبرة لها حرمة لاينبغي تجاوزها محذرا ايانا مما ارتكبناه من حماقات. رحل من دون أن يؤذينا ولربما لمس فينا حسن النية في دخول المقبرة من الأساس، وأننا لم نكن نقصد مافعلناه بقدر ما كنا ننوي زيارة قبر جدتنا الراحلة ثم الانصراف. غادرت وقريبتي المقبرة والحزن يمزق داخلي من جهتين، أولاهما فراق الجدة التي كانت غالية علي جدا، وثانيهما عجزنا عن التعرف على قبرها وما حصل معنا بالمقبرة، والذي لم يكن متوقعا . تسللت من كل الحزن الذي كان يعتريني، وهمست لقريبتي: - تعلمين ؟ أستشف حكمة ربانية من وراء قدوم ذاك الكلب الأسود، المقبرة كانت خاوية مثلما رأيت، وحضورنا بالمكان في هذا الظرف الزمني باعتبارنا بنتين كان فيه خطر كبير على حياتنا. لاتنسين أن المكان يقصده السكارى للاختباء، والمجانين للاحتماء، واللصوص وقطاع الطرق أيضا... ماذا لوكنا وقعنا بين أيدي هؤلاء لاقدر الله؟ ردت قريبتي: - انظري الى آثار أظافرك بيدي، انك ألمتني كثيرا . قلت وأنا ابتسم: - معذرة، كنت في غير وعيي . لن يبلغ ألمك درجة الألم الذي أشعر به الآن بعد خيبتنا في تحقيق ما خرجنا لأجله، ومن عدم تنفيذ ما وددنا القيام به من واجب اتجاه جدتنا المرحومة . ما حصل معنا بداخل المقبرة كان كافيا لأن يعيد بنا الطريق من حيث أتينا، عدنا الى منازلنا وفكرة تكرار ولوج المقبرة في وقت كذلك ولمفردنا في عشية خميس مستحيلة، بل اني اليوم كلما مررت بباب المقبرة الرئيسي يشرد ذهني سابحا في حيثيات ماجرى، فيتجدد بداخلي الخوف ويتردد صدى صرختي القويتين اللتان انبعثتا من غير قصد بالمكان، وأسئلة كثيرة تتسلسل في مخيلتي لم أجد لها جوابا: هل كان ذلك كلب فعلا ام جني تمثل في صورة كلب مثلما قص علينا في قصص كثيرة؟ لماذا كلب أسود وليس بلون بني كالذي نعتاد رؤيتهم في كل المناطق ؟ ما الذي جاء به وعاد به من حيث أتى بعدما أمطرنا بنظرات تشع بريقا وغموضا ؟ أكان يحمل شرا الينا كف عنه لما كدنا نموت من الخوف قبالته ؟ ....؟ ....؟ ...؟