يمكن القول إن النقاش الذي ينفجر بين الفينة والاخرى، مواكبةً لعدد من القرارات والقوانين، ليس سوى رجْع صدى، لصراع يدور في المغرب على مستويات ثلاث، أو في مساحات ثلاث. المغرب شأنه شأن العديد من الدول، عاش ويعيش تفاعلا بين قوى فاعلة، سواء داخل بنية الدولة، أو وسط المجتمع، وتتحكم في فاعلية دينامية هذه القوى، معطيات يتداخل فيها الداخلي بالخارجي، وتجمعها علاقات تختلف بين التحالف والتنافر، بحسب تباعد أو تقارب المرجعيات، أو تباعد وتقارب مجالات الاشتغال والفعل. المستويات الثلاث، أو المساحات الثلاث، تتعلق أولا بالسلطة والنفوذ في الادارة، وثانيا بعالم المال والاقتصاد، وثالثا بالهوية والقيم. ولطالما جرى الصراع في هذه المساحات الثلاث بشكل متوازٍ، وظلت تناقضاته تتفاعل في المساحة الواحدة، لكن مع التغير الحاصل في وظائف الدولة، بات الصراع ثلاثي الأبعاد، وأصبح ما يجري داخل إحدى المساحات يؤثر بالضرورة على المساحتين المتبقيتين، مما فرض على القوى الفاعلة تغيير استراتيجية الصراع، والعمل على خلق نخب تخوض من خلالها الصراع خارج -مساحة التخصص- اذا جاز التعبير، او العمل على استمالة النخب المؤثرة في كل مساحة، أو تجريد الخصوم والمنافسين من عناصر القوة وعناصر التأثير، بما يُبطئ حركتهم أو يضعف موقعهم التفاوضي. ومع موجة الانفتاح التي تسود العالم، نتيجة الثورة التكنولوجية، وبلوغ اهتزاز مفهوم السيادة مستويات عالية، عملت عدد من القوى على استغلال ما يحدث خارجيا، اما استقواءً، أو لعب دور الوكالة، خاصة القوى الفاعلة في مساحة المال والاقتصاد، على الرغم مما ينطوي عليه هذا الأمر من تهديد للبنية وللاستقرار السياسي والأمني. وهذا ما يفسر حجم الاستهداف الذي يطال النخب الجديدة، التي تبرز في كل مساحة من المساحات الثلاث، إما بفعل تقدمها الانتخابي، وما يتيحه من التموقع في مؤسسات السلطة والادارة، خاصة اذا كانت تنتمي الى قوة مؤثر في مساحة الاقتصاد والمال أو مساحة الهوية والقيم. وفي هذا الصدد يمكن فهم الاستهداف المتواصل لحزب العدالة والتنمية، أولا باعتباره يمثل نخبة تملك نفوذا داخل مساحة الهوية والقيم، وباعتبار الموقع الذي بات يحتله داخل أجهزة السلطة، وباعتبار ما تسمح به المرجعية الاسلامية التي ينطلق منها، من بناء تحالف موضوعي واستراتيجي مع مؤسسات أخرى في البلاد. وفي هذا الصدد كذلك، يمكن فهم الحرب التي تُخاض ضد مكوناتٍ داخل مساحة المال والأعمال، ولعل مؤشراتها تبرز في تغيير رئاسة اتحاد مقاولات المغرب، والتوتر الحاصل بين مسؤوليه، وفي حملات مقاطعة بعض المنتجات، والحملات الاعلامية ضد رجال أعمال يجمعون بين موقع في مساحة الاقتصاد وموقع في مساحة السلطة، سواء كانت حكومة أو مجلس جماعة ترابية، أو مؤسسة عمومية. أما عن مساحة القيم والهوية، فإن تراجع الترافع على قضاياها، واستنزاف النخب الفاعلة فيها، جعلها المساحة الأكثر تضررا بالنسبة للمغاربة، حيث جرى التضييق على حضور مكونات الهوية في المجال العام، من خلال حملات التشكيك فيها والتنقيص من أهميتها وضرورتها بالنسبة للدولة والمجتمع حاضرا ومستقبلا، من خلال اطلاق العنان لنخب مسلطة على مجالات مختلفة اعلامية وثقافية وأكاديمية، لبث خطابات التشويش والتسميم، بل وتمكينهم من التموقع داخل مؤسسات عمومية، امعانا في إضعاف القوى التي تنطلق من المرجعية الناظمة لهوية وقيم المجتمع، وتحتل مواقع في مساحة السلطة والنفوذ في الادارة. هكذا يمكن على سبيل المثال، أن نضع استهداف اللغة العربية في القانون الاطار للتربية والتكوين، في مكانته ضمن الصراع القائم في البلاد، لفهم مداخل المواجهة الممكنة، ولو بعد حين، دفاعا عن هوية المغاربة، وهكذا يمكن وضع مختلف الاحداث والقرارات في موضعها والنظر اليها نظرة بانورامية، لاستيعاب ما يقع حولنا، من صناعة أزمات ومشاكل لمؤسسات مؤثرة هنا وهناك، واستهداف لشخصيات إعلامية وسياسية وحقوقية، تنتمي الى نخب مؤثرة في هذه المساحة أو تلك، ومن تثبيت عناصر حزب معروف لفظه المجتمع انتخابيا، في مواقع داخل العديد من المؤسسات، لانه اختار الارتماء في حضن فاعل آخر يؤمّن له الحضور، كثمن على دور في الصراع داخل مساحة القيم والهوية، مقابل حملات ظالمة تُجاه حزب العدالة والتنمية المتمتع بالشرعية الانتخابية، تتهمه بتعيين أعضائه والموالين له في الادارات والمؤسسات، وهكذا يمكن فهم ضرب كل محاولات التقارب بين النخب الوطنية في كل مساحة من المساحات المذكورة، وتعميق التناقضات فيما بينها، وهكذا يمكن فهم لماذا لم تنجح وصفة حزب الاصالة والمعاصرة، لانه أراد تسيد كل المساحات، وهي الوصفة نفسها التي يستنسخها حزب أخنوش في هذه الفترة، وإن بمقادير مختلفة.