قال محمد مصباح مدير المعهد المغربي لتحليل السياسات، إن المغرب ضيع نصف قرن من غياب التنمية بسبب الإصلاحات غير المكتملة، حيث أظهرت أزمة “كورونا” العيوب البنيوية التي تعاني منها البلاد وأيضا الفرص التي تمت إضاعتها. وأكد مصباح في حوار مع “لكم” أن الكرة الآن في ملعب الدولة، كي تبعث رسائل طمأنة، من خلال الإفراج عن المعتقلين السياسيين وإطلاق حزمة جديدة من الإصلاحات السياسية، داعيا إلى مضاعفة الميزانية المخصصة للبحث العلمي عشر مرات، وتخفيض النفقات الخاصة بالتسلح، لأنه لا يعقل أن يكون المغرب في الرتب الأخيرة على مستوى التنمية البشرية، وفي الرتب المتقدمة من الدول التي تقتني السلاح.
وفيما يلي نص الحوار: كيف تقيم طريقة تدبير الدولة لأزمة فيروس “كورونا” منذ بدايتها إلى الآن؟ في نظري، يبدو أن السلطات في المغرب استطاعت لحدود الساعة تدبير أزمة فيروس كوفيد-19 بنوع من الفعالية، وذلك بفضل الإجراءات الاستباقية منذ بداية انتشار الوباء عالميا وتسجيل الحالات الأولى بداية شهر مارس، فقد تابع المواطنون عن كثب التفاعل الرسمي السريع والصارم مع هذه الأزمة، ويظهر أن غريزة البقاء لدى الدولة هو الذي جعلها تتحرك بهذه السرعة والصرامة، فهي تدرك أن البنية التحتية الصحية في المغرب قد لا تصمد كثيرا إذا لم يتم التحرك مبكرا وبشكل صارم، وإذا ما انهارت المنظومة الصحية لا قدر الله، قد يؤدي ذلك إلى انعكاسات أمنية، وهو ما يفسر ربما أيضا إشراك المؤسسة العسكرية في الجهود المبذولة لمكافحة هذا الوباء، سواء من خلال تعاون الطب العسكري مع الطب المدني أو من خلال استتباب الأمن، إذن يبدو بعد مرور شهر تقريبا على هذه الأزمة، أن الأمور تحت السيطرة وهذا أمر إيجابي. هل ترى بأن الإجراءات التي اتخذها المغرب سواء على مستوى تعزيز المنظومة الصحية أو دعم المقاولات والأسر كافية لتطويق هذه الأزمة؟ وما الذي يجب أن يبذل أيضا؟ طبعا هذه الإجراءات مهمة وضرورية على المدى القصير للتخفيف من آثار الصدمة التي شكلتها أزمة كوفيد- 19 وتقليل المخاطر المحتملة، فالإجراءات التي قامت بها الدولة لحدود الساعة هدفت أساسا إلى توفير البنية التحتية الضرورية لاستقبال المصابين، لاسيما الرفع من عدد الأسرة وغرف الإنعاش وأجهزة التنفس الصناعي، ورغم أنه كان هناك بطئ في عدد التحليلات اليومية، إلا أنه تم الرفع منها نسبيا مؤخرا، كما أن دعم الفئات الهشة والفقيرة وكذا الأشخاص الذين فقدوا الشغل يعتبر أيضا مهما لتخفيف حدة الأزمة، إلا أن المشاكل الحقيقية ستظهر بعد مرور الأزمة، بحيث ستخلف آثار اقتصادية عميقة على المدى المتوسط والبعيد، فالاقتصاد المغربي هو اقتصاد ضعيف ويتعمد في جزء كبير منه على القطاع غير المهيكل، وهو القطاع الذي تضرر بشكل كبير من هذه الأزمة، كما أن بنية الحماية الاجتماعية ضعيفة ولا توفر شبكة حماية للفئات الهشة، ومن هنا فإن الأضرار الوخيمة قد لا تظهر اليوم ولكن ستتفاقم في المدى المتوسط والبعيد إذا لم يتم التخفيف منها الآن بشكل كاف. أجرى معهدكم استطلاعا للرأي حول ثقة المغاربة في التدابير التي تبناها المغرب لمواجهة “كورونا”، هل تظن أن الثقة التي كانت مفقودة سابقا ستعود بعد انقضاء هذه الأزمة؟ لا أعتقد أن الأمر بهذه البساطة، ارتفاع ثقة المواطنين في الحكومة هو ظرفي ومرتبط أساسا بالإجراءات الاحترازية الفعالة التي اتخذها الحكومة والدولة منذ بداية الأزمة، وهذا أمر مهم، فقد لاحظنا في الدراسة التي أنجزناها بين 14 و19 مارس أن مستوى التأييد الشعبي للقرارات والتدابير الحكومية لمواجهة كوفيد-19 مرتفعة، وهذا أمر يساعد على تسهيل تنزيل هذه القرارات، لكن السؤال هل ستبقى هذه النسبة مرتفعة بعد انقضاء الأزمة، لا أعتقد ذلك لعدة أسباب، أولها أن الثقة السياسية ترتفع وتنخفض حسب السياق، والسياق الحالي يتميز بحالة من عدم اليقين، وبالتالي فالمواطن يرى أنه لا خيار له إلا الثقة في المسؤولين للمرور من الأزمة، وثانيا لأنه سيكون لهذه الأزمة آثار اقتصادية كبيرة، فعشرات الآلاف، إن لم يكن أكثر، من المواطنين سيفقدون شغلهم، كما ستتضرر قطاعات اقتصادية متعددة، وهذا في حد ذاته عنصر يضعف الثقة في الحكومة والمؤسسات، ولهذا أظن أن مستويات الثقة بعد أشهر سترجع لمستواها العادي (أي مستويات متدنية من الثقة في الحكومة) إن لم تتراجع. كثير من الانتقادات وجهت للمنظومة الصحية والتعليمية قبل بداية الأزمة وبعدها (استطلاعكم على سبيل المثال كشف أن أكثر من 70 في المائة من المغاربة لا يثقون بالمستشفيات العمومية) فمن المسؤول اليوم عن وضعيتهما الحالية؟ ولماذا فشلت أغلب السياسات العمومية في مجالي الصحة والتعليم؟ فعلا، الصحة والتعليم كانت محور انتقادات كثيرة، وهي القطاعات التي يرى أغلب المواطنين الذين أجرينا معهم البحث أنها تجدر أن تكون ضمن أولويات الحكومة خلال السنوات المقبلة، وأنا لا أعتقد أن المشكل تقني أو مالي، فالمغرب ينفق جزء مهما من الميزانية على التعليم، إلا أن المردودية الداخلية والخارجية لهذا القطاع ضعيفة، أما الميزانية المخصصة لقطاع الصحة عرفت أيضا ارتفاعا في السنوات الأخيرة، إذا أخذنا فقط الأرقام الذي تقدمها الحكومة، لذلك أنا أعتقد أن المشكل ليس في الميزانية المخصصة، ولكن في طبيعة المؤسسات السياسية بالمغرب، وأيضا في السياسات الحكومية المتبعة في العقود الأخيرة، ماذا يعني ذلك؟ ببساطة، في ظل غياب ربط حقيقي للمسؤولية بالمحاسبة لا يمكن الدفع بهذين القطاعين إلى الأمام، فكيف يمكن محاسبة وزير إذا فشل في تدبير قطاعه؟ الجميع يعلم أن الوزيرين المشرفان على قطاع التعليم والصحة هم تقنقراط، وليسوا مسؤولين أمام الناخبين، أما من ناحية السياسات العمومية المتبعة في العقود الأخيرة فقد كرست المزيد من عدم المساواة، لا سيما بين المجالات الحضرية والقروية من جهة، وبين القطاع العام والخاص من جهة أخرى، فقد لجأت الدولة أكثر فأكثر للخوصصة وعملت أساسا على سحب يد الدولة من هذين القطاعين الحيويين، من دون أن تضع ميكانيزمات فعالة لضبط القطاع الخاص أو تقوية الحماية الاجتماعية، رغم أن الجهود المبذولة مثل “راميد” وبرنامج تيسير ليسا كافيين، والذي وقع هو أن القطاع الخاص كان محفزا فقط بالربح من دون أن تكون لديه “مسؤولية اجتماعية” وهذا ما جعل بعض المصحات والمدارس الخاصة تفكر في مصلحتها الخاصة، وهو ما ظهر في بشكل لافت خلال أزمة كورونا. كثير من المواطنين خرجوا للاحتجاج وطالبوا بمؤسسات استشفائية وجامعية كما حصل في الريف، لكن في الأخير ووجدوا أنفسهم في السجون لماذا لا تستغل السلطة هذه الظرفية وتتفاعل مع النداءات المطالبة بإطلاق سراحهم، وتطوي هذه الصفحة بالإفراج عنهم؟ فعلا هذا هو المأمول، لقد أظهرت الأزمة الأخيرة أن المواطنين، أغلبية ومعارضة وغير مسيسين، كلهم في سفينة واحدة وأن الجميع لديه غيرة على الوطن، ولهذا لا مجال لأن يزايد أحد على مواطنة شخص آخر، فقد أظهر معتقلو حراك الريف عن وطنيتهم من خلال دعوتهم للتقيد بإجراءات السلامة التي دعت إليها السلطات، كما تبرع أحدهم لصندوق الخاص بأزمة كورونا، هذا بالإضافة إلى المواقف المؤيدة التي عبرت عنها جماعة “العدل والإحسان” والجمعية المغربية لحقوق الإنسان وغيرها من تيارات المعارضة الغير مؤسساتية للإجراءات التي قامت بها السلطات المغربية لاحتواء الفيروس، وقد أطلق مجموعة من السياسيين والمثقفين رسالة يدعون فيها لإطلاق سراح المعتقلين، والكرة الآن في ملعب الدولة، ومن المهم أن ترسل رسائل طمأنة من خلال إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وإطلاق حزمة جديدة من الإصلاحات السياسية، التي ستكون بمثابة دعامة للإجراءات الاحترازية التي قامت بها، فالمغرب بحاجة للجميع للتعاون من أجل الخروج من هذه الأزمة، وقد عبر عنها وزير الداخلية في جلسة برلمانية قبل شهر عندما قال "لم نكن في يوم من الأيام في أمس الحاجة إلى بَعضنا البعض أكثر من اليوم، نحن في سفينة واحدة إما أن ننجو جميعا أو نغرق جميعا". ما هي أهم الدروس التي يجب أن نستخلصها من هذه الأزمة؟ وماهي الأمور التي يجب تغييرها سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي والاجتماعي بعد انتهائها؟ إن كان لهذه الأزمة من شيء إيجابي، فهو الدروس المستفادة التي ينبغي التعلم منها، والدرس الأول، هو أن المغرب ضيع نصف قرن من غياب التنمية بسبب الإصلاحات غير المكتملة، فلقد أظهرت الأزمة العيوب البنيوية التي نعاني منها وأيضا الفرص الضائعة، فمن خلال الاعتماد على الذات استطاع المغرب في فترة وجيزة تحقيق عدد من الإنجازات، فالمغرب يصنع حاليا أجهزة تنفس اصطناعية وملايين الكمامات يوميا، قد تجعلنا ربما نحقق اكتفاء ذاتيا في الصحة، وهذا أمر مهم جدا، والدرس الثاني هو أن المغرب يمتلك الكثير من الموارد البشرية داخل وخارج المغرب، فالأزمة الحالية أظهرت النبوغ المغربي في عدد من المجالات الحيوية، وكان من الممكن استثمارها لو تم توفير بيئة ملائمة للبحث العلمي والابتكار. وأعتقد أن من الأمور الأساسية التي ينبغي القيام بها مباشرة بعد انتهاء هذه الأزمة هو مضاعفة الميزانية المخصصة للبحث العلمي عشر مرات وتخفيض النفقات الخاصة بالتسلح، فلا يعقل أن يكون المغرب في الرتب الأخيرة على مستوى التنمية البشرية وفي الرتب المتقدمة من الدول التي تقتني السلاح، يجب في نظري توجيه الميزانية المخصصة لاقتناء الأسلحة نحو البحث العلمي في جميع المجالات، وهذه هي الفرصة للقيام بذلك. هل مسألة النموذج التنموي لازال عندها راهنية الآن؟ ولما لا يعهد بها بعد انتهاء الأزمة إلى الفاعل السياسي بدل التكنوقراطي (أغلب أعضاء اللجنة من الفاعلين التكنوقراط الذين تصدروا المشهد منذ بداية حكم الملك محمد السادس) بمعنى ألا نحتاج لنموذج سياسي جديد أيضا؟ أعتقد أن مسألة النموذج التنموي لا زالت تمتلك راهنية منذ أكثر من أي وقت مضى، إلا أن الطريقة التي تم تدبير بها اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي كانت تتميز بعيب أساسي، وهي هيمنة المقاربة التكنوقراطية لمسألة التنمية، فالتنمية قبل كل شيء ليست إجراءات تقنية وإنما ترتبط أساسا بنموذج سياسي، النموذج التكنقراطي أظهر محدوديته، وكذلك المقاربة الفوقية المتبعة حاليا، المغرب يحتاج حاليا لتعاقد سياسي جديد، عنوانه الأساسي تعزيز مشاركة جميع المواطنات والمواطنين وتعزيز الثقة في المؤسسات، وهذا لا يتم من دون ربط المسؤولية بالمحاسبة والفصل بين السلطة والثروة.