ابن خلدون علامة فارقة في مُنجز الفكر الإنساني. نظريته حول العصبية القبيلة في بلاد المغارب في القرن الرابع عشر الميلادي كانت منطلق التفكير في عُمق وانشغالات أسئلة العمران البشري؛ وقد أتى تجريب هذه النظرية انطلاقا من مقايسات حضارية، وأحيانا بخلفيات منهجية غير بريئة… يقترح ابن خلدون مداخل نظرية جديدة تُفسر قيام وأفول الدول استنادا على عناصر النَّسب والعصبية والعمران…ولئن كان هذا البناء النظري قد توفرت فيه عناصر المعقولية التاريخية، واستهوى عموم الباحثين في حقل الأنثربولوجيا على امتداد القرن التاسع عشر، لئن أمكن كذلك إثارة بعض القضايا المنهجية حوله في ظل هذا الفارق الزمني الطويل بيننا وبين رجل الاجتماع المغاربي من جهة، وبينه وبين تنظيرات الاثنولوجيا الفرنسية ومقاربات الأنثروبولوجيا الأنجلوساكسونية فيما بعد من قبيل: إلى أي حد يمكن سحب المقاربة الخلدونية على واقع البحث في الخطاب الأنثروبولوجي المعاصر، خاصة تلك القائلة منها بدائرية التاريخ القبلي المغاربي؟ ألم تشهد مجتمعات المغارب تحولات مركزية وتراكمات تاريخية تجعل من محاولة النظر إليها من هذه الزاوية عسفا بتاريخها؟ ألم ينته عهد الدولة العصبية القائم على علاقة النَّسب والقرابة مُخليا مكانه إلى دولة المخزنة السياسية التي ضبطت استراتيجيتها نخب البيروقراطية التركية والعربية، وأعيان الأهالي ونخب الحواضر؟ لم يُصادفنا هذا الرجوع الطقوسي إلى المقاربة الخلدونية كما تعلق الأمر بحقل الأنثروبولوجيا في المجتمعات المغاربية؟ لماذا تستبد بنا أفكار ابن خلدون على نحو يكاد يكون جنونيا؟ على هذا الأساس، نعتقد أن في سحب المقاربة الخلدونية بتمامها وكمالها على واقع البحث في الخطاب الأنثروبولوجي المعاصر حول المغارب، يشكل عقبة ابستيمية تحول دون فهم تاريخ المغارب من منظور دياكروني، بل إن الركون إليها بعد خمسة قرون من بروزها وتشكلها في هذا الفضاء يزكي مع ما تذهب إليه مقاربات أخرى حول رتابة البنيات الاجتماعية للمغارب، واتصافها بالسكونية. ومع أنه غني عن البيان، القول أن المقاربة الخلدونية لم تدخل بعد حالة العطالة النهائية، إلا أنه الضروري التأكيد على أن خضوع البحث التاريخي إلى المسلمات المنهجية المحلية منها والأجنبية يفضي به في نهاية التحليل إلى صبه في قوالب جليدية تعيق تجدد آلياته، وتجهض إثارة الإشكالات الجديدة، التي هي من صميم عمل المؤرخ، إلى جانب المسك بحدود موضوع بحثه. فإذا كانت تحليلات عالم الاجتماع المغاربي قد وافقت الصواب وانطبقت على لحظة زمنية معينة عاصرها هو، وحاول تأطير إشكالاتها على مستوى الفهم، فإن نجاعتها قد تتضاءل عندما نريد قراءة فترة زمنية طويلة ومتشابكة، صارت من خلالها الدائرة الخلدونية لا تفسر استقرار ودينامية النسق الاجتماعي.