أخرباش تشيد بوجاهة القرار الأممي بشأن الذكاء الاصطناعي الذي جاء بمبادرة من المغرب والولايات المتحدة    تعزيز التعاون الفلاحي محور مباحثات صديقي مع نائبة رئيسة مجلس النواب التشيكي    اتفاقية الصيد البحري..حجر ثقيل في حذاء علاقات إسبانيا والمغرب!    ما هو سيناريو رون آراد الذي حذر منه أبو عبيدة؟    الرئيس الموريتاني يترشح لولاية ثانية    نور الدين مفتاح يكتب: العمائم الإيرانية والغمائم العربية    كأس إيطاليا لكرة القدم.. أتالانتا يبلغ النهائي بفوزه على ضيفه فيورنتينا (4-1)    المنتخب المغربي لأقل من 18 سنة يفوز على غواتيمالا بالضربات الترجيحية    المنتخب المغربي ينهزم أمام مصر – بطولة اتحاد شمال إفريقيا    دراجي يهاجم "الكاف" بعد قراره الذي أنصف نهضة بركان    رابطة للطفولة تعرب عن قلقها من التركيز المبالغ فيه على محور التربية الجنسية والصحة الإنجابية للمراهق في دورة تكوين الأطر    لا تيتي لا حب لملوك: اتحاد العاصمة دارو ريوسهم فالكابرانات وتقصاو حتى من كأس الجزائر    عاجل.. كأس إفريقيا 2025 بالمغرب سيتم تأجيلها    أخنوش يرد على خصومه: الدولة الاجتماعية ليست مشروعا ل"البوليميك" والحكومة أحسنت تنزيله    جنايات أكادير تصدر حكمها في ملف "تصفية أمين تشاريز"    الشاطئ البلدي لطنجة يلفظ جثة شاب فقد الأسبوع الماضي    سانشيز: أفكر في إمكانية تقديم الاستقالة بعد الإعلان عن فتح تحقيق ضد زوجتي بتهمة استغلال النفوذ والفساد    بالأرقام .. أخنوش يكشف تدابير حكومته لمساندة المقاولات المتضررة جراء الأزمة الصحية    مكافأة مليون سنتيم لمن يعثر عليه.. هذه معطيات جديدة عن حيوان غريب ظهر في غابة    هادي خبار زينة.. أسماء المدير مخرجة "كذب أبيض" فلجنة تحكيم مهرجان كان العالمي    قميصُ بركان    مطار مراكش المنارة الدولي: ارتفاع بنسبة 22 في المائة في حركة النقل الجوي خلال الربع الأول من 2024    طقس الخميس.. أجواء حارة وقطرات مطرية بهذه المناطق    المغرب ومنظمة "الفاو" يوقعان على وثيقة "مستقبل مرن للماء" بميزانية 31.5 مليون دولار    رئيس وزراء اسبانيا يفكر في الاستقالة بعد فتح تحقيق ضد زوجته في قضية فساد    تسريب فيديوهات لتصفية حسابات بين بارونات بتطوان    اللجنة الجهوية للتنمية البشرية بالشمال تصادق على برنامج عمل يضم 394 مشروعا برسم سنة 2024    العدو الجزائري يقحم الرياضة من جديد في حربه على المغرب    النصب على حالمين بالهجرة يقود سيدتين الى سجن الحسيمة    الجامعة الملكية لكرة القدم تتوصل بقرار ال"كاف" بشأن مباراة نهضة بركان واتحاد العاصمة الجزائري    الجزائر تتوصل رسميا بقرار خسارة مباراة بركان و"الكاف" يهدد بعقوبات إضافية    بنكيران يهاجم أخنوش ويقول: الأموال حسمت الانتخابات الجزئية    لأول مرة في التاريخ سيرى ساكنة الناظور ومليلية هذا الحدث أوضح من العالم    أخنوش مقدما الحصيلة المرحلية: إجراءات الحكومة هدفها مناعة الأسرة التي هي "النواة الصلبة لكل التدخلات"    خارجية أمريكا: التقارير عن مقابر جماعية في غزة مقلقة    إستعدادُ إسرائيل لهجوم "قريب جداً" على رفح    سنطرال دانون تسلط الضوء على التقدم المحقق في برنامج "حليب بلادي" لفلاحة مستدامة ومتجددة    أيام قليلة على انتهاء إحصاء الأشخاص الذين يمكن استدعاؤهم لتشكيل فوج المجندين .. شباب أمام فرصة جديدة للاستفادة من تكوين متميز يفتح لهم آفاقا مهنية واعدة    الولايات المتحدة تنذر "تيك توك": إما قطع العلاقات مع بكين أو الحظر    برنامج دعم السكن.. معطيات رسمية: 8500 استفدو وشراو ديور وكثر من 65 ألف طلب للدعم منهم 38 فالمائة عيالات    الفوائد الصحية للبروكلي .. كنز من المعادن والفيتامينات    دراسة: النظام الغذائي المتوازن قد يساهم في تحسين صحة الدماغ    ارتفاع حصيلة العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 34 ألفا و262 شهيدا منذ بدء الحرب    مدير المنظمة العالمية للملكية الفكرية : الملكية الفكرية تدعم جميع جوانب الحياة في المغرب، بما في ذلك الزليج    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من خطر الإصابة بسرطان القولون        كلمة : الأغلبية والمناصب أولا !    اختتام فعاليات الويكاند المسرحي الثالث بآيت ورير    دراسة تبيّن وجود صلة بين بعض المستحلبات وخطر الإصابة بمرض السكري    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    الموت يفجع شيماء عبد العزيز    جلسة قرائية تحتفي ب"ثربانتس" باليوم العالمي للكتاب    أسعار الذهب تواصل الانخفاض    صدور رواية "أحاسيس وصور" للكاتب المغربي مصطفى إسماعيلي    "الراصد الوطني للنشر والقراءة" في ضيافة ثانوية الشريف الرضي الإعدادية بعرباوة    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    لقاء يستحضر مسار السوسيولوجي محمد جسوس من القرويين إلى "برينستون"    الإيمان القوي بعودة بودريقة! يجب على الرجاء البيضاوي ومقاطعة مرس السلطان والبرلمان أن يذهبوا إليه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحركات الإسلامية في مفهوم نظرية ابن خلدون للعصبية
نشر في لكم يوم 15 - 09 - 2013


المقدمة
كثر الجدل والنقاش منذ فترة من الزمن حول ظاهرة الإسلام السياسي والحركات الإسلامية والأصولية من قبل بعض الكتاب والسياسيين من الغرب ومن الشرق. بل إن بعض الأنظمة العالمية ومنها العربية والإسلامية تتخوف من هذه الظاهرة وترى في بعض الجماعات المتشددة المرتبطة بها خطرا عظيما يهدد كيانها وعدوا لدودا ينبغى أن تشن عليه الحرب مدعية بذلك إنقاذ صورة الإسلام والمسلمين من التشويه الذي يلحقهم من جراء بعض الأعمال التى تقوم بها هذه الجماعات الإسلامية التى توصف بالتطرف وبالأصولية او بالإسلاميين المتشددين أو بالسلفية الجهادية وغيرها من المسميات كالإرهابيين. ويزيد الطينة بلة ما يقوم به بعض الأفراد والجماعات من أعمال عنف توصف من قبل البعض بالإرهاب ويصفها البعض الاخر بالجهاد الإسلامي.
وقد اعتبر بعض المحللين في الاونة الاخيرة بأن الأصولية الإسلامية والحركات المنبثقة منها " أكبر خطر في عالمنا المعاصر، " ، ويرى منها البعض بأنها تمثل " الحرب على الرأي المخالف ورفض لدور العقل " . وكل هذا يزيد من تعقيد فهم هذه الظاهرة والحركات الإسلامية التى تجسد عند الكثيرين الصحوة الإسلامية التى يتخوف منها الغربيون و كذلك الذين يشعرون بتهديد مصالحهم ويخشون منافسة حادة وعنيفة لنفوذهم وسلطتهم السياسة أو الفكرية. ولا شك ان التلاعب ببعض الالفاظ المرتبطة بالدين والقريبة من الأصولية مثل : الإسلاميين ، والإرهاب الإسلامي ، والحركات الإسلامية والسلفية والجهاد والوهابية وغيرها من المسميات التى تطلق يمينا وشمالا من قبل الذين يجهلون حقيقة أهداف تلك الحركات وينادون بالإسلام المعتدل والوسطية أمر في غاية الخطورة لأنه يستهدف الصاق التهم بكل الحركات الإسلامية ويجعل من الإسلام عدوا ينادون بالوقوف له بالمرصاد خاصة بعد انتهاء الحرب الباردة بين القوى العظمي وسقوط جدار برلين، وبعد أحداث سبتمبر 2001 الأليمة التي سماها بن لادن "غزوة مانهاتن ألمباركة" مع ما بررته من الحروب التي شنت وما زالت تشن ضد ما يسمى بالإرهاب الإسلامي.
المبررات العقيدية والرصيد التاريخي للجماعات الإسلامية
ومع هذا فإن المسلمين كافة، يعتقدون في قرارة أنفسهم اعتقادا عميقا بقداسة الرسالة الإسلامية ويعتبرونها خاتمة الرسالات السماوية، ولا يرى أحد منهم عيبا في الرجوع إلى الأصول لفهم هذه الرسالة والالتزام بتعاليمها والجهاد في سبيل الله ولا يعير أحد منهم أي اهتمام لمن يصفهم بالأصوليين لأنهم في الحقيقة كلهم أصوليون، كما يقول الشيخ الصابونجي. وكثيرا ما ينبه الدعاة وشيوخ الجماعات الإسلامية كافة المسلمين من خطورة وعدم جدوى ابتغاء غير مرضاة الله في القول والعمل ويذكرون بما ورد في القران من مغبة الولاء لغيرالله: " ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهوائهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير".
إذن ، فوضع الأصولية في قفص الاتهام مع الحركات الإسلامية التي ترتكز عليها لا يغير من حقيقة إدراك المسلمين لنوايا أولئك الذين يوجهون تلك الاتهامات ، وهذا الإدراك ينبع في حقيقة الأمر من التجارب المريرة التى خاضها المسلمون منذ ظهور الإسلام إلى اليوم، فقد عانوا من الاستعمار في شتي أنواعه وأساليبه أشكالا من العذاب الذي استهدف إجبارهم على اتباع ملته(طرقه) والخضوع لرغباته قصد التخلى عن معتقداتهم (تجربة فرنسا في الجزائر والمغرب ، مثلا). وتستمر الحملات وتزداد الضغوط على المجتمعات الإسلامية ، في اعتقاد كثير من المسلمين الذين يرون بأن الغرب يقود مع حلفاءه حملات واسعة وشاملة على جميع الجبهات ضد المسلمين تحت ذريعة محاربة الأصولية المتشددة والإرهاب الإسلامي باعتبارهما مصدرا للعنف والقلاقل وتهديدا للسلام العالمي وتستعمل مسميات في هذا المضمار لا تليق بمفهوم الإسلام عند المسلمين كدين سلام ومحبة ويقع الخلط والارتباك في أذهان الناس تجاه الجماعات الإسلامية والناشطين في العمل الإسلامي. وقد نصح غارودي ، الذي طاف بمعتقدات مختلفة، بعدم تقديم أى تنازلات لهم. ناهيك عما يثيره الجهاد الإسلامي عند كثير من المهتمين بشؤون الإسلام السياسي من ازعاج ونفور.
أمام هذه الحملات يتساءل كثير من ألمسلمين أليست هذه الزوبعة تضليلا مقصودا يستهدف في الاساس النيل من الإسلام كعقيدة مستقلة وكيان منافس، إن لم يكن بديلا للإديولجيا والقيم الغربية؟ بل إن كثيرا من المسلمين وخصوصا كل الداعين إلى تطبيق الشريعة يرون بأن الإسلام هو الحل الوحيد لخلاص البشرية، "ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من ألخاسرين"(ال عمران 85 ).
مناهضة الجماعات الإسلامية
ولقد اتخذت أمريكا وحليفاتها اساليب واضحة وجلية في هذا الاتجاه لتعزيز هذا الموقف في نظر كثير من المسلمين، إذ أوقف وقتل ويحارب عدد ممن أطلق عليهم أصوليون وإرهابيون وجهاديون لتورطهم من قريب أو بعيد في بعض الأعمال التي يعتبرونها إجرامية و التحريض على العنف وتهديد المصالح الغربية والأنظمة التي تناهض دعواتهم للجهاد في سبيل الله (عمر عبد الرحمن في أمريكا الذي حوكم بموجب قانون لم يلجأ اليه منذ الحرب الأهلية ألأمريكية والشيخ ياسين في إسرائيل، أنور العولقي، ثوار منطقة القوقاز، مقاتلو القاعدة في كل مكان، وغيرهم كثير هذه الأيام حتى الويغور والروينجية لم يسلمو من المحاربة).ولقد أعلنت أمريكا حربا طويلة المدى على ما سمته الإرهاب بمساعدة الانظمة التي تدور في فلكها وتقاسمها المصالح والرؤيا. والغريب أن كل هذه الحروب التي تشن على الإرهاب تهم البلدان الإسلامية في مجملها، وما احتلال فرنسا لمالي بمباركة حلفائها وإسقاط حكم إخوان المسلمين في مصر بمباركة من يكن العداء للجماعات الإسلامية إلا أمثلة حديثة تجسد هذه الإستراتيجية والحرب على ما يسمى الإرهاب الإسلامي.
إضافة الى هذا فإن عددا من الأفراد والجماعات في بلدان شتى قد وضعت تحت الرقابة و منعت من ممارسة حقها في التعبير عن معتقداتها ومن ممارسة شعائرها في بعض الاحيان والدعوة إلى الله التى يعتبرها المسلون فريضة شرعية ومسؤولية الجميع. " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته " ، كما ورد في الحديث الذي يردده كل مسلم ومسلمة في كل وقت وحين.
والمتتبع للجماعات الإسلامية ، سواء ما يوصف منها بالأصولية والسلفية الجهادية أو الإرهابية وغيرها من الاوصاف الأخرى فإنه لا يستطيع أن ينكر بأنها قد وقفت في الماضي ضد الاستعمار والاستبداد وساهمت في تعبئة الجماهير من أجل خوض معارك التحرير التى فرضت على المجتمعات الإسلامية. أما في الآونة الاخيرة ، فإن بعض هذه الجماعات تنذر وتحذر من الهيمنة العالمية كما ترفع أصوات الاحتجاج في وجه المظالم التى يتعرض لها المستضعفون وتطالب بحقوق المغلوبين على آمرهم وهي مع ذلك تتعرض لهجمات شرسة واتهامات شنيعة بهدف تهميشها والنيل من سمعتها. بل إنها، أي بعض هذه الجماعات الإسلامية ، تواجه باتهامات تدينها بتجاوز الحد الفاصل بين الإيمان والكفر وأنها ابتعدت تماما عن الإسلام ومنهجه الصحيح مما يبرر عند أعدائها محاربتها والقضاء عليها والحيلولة دون وصولها الى السلطة، هذا في الوقت الذي يلاحظ فيه بأن الغرب قد اتخذ تدابير قانونية وإجراءات الاقتصادية وضغوطات سياسية ضد البلدان المتهمة بالاضطهاد الديني وبالخصوص اضطهاد المسيحيين.
وبطبيعة الحال تنشأ اتهامات في مواجهة هذه الاتهامات وافتراءات في مواجهة الافتراءات كردة فعل عن انحياز الغرب، ومن في فلكه، وازدواجيته ،وسلبيته تجاه الجماعات الإسلامية دون غيرها من الجماعات الدينية الأخرى وتتعاطف بعض الانظمة مع هذا الاتجاه وينشأ العنف بين الطرفين وتتحول بذلك الجماعات الإسلامية إلى عناصر معادية لكل من يحاربها ويستخدم أسلوب الازدواجية معها وهذا يقود الى اشعال نار الفتنة في المجتمعات الإسلامية، ويختلط الحابل بالنابل ويدعي كل طرف بانفراده بالحقيقة المطلقة وفهمه دون غيره للإسلام الصحيح. ولقد قامت فعلا بعض هذه الجماعات بحمل السلاح في وجه أعدائها في كثير من الاماكن( أفغانستان، باكستان،القوقاز الفلبين، العراق، سوريا، اليمن، الصومال، نيجريا، دول الساحل ، الجزائر وغيرها).
اشكالية الدراسة
أمام هذا التنافر والتناحر بين الجانبين : الجماعات التى توصف بالأصولية والتطرف وتدعو إلى تطبيق الشريعة الإسلامية من جهة ، والذين يدعون لمحاربة هذه الجماعات من جهة أخرى، كيف يمكن للمرء العادي ولطالب المعرفة أن يفهما إشكالية الأصولية الإسلامية والحركات الإسلامية المنبثقة منها أو الإسلام السياسي الذي هو مطروح اليوم كظاهرة اجتماعية تجتاح ساحة العمل الإسلامي على أيادي جماعات تدعو إلى رفع راية الإسلام بكل فخر واعتزاز واعتماد الحلول الإسلامية لمعالجة المشاكل المختلفة التى تتخبط فيها المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية؟ هذا السؤال وجيه ومنطقي خصوصا إذا أخذ في عين الاعتبار بأن باب الجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مفتوح لجميع المسلمين ويصعب بالتالي انتقاد هذه الجماعات التى تدعو إلى ولوجه قصد الإصلاح والدفاع عن مصلحة المسلمين وأراضيهم وثرواتهم، ناهيك عن كرامتهم وفريضة الجهاد في سبيل الله. لكن الجواب على السؤال المطروح في غاية من الصعوبة ويتطلب البحث عن إطار نظرى علمي كفيل بالمساعدة على تفسير هذه الإشكالية وتقديم صورة واضحة لها. وهذا ما ستحاول هذه الدراسة الاجابة عنه.
ابن خلدون وتقدير مساهمته العلمية
لا بد للجواب على السؤال بشكل موضوعي، من الاعتماد على نظرية علمية متماسكة تمتلك القدرة على تفسير الظواهر الاجتماعية مثل ما يسمى بالأصولية والحركات الإسلامية ة والإسلام السياسي وغيرها من الأفعال الاجتماعية. والمراجع للأدبيات في هذا المجال الاجتماعي لا يسعه إلا أن يلاحظ بأن معظم الذين اهتموا بالبحث في طبيعة هذه الظاهرة وقاموا بتحليلها، قد أهملوا هذا الإطار النظري العلمي الذي يتطلبه الموقف ، أو على الأقل ، فإنهم لم يصرحوا به عند التمهيد لدراساتهم ، مع العلم أن النظرية تلعب دورا بالغا ومفيدا في الأبحاث العلمية المتعلقة بالظواهر الطبيعية والاجتماعية على السواء.
لذلك ، فإن عدم الاسترشاد بنظرية علمية سليمة تثبت فعاليتها في الميدان لتحليل وفهم الأفعال الاجتماعية كالأصولية والإسلام السياسي ، كان من بين الأسباب الرئيسة التي أدت إلى كثرة الاختلافات وتضارب الآراء والمواقف حول هذه الظواهر الاجتماعية، مع العلم أن من تصفح بعض ما كتب في العلوم الاجتماعية الحديثة ورجع إلى " الأصول " في التراث الإسلامي وغيره لا يسعه إلا أن يصطدم بعدد من هذه النظريات المفيدة والكفيلة بمعالجة إشكالية الأصولية والحركات الإسلامية وغيرها من الإحداث الاجتماعية الجسيمة وأهمها على الإطلاق ، في نظر كاتب هذه السطور،هي نظرية ابن خلدون في العمران البشرى المبنية على المفهوم العلمي للعصبية وضرورة تواجدها ودوافعها في الكيانات البشرية.
إن ابن خلدون كما يعرف الجميع يعتبر من المبدعين وعباقرة العلوم الاجتماعية باعتراف المنصفين له من المسلمين ومن غير المسلمين. بل إنه يحظى اليوم باحترام واسع في كل انحاء العالم. وقد تجسد ذلك الاحترام في المؤسسات العلمية والجمعيات والقاعات الدراسية والمعاهد التى تحمل اسمه علاوة على اسماء الشوارع في المدن المختلفة تكريما لصاحبها ولإنتاجه الفكرى بالرغم من تكفيره من قبل بعض المتطرفين الذين يحاربون نعمة العقل وثمراته.
والمنصف يدرك تمام الإدراك صعوبة، بل استحالة الحصول على مثل هذا التشريف والتكريم إلا من قبل من يستحقه من بنى البشر وعلى الرغم مما يدعيه محمود إسماعيل الذى تجرأ باتهامه بالسرقة واتهام الآخرين بالاستسلام للهالة الخلدونية التى لا تستطيع في نظره الارتقاء إلى المستوى الذي يمكن صاحبها من اختراع نظريات مثل هذه . ومما لاشك فيه أن المتهم على نطاق واسع بالسرقة العلمية والسطو على أعمال الآخرين في المجال الفكري لا يمكن أن تشرفه البشرية وتنوه بأعماله كما فعلت مع ابن خلدون! إذن ، نظرية ابن خلدون هذه حظيت بالتقدير عن جدارة واستحقاق. ولقد مهد بها فعلا ، الطريق للباحثين وقدم لهم نموذجا لنظرية متماسكة ومفيدة يمكن الاعتماد عليها والاستعانة بها في تفسير الأحداث الاجتماعية في المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية في محاولاتها لبناء العمران البشري. " فإن فاتي شىء في إحصاءه " ، كما يقول ، " واشتبهت مسائله، فللناظر المحقق إصلاحه " ، لكن يبقي الفضل لابن خلدون " لأنى نهجت له السبيل. " ولا يقول مثل هذا الكلام إلا من هو واثق من نفسه بعد التحري المطلوب وإعطاء كل ذي حق حقه.
والمحقق الذي يتوقعه ابن خلدون لإصلاح ما فاته، لا بد أن يكون منصفا وموثوقا ومضطلعا ليستطيع إصلاح التقصير الذي يعترض المسائل العلمية. وإذا توفرت هذه الخصال في الناظر المحقق كما يريده ابن خلدون، فإنه لا يسعه إلا أن يلاحظ بأن نظرية العصبية ودورها في بناء العمران البشرى هي نظرية استوفت شروط النظرية العلمية الجيدة (لتفسير الاحداث) كما حددها هوكين (Hawking) ، ذلك العالم الفيزيائي الذي طبقت شهرته الآفاق والذي لا يشك أحد في قدرته على التنظير والبحث العلمي رغم إعاقته الجسدية ومعتقداته التي ليست بالضرورة إسلامية. إن شروط النظرية بشكل عام ، أمر مفروغ منه من قبل العلماء (الاجتماعيين والطبيعيين على السواء بغض النظر عن ديانتهم) ، وهى قدرة النظرية على الوصف الدقيق وقدرتها على التنبؤ بالنتائج في المستقبل على ضوء الملاحظات اللاحقة. وهذان الشرطان ليسا ببعيدين عن المفهوم الذي أعطاه محمود اسماعيل نفسه للنظرية العلمية كفكرة متكاملة " التى تجمع شتات كل الحقل المعرفي وتستطيع أن تقدم إجابات عن سائر الإشكاليات. " لكنه يعمى أن يرى مطابقة تعريفه هذا على النظرية الخلدونية.
والمعتبر لنظرية ابن خلدون في العصبية وبناء العمران البشرى يجد أن النظرية كانت الوسيلة التى استطاع بها ابن خلدون وصف أحداث جسيمة في التاريخ الإسلامي ، وجمع بها شتات الأحداث وفسر بها ميادين مختلفة في السياسة والاقتصاد والثقافة وغيرها من الأنشطة التى تقوم بها المجتمعات الانسانية أثناء سيرها التاريخي وبناءها للحضارة والعمران وفقا لظروفها المعيشية. فمن خلال هذه النظرية، كفرضية علمية وأداة دقيقة، استطاع فعلا ابن خلدون تفسير أحداث تاريخية جسمية وصراعات سياسية معقده في المجتمعات الإسلامية منذ ظهور الإسلام وقبل ظهوره الى الفترة التى عاصرها وعاش في غمار أحداثها. والدلائل التاريخية تشير بأن قوانين العصبية كما حددها ما تزال تحرك التاريخ البشرى وتخضع المجتمعات الإنسانية لسلطانها في مساراتها من أجل بناء الحضارة الانسانية. وكل هذا يثبت أهمية النظرية الخلدونية وقدرتها على التنبؤ في ضوء الملاحظات كما تقتضيه الضروريات العلمية ، رغم من ينفى ذلك. وهذا ما يبرر اعتماد هذه النظرية كأداة لتفسير ظاهرة الأصولية والإسلام السياسي والحركات الإسلامية بأطيافها المختلفة ووضعها في الإطار العلمى المناسب ليتم فهم مقاصدها ونواياها.وفي ذلك عبرة لقوم يعقلون.
موجز للنظرية الخلدونية
فما هي ، اذن ، حيثيات نظرية العصبية عند ابن خلدون؟ وهل يمكن أن تساعد هذه النظرية على تفسير ظاهرة الأصولية وحركات الإسلام السياسي في المجتمعات الحديثة؟ وهل يا ترى يمكن أن تساعد على فهم مقاصد الناشطين في الساحات الإسلامية في شمال افريقيا والشرق الاوسط والبلدان الإسلامية عامة بما فيهم أؤلائك الذين يتخذون منابر دعوتهم في الدول الغربية من أمثال الريسوني والفيزازي والزمزمي والحدوشي والكتاني والنهاري والمسمى أبو حفص ومطيع والقرضاوي وعمرو خالد وكثير ممن جند نفسه لإقناع الناس بالمرجعية الإسلامية وبتفسيراته بمقاصد الشريعة وتطبيقاتها وفهمه للإسلام الصحيح؟
إن الجواب الشافي لهذه التساؤلات يتطلب القيام بدراسة علمية شاملة ومستفيضة لأحوال العمران ولفكر ابن خلدون ومنهجه العلمي ، لكن هذا أمر خارج عن نطاق هذه الكتابة التى تستهدف أساسا محاولة تبرير بناء إطار نظري علمي لتفسير ظاهرة الأصولية وحركات الإسلام السياسي انطلاقا من نظرية ابن خلدون للعصبية. فما هي إذن العصبية التي بنا عليها ابن خلدون نظريته حول العمران البشري؟
بشكل موجز وبدون الخوض في التفاصيل التى سردها في كتابه المعروف بالمقدمة - فإن العصبية هي تلك القوة التى تنشأ عند تلاحم أفراد مجموعة بشرية يجمعهم مصير مشترك ورباط متين وتسمو نفوسهم إلى التعاون الحميم من أجل تحقيق أهداف مشتركة والدفاع عن مصالحهم في وجه العصبيات الأخرى المنافسة لعصبيتهم كما تقتضيه أحوالهم المعاشية وجنوحهم نحو تولي قيادة العصبيات الأخرى وإخضاعها لإرادتهم، إذ " بها تكون الحماية والمدافعة والمطالبة وكل أمر يجتمع عليه. " هذا التعريف قريب من مفهوم التضامن إلا أنه اعمق منه و بعيدا كل البعد عن التعصب.
ويذكر ابن خلدون عنصرين أساسيين لحصول الالتحام والإتحاد وبروز شوكة العصبية وقوتها، الاول: هو صلة القرابة والنسب المشترك الذي يقوى الشوكة ويقود إلى التناصر والنعرة على ذوي الأرحام وهو، أي النسب ، وإن كان طبيعيا في البشر، فإنه أمر وهمي عند ابن خلدون الذي يرى فائدته فقط في" الوصلة والالتحام " وما فوق ذلك فلا طائل في اعتباره لتفسير ملابسات الظواهر الاجتماعية. والحقيقة أنه(النسب) لا يضمن بالتأكيد بروز العصبية في المفهوم الخلدوني (اعتبر العداوة والاقتتال بين الأخوة، وبين الآباء والأبناء، وبين أبناء العمومة على السلطة قديما وحديثا).
أما العنصر الثاني في الوصلة والالتحام الذي تنشأ عنه قوة العصبية وثمرتها، فهو ما يمكن تسميته بالتنشئة المشتركة. وهو لا يقل أهمية عن النسب إن لم يكن أهم منه، وبالخصوص في المجتمعات الحديثة . والمعنى المقصود عند ابن خلدون هو: " العشرة والمدافعة وطول الممارسة والصحبة بالمربي والرضاع وسائر أحوال الموت والحياة. " وفي المصطلحات الحديثة، إن جاز التعبير، فهى التربية والثقافة، أو الإديولوجيا المشتركة التى تقود إلى تقوية التآلف والانتماء والالتحام بين الأفراد، الأمر الذي يجمعهم في عصبية موحدة، تشتد بها شوكتهم ومطالبتهم بالقيام بأدوار بارزة ومصيرية في مجتمعاتهم، لأن أي أمر لا يتم بدون عصبية، كما شرح ابن خلدون. وإن لم يكن النسب موجودا في هذا العنصر فإن " ثمرته موجودة " كما يقول ابن خلدون. ولعل هذه الفكرة هي التى أوحت إلى هنري فايول بأهمية التركيز على روح الفريق كأحد العناصر والمبادئ المهمة في الإدارة الفعالة، غير أن العصبية في المفهوم الخلدوني أعمق وأشمل. ومما لا شك فيه أن دراسة ابن خلدون وتحليله للعصبية تستحق أن تحتل أول القائمة في الدراسات العلمية التمهيدية للأبحاث الحديثة في مجال ديناميكية الجماعة التى يهتم بها اليوم كل علماء السلوك الانساني في العالم.
ومهما يكن العنصر الذى يعزز الالتحام والإتحاد في العصبية، فإن الثمرة واحدة، ولا بد من العصبية لأنها " هي التى تكون بها المدافعة والمقاومة والحماية والمطالبة، وإن من فقدها عجز عن ذلك كله. " ولهذا السبب، اقتنع ابن خلدون بأهميتها وضرورتها الحيوية في التفاعلات الاجتماعية واستوظفها في تفسير الظواهر الاجتماعية والصراعات السياسية التى شهدتها الساحة الإسلامية في المشرق والمغرب، منذ العهود القديمه إلى الفترة التاريخية التى عاصرها ولعب فيها دورا بارزا واصطدم فيها بحقيقة العصبية المرة التى حالت دون تحقيق طموحاته السياسية وكادت أن تقضي على حياته في مناسبات عديدة.
ويجب التنبيه هنا، أن استنتاج هذا العالم لحقيقة العصبية في قوتها وقدرتها على دفع السلوك البشرى نحو تشييد العمران وبناء الدول وعمارة الأرض، لم يمله عليه فشله في بلوغ بعض أهدافه السياسية، بل إنه ثمرة تجربة شاقة وطويلة في دراسة وتحليل الأحداث التى تعرض لها شمال إفريقيا في تاريخه الحافل بالصراعات، علاوة على الأبحاث التاريخية التى قام بها والتى راجع أدبياتها المتوفرة لديه آنذاك. فلقد قادته تلك الأبحاث وملاحظاته وتأملاته إلى استنتاج نظرية العصبية وقوتها وضرورتها في دفع عجلة التاريخ والتجمع البشرى نحو التقدم وبناء الحضارة وتأسيس الدول وتفسير كل الامور التى من أجلها يجتمع الآدميون. وتفسر نظرية العصبية أيضا، كل الصراعات التى تحول دون ذلك، وهي في نظره طبيعية في المجتمعات البشرية التى تخضع لقوانينها باستمرار وبدون استثناء.
نظرية العصبية في تفسير الأحداث التاريخية
ولتدعيم مزاعمه حول توظيف النظرية في تفسير الأحداث الاجتماعية المختلفة في التاريخ فلقد قام باختبارها، فعلا في الميدان واعتمد عليها في تفسير عدد من الأحداث كالصراع الذى وقع بين على ومعاوية ، في أوائل الدولة الإسلامية ، فأثبت بأن العصبية هي المتغير الوحيد الذي حدد حصيلة ذلك الصراع وغيره: عصبية بنى هاشم ضد عصبية بنى أمية. فالدعوة الدينية والاستحقاق في ذلك ليس له أي اعتبار لأن مقتضيات العصبية وديناميكيتها هي التى حسمت الموقف لصالح العصبية الأقوى والقاهرة للأخرى. فنجحت في الانفراد بالسلطة كما اقتضته شوكة العصبية، وهكذا دواليك على مجريات الأحداث التاريخية السابقة واللاحقة الى يومنا هذا.
إن الأمثلة التى برهن بها ابن خلدون على وظيفية وفعالية نظرية العصبية كثيرة وشاملة للأحداث التاريخية الجسيمة في المشرق وفي شمال افريقيا (ميدان بحثه الأساسي) الذى شهد اقتتالا فظيعا بين العصبيات قصد الاستيلاء على السلطة وتأسيس الدول والتمتع بنعمها المعنوية والمادية. وكل تلك التطورات، في نظره ، لم تقع إلا بواسطة العصبية لأنها عمادها ومحركها الأساسي.
على ضوء هذا فإن العمران البشرى ليس عنده عشوائيا، بل إنما تحكمه قوانين علمية مستمدة من قوة العصبية التى تعتبر عنصرا طبيعيا في حياة المجتمعات الإنسانية كيفما كانت نحلها سواء اعتمدت على شرع مفروض من عند الله أم لم تعتمد عليه (اعتبر عصبية الطبقات الحاكمة في الاتحاد السوفياتى سابقا، والصين حاليا، وغيرها من البلدان اللادينية). ولا بد من الإشارة هنا إلى أن هذا المفهوم للعصبية يختلف اختلافا كليا عما يفهم من التعصب كانفعال نفساني يفتقر إلى عنصر العقلانية والحسابات الهادئة والتخطيط الدقيق لتحقيق أهداف واضحة مثل تأسيس الدول وبناء العمران. إضافة إلى هذا، فإن التعصب غير قادر على تفسير مجريات الأحداث التاريخية المهمة في حياة المجتمعات الإنسانية كقدرة العصبية على ذلك (نكبة البرامكة، على سبيل المثال، وظهور النازية والفاشية ومختلف التيارات السياسية التي تتربع على سدة السلطة في المجتمعات البشرية المختلفة).
إن ابن خلدون يرى بأن الصراع على السلطة (أو ما يسميه هو بالملك ، أو الرياسة) أمر طبيعي، والتنافس بين العصبيات من مقتضيات العمران البشرى. والعصبية القادرة على قهر العصبيات الأخرى وإخضاعها لأوامرها ونواهيها، أو كسب ولائها بطريقة أو بأخرى ، هي التى تتربع على مقاليد السلطة وتمسك بزمام الأمور في المجتمع وتحمل الآخرين على التعاون الذي تقتضيه أحوالهم المعاشية واستمرار بقائهم والوقوف في وجه المطالبة من قبل العصبيات الأخرى المنافسة لها، داخلية كانت أم خارجية. " فلابد من عصبية " ، كما يقول ابن خلدون ، " تكون أقوى من جميعها تغلبها وتستتبعها وتلتحم جميع العصبيات فيها وتصير كأنها عصبية واحدة كبرى، وإلا وقع الافتراق المفضي الى الاختلاف والتنازع. "
شمولية النظرية الخلدونية
ان المتأمل لما تقدم ، لا يسعه إلا أن يلاحظ مدى شمولية النظرية الخلدونية لكل ما يتعلق بالأمور التى يجتمع عليها بنو البشر في الماضي وفي الحاضر،سواء في المجتمعات الإسلامية أو في المجتمعات غير الإسلامية دينية كانت أم غير دينية. لكن كيف يثبت المرء في هذه الحالة ويتأكد من وظيفية العصبية(غير التعصب) في تفسير الأحداث التاريخية والصراعات السياسية في المجتمعات المتقدمة كأوروبا الغربية والولايات المتحدة واليابان، مثلا ، ليكون ذلك الاثبات دعما إضافيا إلى شمولية هذه النظرية؟
الجواب على هذا السؤال الوجيه يتطلب إلماما ولو بسيطا بالخطوط العريضة للأحداث التاريخية المهمة التى خاضت تلك الدول غمارها. والمحقق النزيه لا يمكن أن ينكر بأن التطورات السياسية فيها كانت تحكمها وتقودها قوة العصبيات الموجودة على ساحتها ، وفقا لظروفها. وقد كانت تلك العصبيات تتنافس فيما بينها وتحارب بعضها البعض من أجل السيطرة، وذلك من البيوتات الكبيرة إلى القوميات، والإثنيات التى مازالت آثارها راسخة في الميدان السياسى إلى اليوم. وقد تجلي هذا في الصراعات بين مختلف العصبيات (الاقطاعية والارستقراطية والبرجوازية) التى تسعى للسيطرة على بعضها البعض منذ العهود القديمة إلى فترة تأسيس الدولة الحديثة، تماما كما حددتها نظرية ابن خلدون ، وهلم جرا ، إلى التاريخ الحديث وظهور الدول المبنية على عصبية القوميات في أوروبا، والدولة المركزية في كل من الولايات المتحدة واليابان. وقد صاحب كل هذه التطورات والصراعات تأسيس الاحزاب السياسية التى تشكل وحدات عصبية داخلية في الدول والامم المعنية ، وإن لم يكن أعضاء هذه الاحزاب ذوي نسب مشترك، ففائدة النسب موجودة في الالتحام الذى يجمع الاعضاء (تعبير ابن خلدون) ، لأن المنتسبين إلى الاحزاب السياسية تربطهم مصالح مشتركة عن طريق " العشرة والمربي والصحبة وسائر أحوال الموت والحياة " (تعبير خلدونى). " ولأن أهوائهم تتفق على المطالبة " بالتعبير الخلدونى. فهم اذن يشكلون عصبية مميزة وإديولوجيا موحدة ، ويناضلون من أجل الوصول إلى السلطة والتمتع بنعمها وقوفا ثابتا في وجه العصبيات (الأحزاب) الأخرى.ولا يخفى على أحد بأن تلك الصراعات التي عاشتها أوروبا وأمريكا قد لونها الدين وأضفى عليها في بعض الاحيان حيوية لتعزيز شعبية الفرقاء المتصارعين على السلطة وما زال يستعمل لكسب تأييد الجماهير عندما يشعر السياسيون بنجاعته في كسب التأييد لبرامجهم السياسية. (اعتبر انتخاب ريغن وبوش الابن).
يلاحظ في هذا الصدد، بأن الصراع في هذه المجتمعات كان دمويا وعنيفا وملونا بالدين، مثله في ذلك ، مثل كل المجتمعات الانسانية الأخرى التى لم تضع حدا نهائيا للعنف في تداول السلطة كديدنها الذى تسير عليه. والعصبية القوية ، سواء بمفردها أو بالتحالف مع غيرها ، هى التى استطاعت السيطرة والاستيلاء على مقاليد الحكم (الملك ، في التعبير الخلدونى).
لكن الصراع ، في هذه المجتمعات التى تسمي نفسها بالديمقراطية ، قد انتقل اليوم إلى ما يسمى بالتحكيم الشعبي عن طريق صناديق الاقتراع والانتخابات بدلا من الاقتتال بالسلاح وبالانقلابات العسكرية، فيكون التنافس على أصوات الناخبين للحصول على ثقة الأغلبية الهدف الأساسي الذي تنشده الأحزاب لتقوية شوكتها وضمان شرعيتها. والحزب (العصبية) الذى يحصل على الأغلبية يعتبر هو الأقوى، وبالتالي فإن قيادته هي التى تتربع على سدة الحكم وتنفرد نسبيا بالسلطة ، مما يخولها تنفيذ برنامجها السياسي والاقتصادي والاستمرار في الحكم إلى حين استيفاء مدتها الطبيعية التى تحددها الظروف المعاشية والسياسية في المجتمع، وعلى ضوء ظروف العصبيات الأخرى والتطورات الدولية التى أصحبت من المتغيرات المهمة التى تؤثر في سياسة المجتمعات.
علاوة على هذا، فإن صراع العصبيات في هذه الدول، اليوم ، يخضع لقوانين وأنظمة مكتوبة ومدونة ومحددة ودقيقة لكنها في نفس الوقت قابلة للتفاوض والتجديد عندما يتم الإجماع على ذلك ومن ثم يفرض التقيد بما تم الاتفاق عليه أو تجديده لمن يريد أو يرغب في الدخول الى حلبة الصراع والتنافس على السلطة. فهى بذلك تعترف بالمنافسة الشريفة بين العصبيات (الاحزاب) والمطالبين بالسلطة، شريطة التقيد بالأنظمة المرعية واتخاذ الأساليب المتحضرة وعدم اللجوء الى العنف لبلوغ أهدافها السياسية، حتى لو كان الحزب (العصبية) متطرفا يمينيا، في نظر الأحزاب الأخرى (جيرونفسكي في روسيا سابقا، ولوبين والحزب الوطني في فرنسا ، والأحزاب اليمينية واليسارية في كثير من الدول). فالفوز في الانتخابات يعتبر دليلا على النفوذ الواسع في أوساط الجماهير، وبالتالي فهو برهان القوة وسبب الإذعان وخضوع الأحزاب (العصبيات) الأخرى لأوامر المنتصر والتسليم له طواعية لأن ذلك يدل ، بإجماع المراقبين والأعراف السائدة ، على قوة العصبية ، أو الحزب ، وشرعيته في تولية مقاليد الحكم والتمتع بالسلطة التى لا تتم إلا بالعصبية والالتحام بين المطالبين لها والساعين لنجاحها ، وذلك بطريقة مكشوفة ونزيهة حسب القوانين المرعية. فالعصبية هي اللحمة التي يستقوى بها أعضاء الحزب المنتصر المتمثلة في الإديولوجيا والمصالح المشتركة والنظرة الموحدة نحو تدبير الشأن العام واتفاق الأهواء فأين النسب والعرق والدين قي اختيار بارك ابن الحسين رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية؟
الدعوة الدينية في المنظور الخلدوني
بعد هذا العرض الموجز لنظرية ابن خلدون في العصبية وإثبات فعاليتها في تفسير الأحداث الاجتماعية في كل التجمعات البشرية، يحتم الموقف النظر إلى الدعوة الدينية والانتقال بعدها إلى توضيح ظاهرة الأصولية والحركات الإسلامية والإسلام السياسي على ضوء هذه النظرية.
يرى ابن خلدون بأن الدعوة الدينية في المجتمعات الإسلامية، وفي غير الإسلامية، تضفي الحيوية وتزيد إلى قوة العصبية قوة ، تقوي روابط التلاحم وتساهم في التشبث بأهل العصبية (التحالف المسيحي في أمريكا وتأثيره على الحزب الجمهوري وكسب أصوات الناخبين، اخوان المسلمين قبل الإطاحة بهم). فهي بذلك تساهم في كسب التعاطف والتأييد والتقبل من قبل الجمهور الذي يرى فيها (الدعوة الدينية) وفي الشعارات التى يرفعها الداعون، تعبيرا لمشاعره وأملا في تحقيق طموحاته الدنيوية والأخروية. لكن " الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم. " وهذه الحقيقة مكشوفة للعيان في كثير من الأحداث التى وقعت في البلدان المسلمة وغير المسلمة في الماضي وفي الحاضر. ومن الأمثلة عن ذلك : دعوة المرابطين (عصبية صنهاجة)، ودعوة الموحدين (عصبية مصمودة) في المغرب ، وكذلك الحركات السلفية في شمال أفريقيا إبان مقاومة الاستعمار (عصبية السكان ضد عصبية المستعمرين لأراضيهم). وكذلك دعوة العبيديين من قبل ، وحركة المهدي في السودان، والسنوسية في ليبيا وجبهة الإنقاذ في الجزائر، والجبهة الإسلامية في السودان، والخمينى في إيران، والطالبان في افغانستان قبل الإحتلال، والحزب المسيحي الديمقراطي في المانيا، وإيطاليا، والحزب الجمهورى في ايرلندا، وحركة لوثر البروتستانتية من قبل، وحركة ليخ فليسا في بولندا وغيرها من الحركات التى تلونت بالدين في جميع أنحاء العالم.
ومع أن الدين قد لون وامتزج بالأحداث في الامثلة المذكورة ، وغيرها مما لايتسع المجال لذكرها ، إلا أن روح العصبية ومقتضياتها هي التى سيطرت وحددت مجريات الأحداث في ميدان عملها: عصبية صنهاجة وعصبية مصمودة ، وهكذا إلى عصبيات الطبقات الاجتماعية ذات المصالح والقيم المشتركة المتمثلة في الأحزاب السياسية التى تكافح وتناضل من أجل الوصول الى السلطة لتطبيق سياساتها والمحافظة على امتيازاتها ومصالحها. والأمثلة على عكس هذا كثيرة ، ومنها على سبيل المثال : فشل دعوة سيد على محمد (الباب) في إيران لفقدانها العصبية ، وكذلك دعوة بو حمارة في المغرب ودعوة كوريش في واكو بولاية تكساس في امريكا حديثا، و دعوة بن لادن وغيرهم من الثوار الذين لبسوا رداء الدين وانتهوا بالفشل والهلاك ، " لأن الله ، سبحانه ، لم يكتب ذلك عليهم ، وإنما أمر به حيث تكون القدرة عليه ، " كما يقول ابن خلدون. والمراجع للتاريخ الإسلامى يجد عددا كبيرا من الأشخاص الذين ادعوا المهدية وفشلوا لأن دعوتهم تفتقر إلى شوكة العصبية لإنجاحها. وما الأحداث الأخيرة في مصر ببعيدة لأولي الألباب,
بعد هذا العرض السريع ، قد يلاحظ القارئ لهذه السطور تبسيطا مجحفا لعناصر خطيرة وحيوية في الحياة الاجتماعية للكيانات البشرية ويستغرب ذلك ظانا ، منه أن ذلك يخل بالوصف الدقيق والمطلوب لفهم الواقع الاجتماعي المعقد استنادا على نظرية ابن خلدون للعصبية ، وهو محق في ذلك إذا كان من غير المتخصصين وجهله بمكانة النظرية في الميادين العلمية. لكن ، لا بد من تذكير الجميع ، هنا ، بأن البساطة في العرض والاعتماد على عناصر قليلة في تفسير الظواهر ووضعها في قالب ذهنى متماسك أمر في غاية الاهمية للنظرية العلمية الفعالة في التصور الذهنى لتلك الظواهر ، شأن كل نظرية علمية ذات وزن. فليس عجبا أن يفسر اينشتين ، مثلا ، الطاقة بتفاعل الكتلة مع سرعة الضوء. كما أنه ليس شاذا أن يفسر علم النفس الحديث السلوك الإنساني على أنه حصيلة لتفاعل الشخصية مع الدور وأن اسعار السلع والخدمات تحددها نظرية العرض والطلب. ويعتمد العلم، اليوم على نظريتى النسبية ومكيانيكا الكم لوصف الكون كله . أو يكون غريبا ، إذن ، أن يفسر ابن خلدون الأحداث الاجتماعية والعمران البشرى وكل أمر يجتمع عليه بقوة العصبية كما حدد طبيعتها؟ وهي ، كما تقدم ، على تبسيطها وبساطتها قادرة على تفسير العمران البشرى تفسيرا واضحا جعل منها نظرية علمية جديرة بالتوظيف كأداة في الحقل الاجتماعي ، مما يبرر شرعية اعتمادها لتفسير وتوضيح ظاهرة الأصولية والحركات الإسلامية التى هي عين القصد في هذه المحاولة.
الحركات الإسلامية في ضوء النظرية الخلدونية
بادئ ذى بدء ، إن المسلمين كافة أصوليون ، كما قال الشيخ الصابونجنى ، و كلمة الاصولية ودلالاتها الشرعية لا تعتبر جريمة وليست منافية لتعاليم الشريعة الاسلامية كما أنها لا تحمل في طياتها دعوات للعنف والإرهاب والخروج عن الجادة. وكون ذوى النيات السيئة من الغربيين ومن يسبح في فلكهم، يرون العكس ويدعون لمحاربة وصول التيارات والحركات الإسلامية إلى السلطة في الوقت الذي يتوددون فيه إلى الأصولية المسيحية والجماعات الدينية طمعا في أصواتها ، وربما تفاديا إن لم يكن استعدادا لمخاطر الصراع بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية ، فإن ذلك لا يمنع من وضع الأمور في نصابها والنظر الى الأصولية (الاسلامية وغير الاسلامية) من خلال أولاءك الذين يوظفون الدين لخدمة مقتضيات الأحداث وسعيا وراء تقوية عصبياتهم ، كما بين ابن خلدون. فالأصولية التى كثر الجدل والنقاش حولها ، لا تنفصل عن الجماعات المعنية بها ، سواء تبنت هى تلك التسمية ، أم لم تتبناها. وهذا يستدعى التركيز على ديناميكية هذه الجماعات لفهم أهدافها والدور الذي تحدده للدعوة إلى الله والجهاد في سبيله ، وتطبيق الشريعة الاسلامية " الصحيحة " ، كما تدعيه ، أو اتباع تعاليم الإنجيل ، كما يقول الناطقون باسم الحركات المسيحية المختلفة وغيرها من الحركات الدينية الأخرى (اليهود والهندوس والبوديين، والدعوات الأخرى ، مثلا).
لقد أصبح بديهيا ومعروفا لدى الجميع ، بأن الاجتماع البشرى ضرورى ، وأن المجتمعات الإنسانية مركبة أساسا من وحدات اجتماعية تحتاج الى التعاون فيما بينها للنظر في أحوالها المعاشية للمحافظة على البقاء وبناء العمران (التمدن) الذي من أجله يجتمع الآدميون. ومما لا شك فيه أيضا ، أنه لا بد لهذا التجمع من قيادة تستطيع حمل الجميع على ذلك التعاون الضرورى. ولقد أكد هذه البديهيات كل المفكرين من بنى البشر منذ العهود القديمة. غير أن هذه القيادة الضرورية لا تبرز ولا تتجلي إلا في عصبية مجموعة قوية منبثقة من إحدى المجموعات (بالإنفراد او بالإتلاف) التى يلتحم أعضاؤها وفقا للمعايير التى تقدم ذكرها والتى تستطيع قهر أو استمالة العصبيات الأخرى المنافسه لها بالضرورة في القيادة والسلطة. وقد تقدم بأن الصراع قائم أبدا بين العصبيات على القيادة والسلطة لما لها من امتيازات مادية ومعنوية ونفوذ في المجتمع. وبالتعبير الخلدوني :" إن الملك منصب شريف ملذوذ يشتمل على جميع الخيرات الدنيوية والشهوات البدنية والملاذ النفسانية فيقع فيه التنافس غالبا ، وقل أن سلمه أحد لصاحبه إلا اذا غلب عليه ... وشيء من هذا لا يقع إلا بالعصبية. " علاوة على هذا ، فإن القيادة والسلطة طبيعية وضرورية في المجتمعات الانسانية كما هو الحال في بعض التجمعات الحيوانية وغيرها من المخلوقات الاخرى.
لكن كما يقال: دوام الحال من المحال ، لأن العصبيات يدركها الوهن والضعف ، وعندما تتلاشى قوتها وسيطرتها على زمام الأمور وتقترب من استكمال مدتها الطبيعية ، حسب نظرية ابن خلدون ، فإن المطالبة تنتعش في صفوف العصبيات التى تشعر بأهليتها وقدرتها على انتزاع السلطة لما تملكه من المقومات التى تستوجبها المطالبة والتربص لاغتنام الفرصة. وهي في هذه الحالة قد تستخدم جميع الوسائل وتدعو ، مثلا ، إلى القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتطبيق الشريعة تطبيقا " صحيحا " (أو اتباع تعاليم المسيح ، أو تعاليم غيره ، أو تحقيق أهداف معينة حسب الجمهور المخاطب وطموحات الزعماء) لتدعيم وتعزيز موقفها وكسب التعاطف والتأييد والأتباع. وقد تلجأ الى الثورة والعنف(القاعدة والحزب الجمهوري الإرلندي وحركات التحرير) أو السرية (الكنيسة في بولندا والاتحاد السوفياتي ، العباسيين في عهد بنى أمية ،العبيديين ،البلشوفيين الخ ...) للنيل من استقرار العصبية الحاكمة حتى تسود الفوضى وتتهيأ بذلك الظروف للاستيلاء على السلطة والتمتع بالامتيازات المرتبطة بها. وقد تلجأ إلى الحملات الدعائية علانية ، إذا كانت القوانين المرعية تسمح بذلك ، كما هو الحال في الحملات الانتخابية في المجتمعات التى تتبناها.
وما الأصولية اليوم ، والجماعات التى تتجسد فيها ، في نظر كل المهتمين بهذه الظاهرة إلا عصبيات في المفهوم الخلدوني. فهي مجموعة بشرية اتحد اعضائها اتحادا وثيقا هدفهم الأول والأخير هو التربع على سدة الحكم لجنى ثمار السلطة تحت ذريعة الحكم بما أنزل الله وتطبيق الشريعة الإسلامية تطبيقا صحيحا حسب مفهومها وهي تلبس لباس الدين ، في مظاهره على الغالب لنيل الهدف السامي الذي هو السيطرة على مقاليد الحكم وتدبير شؤون العباد . ولن ترضى بأحد غيرها للقيام بذلك أو مشاركتها، لأن الانفراد بالريادة من مقتضيات قوة العصبية. وليس هنا مكان مناقشة الظروف التى تستدعي المشاركة والإذعان للعصبية الحاكمة " والقنوع بما يسوغون من نعمتها " ، بالتعبير الخلدوني ، كما حصل للشيخ الترابي في ظل نظام النميري مثلا ، حين رضي بأقل من الكل تمهيدا وتربصا للانقضاض عليه فيما بعد. وكما هو الحال بالنسبة لحزب العدالة والتنمية المغربي وغيرهم من الأحزاب الإسلامية التي رضيت بما تيسر تمهيدا للحصول على السيطرة الكاملة متى سمحت الفرصة وتقوت شوكة عصبيتها على حساب العصبيات الأ خرى.
إن عدم الرضي بالآخرين وتأويلاتهم وتطبيقاتهم للشريعة " الصحيحة " دليل واضح على نية الانفراد بالسلطة من قبل العصبية واحتكار سافر لمميزاتها (وهى في الغالب لم تصرح بذلك) وإن القضية ليست قضية إسلام ولا قضية تطبيقه. وهذا ما يفسره ويوضحه أكثر، وجود فصائل كثيرة وحركات اسلامية متعددة تكفر بعضها البعض وتتقاتل فيما بينها مع العلم أن الكل يدعي بأن الرسالة واحدة والمنهج واضح وضوح الشمس: " المحجة البيضاء ليلها كنهارها " كما يردد الجميع. ومع هذا فالكل على حدا يدعي شرعية المقاصد وصدق النوايا لكن ذلك لا يمنع من تكفير البعض للبعض أو البعض للجميع ، ولا يمنع من تبادل الاتهامات بعدم فهم الإسلام فهما صحيحا وعدم اتباع الأسلوب الإسلامي في التبليغ والتعبير من باب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر. والكل يتباهى ويعتقد بأنه على حق وأن الآخرين في ضلال مبين. ولمزيد من البرهان ما على الباحث إلا أن يستحضر شخصيات الدعوة الإسلامية في الساحة المغربية والمصرية واللبنانية والعراقية والتونسية والجزائرية وغيرها من البلدان بما فيها الغربية والتيارات السياسية التي ساهمت وتساهم في خلقها لعلها تصل يوما إلى سدة الحكم لتتمع بلذته وتنعم بامتيازاته المغرية ونشوة القيادة.
إن هذه الاختلافات في الرأى والاتجاه والممارسة المتباينة نابعة حتما ، عن اختلاف طبيعة العصبيات وشخصيات روادها ونواياها وعدم اتفاق الأهواء ، كما يقول ابن خلدون ، وهذا الذى يقود الى الاقتتال وصراع الجماعات. وحسب نظرية ابن خلدون فإن العصبية القوية هي التى تكون فرصها كبيرة في السيطرة حيث إنها تستطيع حسم الخلاف لصالحها وتستولي بذلك على زمام الأمور هدفها الأول وغايتها الاخيرة.
فالإنفراد بالسلطة يقود بالتالي إلى اتخاذ القرارات حول تطبيق الشريعة الإسلامية ، أو غيرها كالدفاع عن مبادئء معينة أو تحقيق غايات نوعية ومعنوية حسب مفاهيمها وتصوراتها، كالعناية بقياس اللحى ومنع المرأة من العمل ومطالبة الطلاب بدفع الرسوم الدراسية بالدولار وما إلى ذلك من الممارسات التى تعتبرها من صميم الشريعة كارتداء الحجاب ورفع الاذان عبر مكبرات الصوت وإذاعته في التلفاز وإغلاق المحلات أوقات الصلوات ومنع الاختلاط (الطالبان في أفغانستان ، والجبهة الإسلامية في السودان وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السعودية وإيران ، مثلا). ولا يختلف هذا الأمر في ما يتعلق بما يدعو اليه التحالف المسيحى والمحافظون للوعد في أمريكا وغيرهما من الجماعات الدينية الآخرى في مختلف دول العالم.
إذن ، فالتربع على مقاليد السلطة يجعل من العصبية المسيطرة القوة الاجتماعية والسياسية الوحيدة التى تفرض رأيها وبرنامجها وتأويلها لتطبيق الشريعة على محيط نفوذها إذا كانت ذات منطلق اسلامي، مهما تكن المواقف والاستنكارات تجاه ذلك التطبيق من كل الجهات الرسمية وغير الرسمية. وقد يتساءل الحائر: أهذا هو الاسلام الصحيح؟ ولماذا كل هولاء اللاجئين إلى الغرب قصد اجتناب الأحكام التى تتنافي مع مفهومهم للإسلام الصحيح؟ولماذا كل هذا الاقتتال والعنف والدمار في المجتمعات الإسلامية بين المسلمين ليس فقط بين السنة والشيعة بل ايضا بين الجماعات السنية فيما بينها وبين الجماعات الشيعية فيما بينها؟ أين الإسلام من كل هذا؟ ألا يوجد إلا في بطون مؤلفات علماء الدين وتفسيراتهم للقرآن والسنة؟ ويود كثير من المهتمين أن يكون ذلك خاليا من التناقضات والمغالطات وتحت مجهر النقد البناء والفحص العلمي؟ ثم ما معنى الجهاد الذي دعى إليه مؤتمر القاهرة وتبناه عدد من الشيوخ من القرضاوي والفزازي و محمد مرسي والريسوني وكبار علماء الأزهر وشيوخ السعودية وغيرهم؟ أيحب كل هؤلاء الخير وإصلاح ذات البين والعيش في سلام أم إنه لقانون السياسة، والحكم لمن غلب لأن مصالح العصبيات هي التي تحسم المواقف وتسود خصوصا إذا كان التمويل مجزيا ومن البترو دولارات وتنفيذا لتعليمات الأسياد ذوي العصبيات القاهرة؟ يصعب على الملاحظ أن يتخيل بأن الإسلام هو الذي يترجمه سلوك الفاعلين في الساحات الإسلامية في كل البلدان التي يقتتل فيها المسلمون ويدمرون بعضهم بعضا ويكفرون بعضهم البعض بمباركة من يقفون وراء الدعوات إلى تطبيق الشريعة والجهاد في سبيل الله.
إن البحث عن الاجوبة لهذه الاسئلة يقود حتما الى نظرية ابن خلدون بالرجوع الى طبيعة العصبية التى استطاعت التغلب والانتصار على كل العصبيات الاخرى بكل الأساليب سواء اعتمدت على الدعوة الدينية أم لا. والذي لا يشك فيه أحد هو: إن كثرة الخلافات بين العصبيات والاتهامات العقيمة وخروج الثوار على النظام الاجتماعي باسم الدين أو بحجة أخرى يؤدي حتما ، في نظر ابن خلدون ، إلى الخلل وعدم الاستقرار ، وينذر باقتراب نهاية الدولة وخراب العمران ، خصوصا إذا لجأت العصبيات إلى الاقتتال والإصطدامات الدموية في المنافسة على السلطة (الحروب الاهلية في كل من : لبنان - افغانستان - انغولا - روندا - الصومال - البوسنة العراق-سوريا-باكستان-السودان-الصومال، الخ ...) والأمثلة كثيرة في التاريخ البشرى في العصور القديمة والحديثة تشمل المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية.
وقد يتأزم الموقف أكثر عندما يتعذر بروز عصبية قوية تستطيع قهر العصبيات الأخرى وحملها على الطاعة ، مما يزيد في استفحال الفتنة في المجتمع واشتعال نيران الحرب الأهلية التى تقضي على الأخضر واليابس ، وينتشر الدمار ، ويستشرى الفساد ، وتزهق أرواح الابرياء ظلما وعدوانا. وكل الناس أجمعين ، في غنى عن هذه الفتن. وكما يقال: رب حيلة أنفع من قبيلة.
الخلاصة
إذن ، وعلى ضوء ما تقدم من شرح في هذه الصفحات ، فإن الحركات الاسلامية وما يسمى بالجماعات الاصولية ، كيفما كانت نحلتها ، عصبيات تحكمها القوانين والمبادئ التى تقتضيها طبيعة العصبية كما شرحها ابن خلدون. فهى تتنافس دوما فيما بينها ، كما أنها تقارع عصبية القائمين على أمور الدولة وتتربص بها الدوائر ، وتطمع جاهدة في إزالتها واحتلال مكانها حسب الظروف السائدة في محيطها ، إما بطرق سلمية ، عبر الانتخابات ، إن استطاعت الى ذلك سبيلا (الجزائر، وتركيا، تونس، مصر، المغرب) أو بقوة السلاح (السودان، افغانستان). وفي كلتا الحالتين فإنه لا يمكن استبعاد المساعدات الخارجية وتدخل القوى الأجنبية للتأثير على ميزان القوى لصالح إحدى العصبيات المتنافسة على السلطة ، وبالخصوص ، في الوقت الحاضر ، الذي أصبح فيه العالم " قرية صغيرة " تداخلت المصالح فيه وانتشرت ظاهرة العولمة في كل المجالات.(مصر،أفغنستان، العراق، سوريا، مالي ليبيا) الخ.....
وهكذا يتبين بأن نظرية العصبية ، في الإطار الذهنى الذي رسمه ابن خلدون لها ، هي نظرية علمية ووظيفية ، قادرة على تفسير ظاهرة الأصولية ونشاطات الحركات الاسلامية ، كما تقدم خلال هذا العرض السريع. ولقد تبين ، كذلك ، من خلال البراهين والأدلة التاريخية المشار إليها على أنها نظرية اجتماعية شاملة يمكن أن تساعد الباحثين على فهم الحركات الأصولية ، بل كل الحركات ألسياسية الإسلامية منها وغير الإسلامية ، باعتبارها عصبيات تتطلع جاهدة الى لعب الدور القيادي الذي تسمو إليه الأنفس البشرية ، وتتطلع إلى الاستيلاء على السلطة عندما يستفحل الأمر وتشتد الشوكة كما تقتضيه طبيعة العصبية والعمران البشرى ، حسب ما بينه ابن خلدون.
ويجب التنبيه هنا إلى الاخطاء وسوء الفهم التى يقع فيها اؤلائك الذين يوجهون الاتهامات إلى الأصوليين والجماعات الإسلامية ويستنكرون أساليبهم ، اعتقادا منهم بأن ذلك سيصحح مسار الأصولية ويردها الى الإسلام الصحيح. ويخطأ ، فعلا ، من يعتقد أن الجماعات الإسلامية (السرية والعلنية) التى تتبنى العنف وتلجأ إليه وتتخذ الكفاح المسلح وسيلة لبلوغ أهدافها(النصرة وغيرها ممن يحملون السلاح ويحرضون على القتال)، أنها تجهل حقيقة الإسلام وروح الرسالة السماوية التى تنبذ العنف والإرهاب والتقتيل ضد المسلمين وغير المسلمين. فهذه الاعتقادات لم تنبع إلا من الجهل بمقتضيات العصبية وطبيعتها ولذة بلوغ السلطة من أجل السلطة بكل الاساليب التى تضمن النجاح في ذلك. والمتصارعين من كلا الجانبين يدركون ويرددون بأن الإسلام دين سلام ومحبة وتسامح مع جميع خلق الله ، بما في ذلك الحيوانات ، وما بالك بالنساء والأطفال والعجزة من بنى البشر. وما الخطاب الذي يسمعه الدعاة إلى غير المسلمين إلا تجسيدا لرسالة السلام والخير والطمأنينة التي يطمع كل انسان ادراكها .
والمراقب لساحة العمل الإسلامي لايسعه إلا ملاحظة ذلك في الخطاب السياسي للأنظمة التى تديرها العصبيات ، ذات الاتجاه الإسلامي ، كما هو موجود عند الجماعات الإسلامية التى تحارب من أجل الاستيلاء على السلطة. فالخطاب واحد وإن تعددت وتباينت أساليب ترجمته إلى الواقع. ويوجد الاعتقاد الكامل لدى الجميع بأن الدعوة إلى الله يجب ان تتم بالحكمة والموعظة الحسنة وليس بالتقتيل والتكفير (للمسلمين) ولا بالممارسات الوحشية التى يصرح الجميع بأنها بعيدة عن الإسلام كل البعد: " لا إكراه في الدين. " وربما ، لهذه الاسباب بالذات ، ولما يثيره الخروج على الدولة من خلل في العمران ، نجد ابن خلدون يقف موقفا مناهضا للمطالبين للدنيا بالدين ويرى على أنهم إما موسوسين أو مجانين أو ملبسين ينتحلون الدين ويلبسون رداءه رغبة في الرئاسة. ويضيف بأن الذي " يحتاج اليه في أمر هؤلاء: إما المداواة إن كانوا من أهل الجنون وإما التنكيل بالقتل أو الضرب إن أحدثوا هرجا ، وإما اذاعة السخرية منهم وعدهم من جملة الصقاعين ، " ما لم يملكوا العصبية التى تستطيع حسم الموقف لصالحهم ، طبعا.
الخاتمة
وفي الختام وعلى ضوء ما تقدم لابد أن تعترف وتقتنع الانظمة وعموم الباحثين بأن الصراع والتنافس على السلطة أمر طبيعي لا مفر منه بين العصبيات(الأحزاب السياسية،الحركات الإسلامية) في المجتمعات الانسانية ، وأن التحدى الذي يواجه الجميع ، يكمن في البحث عن إيجاد صيغة مقبولة وسلمية لتداول السلطة بين العصبيات واحتواء الاصولية والتطرف والغلو في الدين وفي الأفكار والسياسات ليكون توجيه الطاقات ، كل الطاقات ، إلى ما فيه مصلحة البشرية والتجنيد للوقوف ضد العنف والإستبداد مهما كان مصدرهما ومهما كانت مبرراتهما ، سواء من قبل الدولة أو من قبل الجماعات التى تناهضها: إسلامية كانت أم غير إسلامية. وتقتضي الضرورة الاتفاق على قوانين اللعبة السياسية والالتزام بها وتغييرها عند الحاجة بطريقة سلمية ولخدمة الصالح العام (اعتبر صعوبة احداث تغييرات في الدستور الامريكي).
فإن كان الصراع طبيعيا وضروريا ، كما تقدم في التحليل الخلدونى للمجتمعات ، فذلك لا يعنى بالضرورة أن يكون دمويا ووحشيا ، والعبر متوفرة بما فيه الكفاية في المجتمعات التى يتم فيها نقل السلطة من عصبية الى أخرى دون الاقتتال. وطبعا ، إن بلوغ ذلك المستوى من التمدن والتعقل والتسليم لنتائج الانتخابات كيفما كانت وتقبل الأخر ، يتطلب الجرأة وبعد النظر واتباع سياسة حكيمة تضمن مشاركة كل الفعاليات الاجتماعية مشاركة نزيهة وشفافة. ولابد أن تكون هذه المشاركة ضمن ثوابت وقوانين مرسومة ومدروسة يلتزم بها كل العاملين في الميدان السياسي تحت مظلة العدالة ، والمساواة ، والحرية للجميع تكون مضمونه بضوابط قانونية شرعية يعاقب كل من يعبث بها ويخالفها ولا يتقيد بإرادة الشعوب وقراراتها في اختيار العصبية التى ترتضيها لقيادتها في بناء العمران والتحضر في كل طمأنينة وأمن وسلام وحرية ينعم بها الجميع لتحقيق غاية الله في خلافته في الارض. " وفي ذلك فليتنافس المتنافسون " ، بالحكمة والموعظة الحسنة.
الهوامش
روجيه غارودي - الحوار العدو الاول للأصولية على اختلاف مشاربها - ملف خاص: مصير الأصولية. الشرق ال00أوسط - عدد 6629 تاريخ 2/1/97 الحلقة 11 - أنظر كذلك الحلقة 12 الشرق الأوسط عدد 6630 22/1/97 وكذلك 13 الشرق الأوسط عدد 6631 23/1/97.
زكي بدوي - الأوصولية المعاصرة حرب على الرآي الآخر ورفض لدور العقل - الشرق الأوسط عدد 6661 تاريخ 22/2/97 حلقة 42. مصير الأصولية ، أنظر كذلك حلقة 43 في عدد 6662 تاريخ 23/2/97.
حسن حنفي - الإسلام حاور المخالفين والمشركين والكفار والمنافقين. الشرق الاوسط عدد 6632 تاريخ 24/1/97 حلقة 14 من مصير الأصولية .
الشيخ طه الصابونجي - الأصولية الغوغائية تقف عند حرفية النص وظاهره. الشرق الأوسط عدد 6641 تاريخ 2/2/97 حلقة 23 من مصير الأصولية .
سورة البقرة - آية 120.
غارودي - مرجع سابق.
انظر مقال حسن حنفي - مرجع سابق.
جريدة نيويورك تايمز تاريخ 11/9/97. الحزب الجمهورى الأمريكي يساند مايسمى بقانون الحرية من الإضطهاد الدينى الذي تتبناه الطوائف الأصولية والتبشيرية المسيحية في أمريكا. ويتساءل كثير من المنصفين عن نوايا هذه الطوائف ونوايا المدعومين لها من الجمعيات والسياسيين.
راجع زكى بدوي - مرجع سابق.
راجع ملف الشرق الأوسط مصير الأصولية.
راجع مقابلته في جريدة الحياة. عدد 12353 تاريخ 21/12/96 ص. 21.
عبد الرحمن بن محمد بن خلدون. المقدمة . تحقيق على عبد الواحد وافي. الطبعة الاولي - المجلد الاول و الثاني- القاهرة: لجنة البيان العربي 1958 ص. 270.
Stephan Hawking. A Brief History of Time: From The Big Ban to Black Holes. New York: Bantam Books, 1988, p. 9.
جريدة الحياة - مرجع سابق.
ابن خلدون ، المقدمة (1958) المجلد الثانى ص. 439 .
ابن خلدون ، المقدمة (1958) المجلد الثانى ص. 508-509 .
ابن خلدون ، المقدمة (1958) المجلد الثانى ص. 508-509 .
Henry Fayol. General and Industrial Management. Translation, C Stores. London: Pitman & Sons, 1949.
shaw, M.E. Group Dynamics: The Psychology of Small Groups Behavior. (2nd ed.) New York: McGraw-Hill 1976 .
ابن خلدون ، المقدمة (1958) المجلد الثانى ص. 443 .
ابن خلدون ، المقدمة (1958) المجلد الثانى ص. 440.
المقدمة (1958) المجلد الثانى ص. 466.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.