في الرأسمالية يستغل الإنسان أخاه الإنسان، لكن في الشيوعية فإن العكس هو الذي يحدث. بهذه الطرفة بدأ عالم الاقتصاد الأمريكي ميلتون فريدمان محاضرته التي ألقاها في جامعة كورنيل بتاريخ 27 سبتمبر1977 تحت عنوان: «هل الرأسمالية إنسانية؟». رغم أن غرض المحاضرة كان السخرية من السؤال، واعتبار أنه من غير المناسب وصف أي من المدرستين بالإنسانية، إلا أن فريدمان اجتهد في التبشير بنجاعة الرأسمالية واقتصاد السوق الحرة، واعتبارها أكثر عملية وفائدة. استخدم فريدمان في محاضرته تلك عدة أمثلة من أجل التدليل على أن إعطاء المجتمع فرصة ليعمل بشكل «طوعي» وليرتب أولوياته الاقتصادية بنفسه، هو أفضل بكثير من أن تشغل الحكومات نفسها بالتخطيط والنظر في ما يمكن أن يحقق مصلحة الناس. من الأمثلة التي سردها فريدمان مسألة اللغة، حيث اعتبر أنها تطورت ووضعت قواعدها بشكل طوعي تدريجي، وأنه لم يكن هناك تدخل على أي مستوى من أجل فرض هذه القواعد، أو الإلزام بالقوانين التي تحدد طريقة الكتابة، حتى الأفكار، يقول فريدمان، تنتشر وتتطور عن طريق هذا التسويق الحر الذي يجعل الناس تختار ما تراه صالحاً وتترك ما دون ذلك، أو تصنع خليطاً من عدة أفكار، حسب ما تراه مناسباً. كان غرض كل هذه المقارنات هو الوصول للنتيجة التي كان يؤمن بها وهي، أن الدول في العالم الحر، أي المناقض للشيوعية، يجب أن تكون حرة أيضاً على كل المستويات، خاصة اقتصادياً، لأن تدخلها يجعل هذه الحرية منقوصة. يمضي فريدمان ليقول، في النظام الاشتراكي لا توجد مسؤولية فردية، فكل الأمور تقع على عاتق المجتمع، الذي يملك كل شيء ويتحمل كل الأخطاء، في حين أن الرأسمالية تعطي الناس الكثير من الحرية، لكن بشكل يجعلهم يحسون أكثر بالمسؤولية. كانت تلك هي إحدى محاضرات فريدمان المتأثرة بجو التنافس بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، التي كان يكرر فيها المقارنة بين الازدهار والحريات العامة في العالم الغربي، والتراجع في مستوى حقوق الإنسان وحرية التعبير في الكتلة الشرقية معتبراً أن ذلك يؤكد على نجاح معسكر الرأسمال الحر، وفشل المشروع الاشتراكي. لكن ما كان يدعو إليه فريدمان لم يكن الرأسمالية التقليدية البسيطة المقابلة للاشتراكية، ولكنه مرحلة متقدمة عليها. في حقيقة الأمر كان فريدمان يعتبر أن الرأسمالية بشكلها الغربي، ورغم كونها أفضل اقتصادياً من أي نظام تتحكم فيه الدولة بالموارد ومداخيل الناس، إلا أنها تظل غير نموذجية وغير بناءة، طالما كان هناك هامش للتدخل الحكومي عن طريق وضع السياسات، أو محاولة تحفيز السوق ودعم التجار أو المستهلكين، وهو ما كان سائدا، وما يزال بدرجات متفاوتة، في العالم الغربي. كان فريدمان واثقاً من نظريته ومن قدرته على إقناع طلبته بها، وبالفعل فقد وجدت أفكاره رواجاً في كلية الاقتصاد بشيكاغو، وصار التنظير حول ما بات يعرف بالليبرالية الجديدة، محوراً مهماً لبحوث وأعمال الطلاب، الذين سيصبح كثير منهم لاحقاً من الأسماء المعروفة ليس فقط على الصعيد المالي والاقتصادي، ولكن السياسي أيضاً. الملاحظة الأولى التي يمكن أن ينتبه لها المرء بشأن فريدمان هي اطلاعه الواسع وتبحره في كثير من العلوم، التي عمل على توظيفها لخدمة نظريته، نجد مثلاً أنه تأثر بعلم النفس وطريقة العلاج بالصدمة، التي كانت تستخدم مع بعض المرضى من أجل التحكم فيهم، أو تنظيف ذاكرتهم من كل ما هو غير مرغوب فيه. كان يرى أن بالإمكان تطبيق هذا على سائر المجتمع في ما يخص صدمتهم بإجراءات اقتصادية متتالية ومتصاعدة، لا تسمح لهم بالتفكير حتى تحقق النظرية غرضها، وهو الوصول إلى السوق الحرة بشكل كامل. نجد كذلك أنه استفاد من علم الاجتماع، خاصة ما يعرف بالداروينية الاجتماعية، التي ترسخ لأفضلية بعض الناس وبعض الأجناس، والتي كان روج لها هربرت سبنسر متأثراً هو الآخر بنظرية التطور الداروينية. بمنطق البقاء للأقوى نفسه، كان فريدمان يعتبر أنه، في المجتمعات الحديثة، يجب أن لا يكون هناك مكان للضعفاء الذين ينتظرون بكسل أن تدعمهم الحكومات، فإما أن يكون الفرد قادراً على إعاشة نفسه، وتقديم إضافات نوعية للمجتمع، وإما أن يتقبل السحق. سؤالان كانا يطرحان نفسيهما عند الاستماع لفريدمان وهما: أولاً كيف يمكن التحقق من هذه النظرية؟ أي أن الاقتصاد سيتعافى ويعود بشكل أفضل مما كان، حينما تبعد الحكومة يدها بشكل كامل عن الدعم، أو عن التدخل من أجل تنظيم السوق، أو تحديد سعر صرف العملات؟ فمهما كانت الحجج مقنعة تظل على مستوى التنظير الأكاديمي، الذي يختلف اختلافاً جذرياً عن التطبيقات الواقعية التي قد تحمل عوامل جديدة لم تكن بالحسبان. ثانياً: على اعتبار التسليم بأن هذه النظرية صحيحة وفاعلة وقادرة فعلاً على تحقيق اختراقات اقتصادية غير مسبوقة، تظل هناك مشكلة وقت، فما بين البدء في تطبيق هذه الإجراءات القاسية، وحتى الوصول لذلك السوق النموذجي، سوف تمرّ فترة صعبة على معظم المواطنين من الشرائح المتوسطة، أما على مستوى الشرائح الضعيفة فسوف يسحقون بشكل فعلي. الصعوبة دارت حول كيفية اقناع المواطنين بأنهم سيعانون لبعض الوقت، وقد يموت بعضهم جوعاً، لكن البقية الباقية سوف تعيش حياة أفضل. الحل الوحيد للإجابة عن السؤالين كان تجريب هذه الأفكار على دول أخرى. هذا كان خياراً مفيداً لناحية التأكد من صحة النظرية، ولناحية التهرب من التجريب المحلي والوقوع تحت رحمة الناخبين. من هنا نشأ ذلك الارتباط الوثيق بين النيوليبرالية والديكتاتورية، فبسبب أن هذه الإجراءات القاسية لم تكن لتجد دعماً شعبياً في ظل نظام ديمقراطي، كان لابد من تطبيقها في أنظمة قمعية، أما إذا كانت الدول محل التجربة ليست قمعية بشكل كافٍ، كما هو الحال مع دول أمريكا اللاتينية آنذاك، فإن المطلوب كان العمل على تحويلها إلى أنظمة ديكتاتورية، ليست ديكتاتورية مطلقة، وإنما ديكتاتورية متصالحة مع الولاياتالمتحدة وأفكارها. مثّل ذلك الارتباط حلقة التناقض الأكبر داخل النظرية، فالأيديولوجيا التي كانت تتسمى بالحرية صارت تتغطى بدثار الديكتاتورية. هكذا أصبحت انتقادات فريدمان وطلابه للشيوعية التي تقمع وتكبت وتلاحق المعارضين غير ذات معنى، لأن الأنظمة المرعية الجديدة، التي هي أنظمة غربية في جوهرها، سوف لن تقل قمعاً وكبتاً للحريات بما يشابه أو يفوق ما كان يتم التعريض به من حوادث خلف الستار الحديدي. كانت الدعاية التي حاولت الأنظمة الموالية للغرب إشاعتها هو أن هذا المنهج، على قساوته، هو الطريق الوحيد للحاق بالنموذج الغربي، والانتقال من الاقتصاد المتعثر لاقتصاد الوفرة والرفاه. هذه الدعاية لم تكن، في أغلب الأحوال كافية، خاصة أن الدولة، حتى في أكثر الأنظمة الغربية ليبرالية، لم تتخل عن شعبها بشكل كامل ومفاجئ. هل كانت تطبيقات الاقتصاد المتحرر هذه جيدة، أو مثالية في البلدان التي خضعت لها؟ هذا يعتمد على زاوية النظر، فإذا كنت تتحدث عن الشركات الأجنبية التي دخلت للاستثمار، مستفيدة من المناخ الجديد، ومن العلاقة مع الأنظمة الموالية، أو إذا كنت تتحدث عن النخبة المحلية من رجال الأعمال المرتبطين بالسلطة، أو بالراعي الخارجي، فإن التجربة كانت بلا شك ناجحة.