للحضارة الحاضرة صناعة هائلة تصنع من المكنات أعقدها. وتبلغ التكنولوجيا الحديثة فيها حدا يقف أمامه العالم العارف حائرا، حائرا بين استيعاب ما تجري به التقنية في هذا الفولاذ القائم، وبين الإعجاب بمبلغ ما قدر عليه الفكر الإنساني من الإبداع. ونبلغ بالصناعات مستويات رفيعة تسكنها الإلكترونيات، وتتوجها التلقائيات Automations ومن مكنات متعددة الخطى، تجري أو تكاد تجري الزمن الطويل وحدها دون قائم عليها أو رقيب. أقول نبلغ بالصناعات الحديثة هذا الحد، فتبلغ بنا الروعة أقصاها. والصناعات الحديثة الرائعة بها تقنيتان، تقنية هندسية، كالتي تكون في الساعات التي نحملها على ظهر أرساغنا، أو تقنية كيماوية كالتي ننتج بها، بالتخليق الكيماوي، من بسائط الكيماويات وأكثرها تركبا، وبالتحليل الكيماوي، من أعقد المركبات أبسطها بناء. ومن صناعات الحضارة هذه الحديثة أنتقل إلى الصناعة الأقدم، والحضارة الأقدم، تلك التي كسبت وجودها قبل أن تكون حضارات، وكدت أقول، وقبل أن تكون أزمنة محسوبة وقرون معدودة. وأعني بتلك الصناعة تلك التي تتمثل أمامنا وفينا كل يوم، وكل ساعة، وكل دقيقة، وكل ثانية، في تلك المكنات التي هي من دم ولحم، ونسميها الأجسام. إنها أجسامنا. الأجسام كسائر المصانع والصناعات، بها تقنية هندسية، وتقنية كيماوية معا. أما التقنية الهندسية فتتمثل في كل حركة يتحركها الجسم كلا، وفي كل خطوة على أي أرض يخطوها، وفي كل نفس من الهواء في الهواء يطلقه. وهي تتمثل أيضا في كل حركة تتحركها الأعضاء ظاهرا، وكل حركة تتحركها الأحشاء، باطنا. والقلب ودورته يمثلان تقنية هندسية رائعة. ومع هذا تظل علاقة ما بين الوقود والحركة في الجسم، أي ما بين المحرك الأول والمتحرك، شيئا من خصائص الأجسام ظل إلى اليوم غامضا. وما هو في المكنات الصناعية بغامض. أما التقنية الكيماوية فيا لها من تقنية ! نلقي بالطعام في قناة الهضم، تلك التي أولها الفم ونهايتها الأست، بعد تحطيمه بالمضغ وتجهيزه باللعاب، ونقول إنه الخبز، وإنه اللحم، وإنه البيض، وإنه الفاكهة والحلوى، فتتلقاه العصارات الهاضمة في هذه القناة، لا بأنه خبز أو لحم أو بيض إلى آخر ما هناك، ولكن بأنه أحد ثلاثة : البروتين، الكربونات المائية (النشا والسكر) أو الدهن. فتأخذ العصارات الهضمية تصنع من كل هذه الأطعمة، كيماويا، أجساما تركيبها أصغر، وذوبانها في الماء أيسر، ليأذن ذلك بدخولها في الجسم، امتصاصا عبر جدران الأمعاء، ثم هي لا تلبث أن تدخل في الجسم حتى تتحول إلى عديد من الأشياء، بالكيمياء. وتتحول إلى مصادر للطاقات من كل نوع. طاقة حركة. طاقة حرارة. طاقة كهرباء. طاقة أحاسيس ومشاعر. طاقة فكر. وتتحول كذلك بالتخليق والتركيب إلى كل ما يحتاجه الجسم من مواد غير التي دخلت إلى الجسم. تتحول إلى لحم للإنسان، وشحم، وإلى دم وما يتألف منه الدم، وإلى الجلد، وما يتألف منه الجلد، وإلى شعر، وإلى عين ترى، وأنف يشم ولسان يذوق، وإلى قلب يدق، وإلى مخ تتجمع فيه كل مفاهيم العقل والنفس. إن الجسم على صغره، هو مخلوق الله الأمثل فيما عرفنا من مخلوقات. والكيمياء عليها العمل الأكبر في صنعه. ونقارن بين ما عرفنا من كيمياء المختبرات وما عرفنا وما لم نعرف من كيمياء الأجسام، فإنما نقارن بين العلم، وهو في مستواه في حجم النملة، والعلم، وهو في مستواه، في حجم الفيل. وبالأمس استطعنا أن نصنع في المختبرات الأنسولين، من بسيط المواد، وصنعنا منه القليل، فرحنا ننشر هذا الخبر في زهو كثير، فكأنما فتحنا به القسطنطينية، بينما الأجسام الحية، أي الأجسام، وأضعف الأجسام، تصنع منه كل يوم، وكل ساعة، للجسم كفايته من الأنسولين، في صمت، بلا زهو ولا صراخ ولا نباح. وأنت تدخل المختبر الكيماوي، أو المختبرات، وتنظر في وسائل الكيمياء في تحويل المواد من بسيطها إلى المركب، أو من مركبها للبسيط، فتجدها وسائل تتصف بالعنف عموما، أداتها الضغط الهائل أو النار ذات الدرجات العالية. وفي الجسم الحي تجري التفاعلات الكيماوية كلها بغير نار، وفي غير ضغط، وبغير عنف، وصاحب الجسم لا يحس بالذي يجري فيه من تحول شيئا، فكأنما الذي يجري بجسمه إنما يجري بجسم جاره. واضرب مثلا من أبسط الأمثال. شعر رأسك يطول، وهو دائم الطول، وهو شعر جديد يتخلق، وأنت لا تشعر به إلا بعد أسبوعين أو أكثر، عندما تنبهك زوجتك إن كنت كبيرا، أو أمك إن كنت صغيرا، إلى أنه وجب عليك أن تذهب إلى الحلاق. والخمائر هي تلك المواد المسؤولة عن كل هذه التغيرات الكيماوية التي تجري بالجسم فهي المواد المسؤولة عن مجرى الحياة، فالحياة كيمياء. المختبرات الكيماوية تحتاج إلى كيماويين، والخمائر هي كيماويو الأجسام، في جسم حيوان أو جسم نبات. إن الأعداد الهائلة من التفاعلات الكيماوية التي تجري في هذه الأجسام فتنتج الحياة، إنما تقوم عليها هذه الخمائر. وكما أن الكيماوي في مختبره لا يدخل جزءا من التحول الذي هو قائم في صنعه، فكذلك الخميرة القائمة على إنجاز تحول كيماوي في الجسم لا تتدخل هي جزءا في التحول القائم. إن التحول القائم يجري بحضورها. ولعلها تمس الأجسام وتشكل أوضاعها ليتم تفاعلها ويجري التفاعل الكيماوي ويتم، والخميرة باقية هي كما هي لم تزد في العموم، ولم تنقص. والقليل منها يساعد على تفاعل الكثير من المقادير. أما بالضبط، وبالتفصيل، كيف تقوم بهذه المساعدة، فللعلماء في هذا الأمر آراء غير حاسمة. إنه سر الحياة والأسرار تتكشف، ولكن يبقى منها أخفاها وأعسرها. والله الموفق 16/04/2013 محمد الشودري