تغير مفاجئ.. هكذا نشرت قناة "فرنسا 3" خريطة المغرب    فلقاء الخطاط مع وزير الدفاع البريطاني السابق.. قدم ليه شروحات على التنمية وفرص الاستثمار بالأقاليم الجنوبية والحكم الذاتي    مجلس المنافسة كيحقق فوجود اتفاق حول تحديد الأسعار بين عدد من الفاعلين الاقتصاديين فسوق توريد السردين    برنامج "فرصة".. عمور: 50 ألف حامل مشروع استفادوا من التكوينات وهاد البرنامج مكن بزاف ديال الشباب من تحويل الفكرة لمشروع    الغالبية الساحقة من المقاولات راضية عن استقرارها بجهة طنجة-تطوان-الحسيمة    أول تعليق من الاتحاد الجزائري على رفض "الطاس" طعن اتحاد العاصمة    جنايات الحسيمة تدين "مشرمل" قاصر بخمس سنوات سجنا نافذا    خلال أسبوع.. 17 قتيلا و2894 جريحا حصيلة حوادث السير بالمناطق الحضرية    نشرة إنذارية.. أمطار قوية أحيانا رعدية مرتقبة بتطوان    طابع تذكاري يحتفي بستينية السكك الحديدية    مقتل فتى يبلغ 14 عاماً في هجوم بسيف في لندن    الأمثال العامية بتطوان... (586)    المهمة الجديدة للمدرب رمزي مع هولندا تحبس أنفاس لقجع والركراكي!    نقابي: الزيادة في الأجور لن تحسن القدرة الشرائية للطبقة العاملة والمستضعفة في ظل ارتفاع الأسعار بشكل مخيف    الدوحة.. المنتدى العربي مع دول آسيا الوسطى وأذربيجان يؤكد على ضرورة الالتزام باحترام سيادة الدول واستقلالها وضمان وحدتها    محطات الوقود تخفض سعر الكازوال ب40 سنتيما وتبقي على ثمن البنزين مستقرا    لأول مرة.. "أسترازينيكا" تعترف بآثار جانبية مميتة للقاح كورونا    هجرة/تغير مناخي.. رئيس الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا يشيد بمستوى التعاون مع البرلمان المغربي    من يراقب محلات بيع المأكولات بالجديدة حتى لا تتكرر فاجعة مراكش    في عز التوتر.. المنتخب المغربي والجزائري وجها لوجه في تصفيات المونديال    ليفاندوفسكي: "مسألة الرحيل عن برشلونة غير واردة"    بلينكن يؤكد أن الاتفاقات الأمنية مع السعودية لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل شبه مكتملة    مساء اليوم في البرنامج الأدبي "مدارات" : المفكر المغربي طه عبد الرحمان.. بين روح الدين وفلسفة الاخلاق    ستة قتلى في هجوم على مسجد في هرات بأفغانستان    وزارة الاقتصاد: عدد المشتركين في الهاتف يناهز 56 مليون سنة 2023    توقيف نائب رئيس جماعة تطوان بمطار الرباط في ملف "المال مقابل التوظيف"    دل بوسكي يشرف على الاتحاد الإسباني    مساعد الذكاء الاصطناعي (كوبيلوت) يدعم 16 لغة جديدة منها العربية    تعبئة متواصلة وشراكة فاعلة لتعزيز تلقيح الأطفال بعمالة طنجة أصيلة    الدورة ال17 من المهرجان الدولي مسرح وثقافات تحتفي بالكوميديا الموسيقية من 15 إلى 25 ماي بالدار البيضاء    مقاييس الأمطار بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    استهداف المنتوج المغربي يدفع مصدرين إلى التهديد بمقاطعة الاتحاد الأوروبي    توقيت واحد فماتشات البطولة هو لحل ديال العصبة لضمان تكافؤ الفرص فالدورات الأخيرة من البطولة    تم إنقاذهم فظروف مناخية خايبة بزاف.. البحرية الملكية قدمات المساعدة لأزيد من 80 حراك كانوا باغيين يمشيو لجزر الكناري    "الظاهرة" رونالدو باع الفريق ديالو الأم كروزيرو    الريال يخشى "الوحش الأسود" بايرن في ال"كلاسيكو الأوروبي"    "أفاذار".. قراءة في مسلسل أمازيغي    أفلام بنسعيدي تتلقى الإشادة في تطوان    الملك محمد السادس يهنئ عاهل السويد    ثمن الإنتاج يزيد في الصناعة التحويلية    صور تلسكوب "جيمس ويب" تقدم تفاصيل سديم رأس الحصان    دراسة علمية: الوجبات المتوازنة تحافظ على الأدمغة البشرية    ارتفاع حصيلة العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 34 ألفا و535 شهيدا منذ بدء الحرب    التنسيق الوطني بقطاع الصحة يشل حركة المستشفيات ويتوعد الحكومة بانزال قوي بالرباط    فرنسا تعزز أمن مباني العبادة المسيحية    العثور على رفاة شخص بين أنقاض سوق المتلاشيات المحترق بإنزكان    عرض فيلم "الصيف الجميل" للمخرجة الإيطالية لورا لوتشيتي بمهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط    فيلم من "عبدول إلى ليلى" للمخرجة ليلى البياتي بمهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط    "النهج" ينتقد نتائج الحوار الاجتماعي ويعتبر أن الزيادات الهزيلة في الأجور ستتبخر مع ارتفاع الأسعار    مدينة طنجة توقد شعلة الاحتفال باليوم العالمي لموسيقى "الجاز"    تكريم الممثل التركي "ميرت أرتميسك" الشهير بكمال بمهرجان سينما المتوسط بتطوان    توقعات طقس اليوم الثلاثاء في المغرب    حمى الضنك بالبرازيل خلال 2024 ..الإصابات تتجاوز 4 ملايين حالة والوفيات تفوق 1900 شخص    المفاوضات بشأن اتفاق الاستعداد للجوائح بمنظمة الصحة العالمية تدخل مرحلتها الأخيرة    هيئة كبار العلماء السعودية: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    السعودية: لا يجوز الحج في هذه الحالة.. ويأثم فاعله!    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (8)    الأمثال العامية بتطوان... (584)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رسالة من معلم منفي إلى والدته
نشر في الأستاذ يوم 28 - 06 - 2013


أمي
يخيل لي و أنا قابع بمملكتي / المسن ، اللصيقة بالمدرسة / القسم ، و الشبيهة ببناء الأضرحة ؛ أنني ولي من أولياء الله ، ترتادني يوميا طوائف من التلاميذ راغبة في مدد العلم ، و طامعة في أن أمحو عنها غشاوة جهلها …هذا جلب معه خبزا ، و ذاك لبنا ، و عندما يكون مطلب الزائر أو جرمه كبيرا ، فإنه يضطر لطلب الشفاعة و الصفح يجلب بيض و زبدة و حليب !!!
أنا أيضا أماه كنت أستغرب هذه العادة الشاذة ، و أصنفها في عداد السلوكيات المشينة قبل أن أقتحم أدغال التعليم ، لكنني الآن و من موقعي هذا المنحوت بين الجبال سأحاول أن أبرر لك . بارحة هذا اليوم الذي أخطط لك فيه رسالتي هاته ، تحولت المنطقة لصحراء جبلية من الثلوج ، و مساء اليوم ، مع إطلالة محتشمة لأشعة شمس الجنوب ، انصهر كل الثلج ، فتحولت المنطقة إلى صحراء من النتوءات و المستنقعات الطينية و الوحلية . مطبخ المسكن / البيت يعرف خصاصا مهولا في بعض الخضروات و القطاني الرئيسية ، و الخبز ، و السكر ، و الشاي .
و لا زالت تفصلنا ليلتين عن يوم السوق . توسمت الخير في أحد تلاميذي ، استدعيته ، وطلبت منه أن يأتيني بخبزة ، أو نصف خبزة ، أو قليل من الخبز ، ذهب و لم يعد … استدعيت الثاني و استجديته بتوسل و تسول لجلب فتات من الخبز، قصد إخماد نيران هذه الطاحونة التي اعتادت هضم الخبز ، و لا شيء غير الخبز ؛ ماء المغاربة و أمير موائدهم … ذهب راضخا و عاد معتذرا قائلا بالشلحة ما معناه : ( كالتلك مي ما بقاش الخبز .) و ترجمت قوله لعشيري هكذا: ( كالتلك مو الله يسهل ! ! !) . هو خليط من مشاعر الشفقة المكلفة ، و التكافل المتكلف ، و التبني القسري ، هو أيضا جنس من أجناس الحوافز ، و الاحتضان ، و التعايش ، الميسر لظروف حياة طرفين ، لكل منهما مصلحة في الآخر ، و هو كذلك سلوك مغربي حاتمي ، متجدر في المكان ، و متأصل في الزمان . يستحيل استئصاله لراهنة الوضع ، و لظروف من فطمته الحضارة و أهملته الوزارة . و أحيانا يتفاقم السلوك بتفشي سمات السداجة القروية و الطمع المتمدن ، و ارتباك ملكات التخطيط و التدبير و التسيير ، مع تراكم التبعات النفسية لهواجس انتظار صرف الرواتب ، و العطل ، و الرسائل و …
لكن المطمئن أن الظاهرة سائرة في طريق الاندثار ، منذ البدايات الأولى لسياسة تشبيب القطاع، و انتشار الشحنة الأولى من الهوائيات المقعرة فوق سطوح دور دواوير مغربنا . و أيضا مع توالي سنوات الجفاف …
أمي
لم أكن أعتقد أن مغربنا لا زال يحوي بين طيات و نتوءات خريطته هذه الفئة من شعبه ( … ) الذي لم تخدمه أي حكومة ، و لم يعره مسؤولونا ، و منظماتنا ، وجمعياتنا ، و أحزابنا ، أدنى اهتمام أو التفات ، و لم أكن أتصور أن مغربنا لا زال يخفي بين جباله هذه العينة من نسائه المعذبات ليلا و نهارا …
هنا بالدوار يكني الرجال النساء ب ( تمغارت تغيولت) و هو ما معناه ( الزوجة الحمارة ) و أنا أدعوهن ب ( الأشجار المتحركة ) لاختفاء أجسادهن النحيلة ، وراء ثقل أكوام وأطنان من الحطب و الأغصان …
تكوينات و تفاصيل أجساد نساء الدوار غريبة ، مكامن الأنوثة فيهن مشوهة ؛ أعناق مقوسة ، ظهور محدودبة ، مؤخرات بارزة متهدلة و نهود متدلية . هن غير مسؤولات عن قوامهن ، كونهن مرغمات على الجلوس طويلا أمام مراشم حياكة الزرابي ، و المداومة على السقي ، وحمل كل أصناف الأثقال ، و تحمل كل أشكال الأعباء و المشاق و استحمال غباوة صدور مكبوتة غير قنوعة و غير مقتنعة …
كنت قد قررت يوما التخطيط لتحريضهن و إعلامهن بالتعديل الذي وقع على مدونة الأحوال الشخصية ، و بمستجدات مشروع الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية ، كما أزمعت تأليب خضوعهن و خنوعهن ، لكنني عدت و تذكرت أنني عجزت عن تبليغ مطلب بسيط لهن ، يتمثل في رجوهن الثقيل من وضع الزغب و الحصى في خبزة المعلم ، فكيف لي أن أخبرهن بتخويل الحكومة لهن حق اقتراح اسم أب وهمي لابن زنا ! ؟
أحيانا أمي ، أشعر أنني جندت هنا لمحاربة آفة أضخم من الجهل و أشسع من الأمية ،آفة ضاربة بضلالتها و جذورها في الأوصال ، والشرايين ، و الخلايا و المعتقدات ، و الفطرة … تمتد وظيفتي للمسجد ، لدور الدوار ، للحيوانات ، للأعراف و العادات ، لتحرير الرسائل و الشكايات ، للبث في النازلات و لفك النزاعات و الخصومات . تتعدى مهمتي بضعة حروف و أرقام لتطال عوالم أخرى ؛ غير اللغة في المخيلة الأمازيغية لناشئتي . أجاهد كي أفتح عيونهم المسجونة وراء سلسلة من الجبال على الصورة و الصوت و التخيل و الحلم ، و على شساعة وطننا ، و تعدد أناسه و دواويره و معلميه . تلاميذي يعتقدون أن حدود العالم القصوى تقف عند البلدة التي سافر إليها شيخ الدوار ، هناك حيث الطريق المعبدة ، و حيث الجماعة ، و حيث المستوصف ، و حيث الدرك ، وحيث الحلوى و السيارات … هناك حيث ذهب ابن الشيخ يوما واحدا للاستشفاء ، وعاد ليحكي لأصدقائه عن عجائب و غرائب البلدة شهرا من الزمن بل زمنا من الشهور…
كم أتمنى أمي ، أن أصاحب تلاميذي في رحلة طويلة ،لزيارة بعض مدن وطننا ، و لرؤية البحر و القطار و مركز البريد و علامات المرور و الدور العالية و …. و … علني أوفق في توسيع آفاق فكرهم الضيق ، و تحرير رؤاهم ووعيهم المحنط بغشاوة سميكة من الجهل و الانغلاق . لكن خوفي أن أولد لديهم – حينها – إحساسا بالحرمان و أحرضهم وقتئذ على الهجرة …
أراضي المنطقة جد خصبة ، لكن رجال الدوار متقاعسون عن شقها ، و قلبها ، و سقيها ، وحفر مجار مياه تجاهها . زراعتهم المحببة هي النسيج ، و شغلهم الشاغل انتظار اكتمال زربية كل شهر ، و ترقب تفتح زهور الزعفران ، ومتابعة سكنات و حركات المعلم…! الرجال هنا يفتخرون بتخصصهم في زراعة الزرابي ، و الفلاح الأصيل من تنتج نطفته جنسا خصبا من الإناث الناسجات .أتساءل فقط ؛ ما ذنب هذه الأرض؟ و ما ذنب هؤلاء الناسجات الصغيرات؟…
تذكرين أمي ولعي الشديد بالجرائد ، و البرامج ، و الربورطاجات المتلفزة و السينما … الآن ، من موقعي هذا ، أصبحت أرى في نفسي و مجريات يومي مادة ناجحة لبرنامج وثائقي مؤثر ، أو لسيناريو مسلسل درامي عنوانه " كضرون حياتي " … فأن يفقد الإنسان إنسانيته ، أن يتزاحم مثل الأكباش داخل أو فوق سيارة غير مؤمنة ، أن يشعر أنه أهين في آدميته و كرامته فهذا أحط درجات العيش الكريم (… )
من المؤسف حقا ، أمي ، أن يكتشف المرء ، انه يخادع نفسه و ينافق مجتمعه ، يجامل هذا تصنعا و يخضع لسذاجات و إكراهات ذاك قسرا ، و من العار أن تجد نفسك مرغما على تقديم الغرابة لتلاميذ ، هم أحوج ما يكون ؛ لقطعة ثوب ، وقطعة خبز ، وحقنة دواء ، وشحنة حب و عطف و حنان … !
و لعلمك أمي ، لا يوجد في هذا الوطن ، من يحمل حقا هموم أطفال بوادي و مداشر مغربنا ، غيرنا نحن المعلمون ، لا يوجد من يعرف بنفس عمق معرفتنا ، حقيقة أوضاع قرى و فلاحي هذا الوطن ، و تأكدي كما الآخرون ، انه لا يوجد من يؤرقه مستقبل هذا الوطن ، بنفس حدة أرقنا ، و لا يوجد من ينوء بأوزار هذا الوطن ، غيرنا نحن من لبى نداء الجنوب ، نحن من يؤمن بان حقلنا ، هو خير ميدان للاستثمار و الإنتاج و تحقيق الرقي كما لا يوجد من يدرك بنفس عمق إدراكنا بان الدواوير و البوادي ؛ هي الأصل في نفعية هذا الوطن أو مضرته ..
أماه ، تبدو الأيام لأصدقائي متوالية ببطء قاتل ، و أنا أراها زاحفة بسرعة الضوء ، أيام عمري تجري و أنا أعدها و أسجلها يوما يوما و بالتاريخ الهجري و الميلادي ، الوقت هنا لا أهمية له و المؤكد أن ساعتي غير مضبوطة ، إذ لم أجد من اضبط عقاربها عليه … فباتت هي الأخرى تجاري رتابتي ، مرة تقدم ساعتين ، و مرة تؤخر أربع ساعات ، حتى المذياع أبت موجاته أن تستقر على محطة واحدة . و إذا حدث يوما أن خففت تيارات رياح الجنوب من وطيس غضبها ، فانه يتحدث بثلاث لغات ممزوجة . لكنني أقولها لك صراحة ؛ لقد اكتشفت – متأخرا – هذا الجهاز المؤنس المسمى مذياعا . تذكرين أمي ، ذوقي الغذائي ، ثوابلي المحببة، فواكهي المقدسة ، تذكرين طقوس كتابتي ، و أكلي و نومي . لا أظنك ستنسين كل هذه الأشياء … لكن أود أن أخبرك أنني تخليت عن عاداتي ؛ إن لم تكن هي التي تخلت عني . لم اكن أتصور يوما أنني سأغير – أو انه سيرغم علي تغيير – ذوقي الغذائي و الموسيقي و الأدبي . و أنني سأستسيغ مذاق اللفت و الشحمة و " البيصارا البايتة " ، أو أنني سأطرب لإيقاعات الراي و الريكي و كل الأنواع الموسيقية الصاخبة ، المكسرة لسكون هذا الدوار الأخرس . أو أنني سأصبح مستهلكا غبيا لكل ما يقرأ و لكل ما يقال و لكل ما يجري و يروج… أو أنني سأرتعد حد الفناء عند ترتيلي أو إنصاتي لتجويد آيات من الذكر الحكيم
أمي ، ثلاثة أسابيع مرت على تواجدي بالدوار ، و لم أعرف بعد متى و أين و كيف يكون الاستحمام ، أو بتعبير أدق ، لم أستحم بعد . أردت حك بقعة دغدغتني أسفل ذقني ، فعلت و أخمدت نار الحكة ، لكنني أيقضت طبقة وسخ من سباتها ففاحت رائحتي . ابنك " الجيلالي " خبير الروائح و العطور اصبح يضاهي في رائحته رائحة مجدوب حينا …
والدتي العزيزة ،لا شك أنك لا زلت تذكرين أناقتي و اهتمامي الكبير بتناسق هندامي . تلك أيام خلت…راهنا لم أعد أميز بين ملابس العمل و ملابس النوم ، قد تختلط وظيفتهما و قد تتوحد . لم أعد أجد رغبة في تسريح شعري ، أو تلميع حذائي ، أو تنظيف أسناني ، أو تعطير مناطق التصاق مفاصلي . لأجل من سأفعل كل هذا ؟ ستقولين من أجل نفسي ؟ و سأجيبك : ماتت في تلك النفس الأنيقة .
تخيليني أمي في أي وضعية لم يسبق لك أن رأيتني فيها ؛ مريضا ن مهملا ، ضمآنا ، جوعانا ، بردانا . تخيليني واجما ، متأملا ، صامتا منصتا لسكون الجبال . و أغاني الراي وترتيل آيات القرآن . مرارا أغسل وجهي دون أن أفطر ، أو أفطر دون أن أغسل وجهي . و أحيانا ، أرغم على الصوم و أنا جوعان ، و على الأكل و أنا شبعان . لم أعد أميز بين صبحي و ليلي ،و بين بارحتي و يومي . الخواء و الفراغ و اللا شيء و اللا معنى باتت أبراج حضي ..
هنا بين الجبال، أمي، اكتشفت أن لكل شيء صدى . اكتشفت أيضا أن الحياة خدعة و أن للصمت صوت رنيني مسترسل ، و أن في عمق العتمة الدامسة أنوار هلامية خفية ، و اقتنعت أخيرا أن هناك شعور أقوى من الحب يدعى الألفة ، و أن مبتكر النميمة إنما كان عدوا لذوذا لمعلم . و أن الأنثى هي سبب تخلف هذا الميدان ، و هذا الوطن ، و هذه العقول العاشقة . كما حظيت مؤخرا بخزي رؤية مكمن تخلف إدارتنا …
بالمناسبة أمي ، أود أن أخبرك أنني عدت لعادة قضم الأظافر ، ووضع سبابة يسراي في الفجوة اليمنى لأنفي . و أبشرك أنني شفيت من فوبيا الكلاب و الزواحف و الأماكن المرتفعة و الشاسعة . كيف لا و أنا نفسي أصبحت قطعة من هذا الفضاء التجريدي . كما لا أنسى شكرك على ذلك المنديل الذي دسسته لي خفية في ثنايا حقيبة سفري . و صدقيني أن عبق رائحتك العالقة بي تخفف عني قسطا من آلام بدني و غربتي…
أمي قد أسأم هذه الحياة ، قد أتدمر و قد أتمرد ، لكنني أعود و أتذكر أنني أعمل مرضاة لوجه الله ، أعود و أتذكر أيضا براءة عيون و صفاء قلوب هؤلاء الصبية ، فاقتنع أن الذنب ليس ذنبهم كونهم لا يتحدثون عربية أو دارجة ، و كون نطفهم تشكلت بين الجبال . و أعود في الأخير ، لأتذكر حالة زحمة " راس الدرب " و مقاهي الدرب ، و مجازي الدرب فانكمش و أنتفض من سأمي …
أماه ، و أنا أصلي داخل بيتي المشيد فوق أعلى هضبة صخرية بالدوار . أشعر ؛ و هذا أجمل شعور ، أنني قريب من الله أكثر من أي وقت مضى ، قريب من ملكوته و عظمته و مشيئته ، قريب من رحمته و عنايته و لطفه …فأتضرع و أتذلل و ابكي و أتلاشى حسا لا جسدا …
مستلقيا على فراشي ، أجد نفسي مرغما على استرجاع كل حلقات شريط حياتي عشرون حلقة ، أتذكرها سنة سنة ، شهرا شهرا و يوما يوما ، أسترجعها بأجمل و أتعس لويحظاتها و بأبطأ و أسرع هنيهاتها .
والدتي ، صدقيني أنني لا زلت أتذكر مذاق حليب ثدييك ، و أتذكر أيضا أنني طالما عضضتك من حلمتيك ، و طالما شددتك و جذبتك من ظفائر شعرك ، بل و تعود بي الذكرى إلى يوم مولدي و يوم فطامي و يوم ختاني . أعرف أنك لن تستوعبي ما أقول ، لكن أصدقائي و الجبال يستوعبون و يبررون ما أقول ، عندما تعصف بي نزلات برد حادة فأرعف على إثرها مرارا و تكرارا ، و أفقد وعيي ، ثم أسترسل في التذكر و الهذيان . و أذكر أيضا ، و لا أدري إن كنت ستصدقينني هذه المرة أيضا ، لكنني أقسم ، و قسمي غير جائز ، لأنني كنت وقتها لا أزال جنينا . قلت إذن أنني أذكر – و الذكرى ليست ببعيدة – كل لحظة مكثتها بداخل أحشائك ، فأذكر مثلا أنك حملتني أزيد من تسعة أشهر بخمسة أشهر أخرى . وأذكر أيضا ساعة مخاضك و نفاسك
و أذكر كذلك لحظة شعرت بأول نفس ، و بأول ركلة ، و بأول نبض من حياتي يدب في ظلماتك الثلاث …، و أنك وضعتني بيسر ، و أن " مي صفية " هي التي جدبتني للوجود . بل و أذكر ما حدث قبل و بعد ذلك بكثير فما رأيك والدتي ؟؟ حقا لكم هو رائع أن تنجب الأمهات معلمين .
أيام قبل سفري حذرتني من أكل الطعام" البائت"، و من المرور بالأماكن المظلمة و ارتياد الأماكن المهجورة . أطمئنك و أخبرك في هذه الرسالة غير المرسلة إليك ، إن ابنك يقطن بمسكن لصيق بفرعية معزولة عن الدوار .محاط بمقبرة فسيحة و مطل على صهريج مهجور . و أن غذاؤه الدائم ما تبقى من عشاء البارحات …و أن العقارب و الكلاب و الزواحف باتت من اخلص أصدقائه و مؤنسيه
أمي ، لن أنسى يوم ودعتني بعينين دامعتين و قلب خافق متهدج : "سير أوليدي راك محضي و مرضي الوالدين ، سير ربي يسترك و يحفظك و ينجيك ، راك سالم غانم من شر الشيطان و بنادم " . و أحسست وقتها بخاتم الرضا يطبع على جبيني . كما استحضر كلما هممت باقتراف الفواحش نصيحتك الغالية برفق و دفء و حياء صوتك " ولدي خدم بنيتك و دير ثقتك فالله ، و ما تكمي ما تسكر ما تزني باش رجاكو رجاي يكون مقبول ." خاضع لحد كتابة هذه الأسطر لوصاياك الغالية . فقط ، اعلمي أنني لم اعد ذلك الجيلالي " الذي تعرفينه ، أشعر أن هزة نفسية ألمت بوجداني ، فقدت تلك الروح المرحة و تلك الابتسامة التي ما كانت لتفارق محياي .
أعدك أمي ،أنني لن" أكمي" و لن " أسكر " و لن " أزني " لكنني سأبكى و أحكي و أشكي سأكتب و اعترف و سأفضح كل التجاوزات ، كل الخروقات ، و كل التواطآت المحاكة ضد هذه الأقاليم المغربية المحافظة .سأفرغ حويصلات الأقسام من جثتها و ديدانها و سأمزق ستائر المدارة
حقا ، و أنا أعيش الأجواء الماجنة ، كشاهد عن كتب وسط معمعة عاهرة ، أقاوم رغبة جامحة في تجاوز نصائحك الغالية . فبين الحين ، و الحين ينتابني ضمأ كبير لسيجارة رخيصة ، و لكأس خمر رديء و لأنثى عاهرة ، أسترجع و إياهم لحظات الصخب و الانتشاء و اللذة . و أحيانا تغويني حتى الاستسلام رائحة دخان السجائر و الكحول و الجنس ، و تتحامل علي الجبال و الرجال و الغيوم ، فتذيقني ، متراكمة ، مرارة الحياة و شقاء غربة الوطن ، و تشجعني غير ما مرة هذه الظروف المعربدة على تجرع مرارة النبيذ ، لأمزج المرارتين علني أتذوق الحلاوة . لكنني أعود و استحضر وصاياك الثمينة فأعصم نفسي عن الوقوع في الرذيلة.
صعب جدا أماه ، أن يقضي الإنسان عقدين من حياته ، بين أحضان الأم و العائلة و المدينة بكل مقوماتها ، ليجد نفسه فجأة و دونما أدنى تهيئ نفسي لوسط قروي محض ، أو لنقل لبادية إحدى القرى ، و بتعبير أوضح لأبعد نقطة عن طريق ثانوية معبدة . فطام الحضارة لا يعادل فطام ينبوع أمومتك يا مجد الأمومة و يا فيض الرضا…
ميزة المدينة أن يومها ينسيك بارحتها ، و غدها سينسيك قطعا في أمسها .
بين الجبال أعيش يومي بذكرى البارحة و أتأكد أنني سأعيش غدي بأحداث أيامي الماضية خلاصة القول أن أيامي هنا متشابهة باستثناء يوم زارني المفتش ( … ) مفاهيم جديدة أمي ، اقتحمت قاموس حياتي ؛ الغربة الموخزة ، القسارة العامرة " القسارة الخاوية " " العشرة " " التقدية " " الكميلة" " الدكة " "الحكرة "… ما كنت والدتي العزيزة سأعيش هذه المفاهيم لحظات و هذه الأحاسيس جرعات زعاف لولا ولوجي سلك المتاعب النبيل .
قديما و كل قديم غير بعيد ، كنت أتألم على بعض السويعات المؤنسة ، و أتحسر عليها ، أعيشها و أحاول جاهدا الاستماع بها قدر الإمكان ، ليقيني أنها ستصبح ذكرى … ، الساعة ، اليوم و كل الأيام اللاحقة ، أنتظر بلهفة و ترقب كبيرين متى تصبح للذكرى بالرغم من انسيابها الحتمي.
الجرائد هنا ، طبعا جرائد البارحة أو قبل البارحة ، أستشف و أنا أتصفحها على نغمات صمت الجبال أنها دون مصداقية . الافتتاحيات، و الأعمدة الثابتة ، و الأخبار، و التحاليل ، تتجرد من مساحيق المدينة ، فتقرأ عارية مفضوحة ناشرة لغسيلها الوسخ. الأقلام السياسية و الصحفية ، يسقط قناعها ليكشف عن وجوهها المزيفة ، الكاريكاتورية ، الوصولية ، و المنافقة
أمي ، كنت قد أبديت رغبتك في مرافقتي ، أو زيارتي للاقتراب من أجوائي و أحوالي ، وللاطمئنان علي أكثر . لكنني ماطلتك و تهربت من رغبتك بحجة و بغيرها . أتعرفين لماذا ؟ لأنني لا أريدك أن تحملي صورة حزينة عن ابنك ، لا أريدك أن تنامي و كوابيس تلاحقك . أريدك فقط ، أن تقبلي ، كون ابنك مغترب ، داخل حدود وطنه ، من اجل وظيفة نبيلة محترمة ، و من أجل واجب إنساني وطني . ومن أجل دريهمات قليلة و كفى .
مطمئن عليك لأنني وفقت في أكاذيبي – سامحني الله – صورت لك حياتي نعيما و أنا القاطن بمسكن مغشوش البناء مطل على مقبرة للأموات .
ترجمت لك أيامي فردوسا ، و أنا الذي طالما حرم من وجبات رئيسية . أبلغتك راحتي و سعادتي و أنا من صارع لشهور طويلة خليطا من مشاعر السجين ، و اليتيم ، و المريض ، و المغتصب ، و المغدور ، و المفجوع ، و المرعوب و المهاجر المغترب …
ختاما أمي ؛
هي رسالة شخصية لك ، لكنها مفتوحة للقراءة لكل المعنيين بحقل التعليم و التربية ، و بحقل هذا الوطن
هي وثيقة إدانة في حق الدولة وهي صك اتهام في حق ديماغوجيينا .
هو نداء استغاثة عاجل من أطفال الجنوب . و هي لحظات اقتنصتها من صدق الواقع ، ومن صدق الذكرى و من قتامة الوضع . فتداركوا أيها المسؤولون جزاكم الله خيرا من أجل خير هذا الوطن و من أجل أطفال نفس الوطن …قبل أن يفوت الأوان و قبل أن يحتضر الأمل و يحتضر الوطن .
و أستودعك ، أمي ، الله الذي لا تضيع ودائعه .
ابنك البار


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.