"لا معنى لوجود حدود فاصلة بين شعبين شقيقين يلتفيان في كل شيء"، هكذا تحدث الفنان الجزائري الراحل "بوجمعة العنقيس"، في وثيقة صوتية من الوثائق النادرة التي يزخر بها أرشيف إذاعة طنجة، الذي يجعلها استثناءً بين مثيلاتها من الإذاعات الحديثة والقديمة، لما بَنَتْه من جسور للتواصل، عَبَرت من خلالها بين مختلف الأقطار المغاربية، والعربية، وكذا الدولية، وسافرت بالمستمع بدون جواز ولا تأشيرة في وطن لاحدود له، وفضاء لا لغة له، ومجال لا يعير أدنى اهتمام للجنس ولا العرق ولا اللغة. إنها الثقافة والفن بكل لغات العالم. والحقيقة أقول، أنني استمعت للوثيقة بكل تركيز، واستمتعت كثيرا وأنا أجلس بجانب معدها أستاذي وصديقي " عبد اللطيف بن يحيى"، وقد زاد سنه بواحد وعشرين سنة عن ذلك اليوم الذي حاور فية "بوجمعة العنقيس"، عبر الهاتف الذي يعبر الحدود من دون جواز السفر، في استجواب مطول ضمن برنامج "جذور". وكم كان اهتمامي كبيرا بهذا التسجيل الذي لن أتحدث عن تقنيات إنجازه في تلك الحقبة، وبالوسائل التي لا يعلمها سوى من مرّ بالاستوديوهات الإذاعية قبل دخول الكمبيوتر والأجهزة الإلكترونية. ولا عن كيفية حفظه في خزانة الإذاعة حتى بدا وكأنه سجل بالأمس، لولا المقدمة التي سبقت عرض الوثيقة. لكنني أحببت أن أتحدث عن تلك الرسائل التي مرت على مسمعي، وعن الفترة التي سجل وعرض فيها الحوار، والتي لم يكن من السهل الحديث فيها عن الجوار بين المغرب والجزائر، نظرا للجو المشحون الذي كان يسود العلاقة بين البلدين، إنها باختصار سنة القطيعة 1994. نذكر جيدا أن في تلك السنة بالضبط -1994- كانت الجزائر تعيش على وقع حرب على الجماعات المتطرفة المسلحة، التي اتخذت من الجبال قواعد لها، وقد دخلت في مواجهات مسلحة مع النظام الذي يحكمه رجالات العسكر، بعد توالي الأحداث، بدءاً من قرار الغاء الانتخابات التي حققت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ اكتساحا كبيرا للنتائج سنة 1991. ثم استقالة الرئيس "الشاذلي بن جديد" وما أحدثه من فراغ على مستوى رئاسة الدولة، فاغتيال الرئيس المعين " محمد بوضياف" في عملية جرت على الجزائر سنوات من الدم والرصاص.... ليحل شهر غشت، وتقرر الجزائر إغلاق حدودها البرية مع المغرب، ردا على قرار الرباط فرض تأشيرة الدخول إلى أراضيه على الجزائريين، بعد توجيهها اتهاما للمخابرات الجزائرية بالوقوف وراء الهجوم الإرهابي على فندق “أطلس إسني” بمراكش، والذي أسفر عن مقتل ثلاثة سائحين أجانب، حينما أفادت التحقيقات أن منفذي العملية لم يكونوا سوى ثلاثة فرنسيِين من أصول جزائرية. كل هذه الأحداث وغيرها تناثرت من ذاكرتي وأنا أستمع إلى الوثيقة المذكورة، وهنا أحسست بقيمتها المادية والمعنوية، فقد أعادتني عقدين إلى الوراء، ونشطت بذلك ذاكرتي التي ما إن التقطت أذناي عبارة الحدود المغلقة، حتى صارت تجول بين وقائع عايشتها كما عايشها غيري ممن تابعوا أطوار الحادث الإرهابي، الذي لازال الشعبين المغربي والجزائري يعانيان من تداعياته بوجود هذه الحدود اللعينة، التي تفرق بين الأخ وأخيه، والأب وابنه، والزوج وزوجه... عندما تحدث "بوجمعة العنقيس" عن هذه الحدود المغلقة، في تلك الوثيقة الثمينة والنادرة، وفي ذلك العام بالضبط، أكد بما لا يدع مجالا للشك أن الفنان، والمثقف، إن لم أقل أن الشعبين معا بكل مكوناتهما، غير معنيَين بمثل هكذا قرارات سياسية تفرض التفرقة بين الأشقاء. بل وبعث برسائل واضحة إلى الضمير الغائب، مؤكداً أن مثل هذه القرارات لن تقف حجر عثرة في طريق التواصل والتلاقح الثقافي بين مكونات البلدين، وإنما هي دافع آخر لبحث سبل الالتقاء والارتقاء بمستوى العلاقات التي تتقوى عبر مختلف المحطات والمنابر، وقد كان لإذاعة طنجة السبق في خلق هذا الحدث في وقت أقل ما يقال عنه أنه كان صعبا للغاية، كما خلقت الحدث الخميس الماضي حينما خصصت حلقة كاملة لفنان مغاربي كبير، غادر في صمت غريب، وكأنه يؤكد أنه لا ينتمي لمن يغلقون حدودهم، ويقطعون أرحامهم. رحم الله بوجمعة العنقيس، وعسى أن تجد رسائله آذانا تلتقطها، بعد أن قضت عقدين من الزمن في أرشيف إذاعي، نعلم أنه يُغْني الذاكرة، ويوثق للتاريخ.