قبل رحيله بأقل من سنة، كنت أزوره في بيته الرحب الشاسع الكائن بحومة الزيتونة، وهو البيت الذي سكنه قبله الشيخ محمد بن الصديق الغماري، مؤسس الزاوية الصديقية الدرقاوية. وكان عند كل زيارة يستقبلني بانتشاء وفرح في الطابق العلوي الذي تطل نوافذه الخشبية القديمة على بحر سيدي بوقنادل والحاجز الوقائي للميناء،ويشرع في سرد ما تختزنه ذاكرته من ذكريات عن الوضع الثقافي والفني والاجتماعي لمدينة طنجة خلال مرحلة العشرينات إلى حين حصول المغرب على الاستقلال ونهاية الوضعية الدولية لطنجة. وكان رحمه الله-وهو يسرد هذه الذكريات- يضع رُزَماً من الأوراق والجرائد القديمة التي كان ينشر بها مقالاته الأدبية، ومن بينها تلك التي كان ينتقد فيها الأستاذ العالم المؤرخ الأديب عبد الله كنون، ولم يكن يتردد في انتقاداته للرجل حتى وهو على مشارف التسعين من عمره،قبل رحيله بسنة أو أقل. وعند زيارتي الأخيرة للمسرحي الرائد محمد الحداد، وجدته يتهيأ للخروج وتحت إبطه قُفَّتُهُ القديمة ملتصقة المَنْكِبَين وهو يغالب ضوء النهار بعينيه المُعَمَّشَتَيْن الواهنتين وخطواته الوئيدة المتعبة، معتمدا عصا يدب بها،وربما كانت لها مآرب أخرى في الزمن الغابر. وطلب مني أن أرافقه إلى سوق السمك، لرغبته في أن يكون غذاؤه(تَكْرَة) بسمك تونينة التي أصبحت نادرة كحال سمك الشابل الذي انتهى وانقرض. وقبل ولوجنا سوق السمك(البلاصا د الحوت)، استبدت به رغبة تفقُّد بناية مسرح سيرفانطيس الذي انقطعت صلته به منذ حوالي خمسين سنة، وربما راودته هذه الرغبة لأن المسرح لا يبعد عن سوق السمك إلا ببضع مئات من الأمتار. وهكذا انحدرنا في اتجاه المسرح وهو يدب دبيبا خفيفا معتمدا عصاه، ويتأبط دراعي بعد أن أخذت قفته وجعلتها تحت إبطي الأيمن. وكان-ونحن على مشارف المسرح- يسترجع بفرح غامر بعض ذكرياته المشرقة عن الدور الذي أسهم به هذا الصرح الفني في إنعاش الحركة المسرحية والموسيقية والغنائية والاستعراضية. لكن هذا الفرح سرعان ما تحول إلى ألم أعقبه صمت وانفلات دموع من مآقي العينين المعمشتين الواهنتين لمحمد الحداد، لعله لم يَدُر في خَلَده قط أن تكون بناية المسرح على هذه الحالة المزرية من الخراب والإهمال والدمار. وقد تَعَمَّق الألم أكثر في قلب محمد الحداد عندما طلب مني الدخول إلى الخشبة من بوابات كواليس الجهة اليسرى للمسرح، وكنت أخشى عليه أن تتعثر رجلاه أو عصاه على أرضية خشبية هشة متداعية، لكنه تحامل، ووقف مثل فارس هندي مهزوم،يتأمل مشدوها-بعد أن تخلصت يده من إبطي- الكراسي المحطمة المتراكمة والمقصورات المخربة، ويلتفت إلى ستارة الخشبة التي كانت من بين أجمل وأرقى ستائر المسارح العالمية. ثم تأبط دراعي، وطلب مني أن نغادر هذا الخراب وهو يتمتم: حرام عليكوم. ودخلنا إلى (البلاصا د الحوت)، حيث كان حظه سيئا معها، لأننا بحثنا عن تونينة فلم نجد لها أثرا، فَعَوَّضها بكيلوغرام من الساردا(بنت البلاد) من الحوات ذي الرِّجل الخشبية الملقب ب المَرَّاخو والذي تعود محمد الحداد أن يشتري منه السمك. وفي طريقنا إلى بيته بحومة الزيتونة، مرورا ب (العقبة د الفرانسيس) والسقاية وساحة أمراح، وَدَّعته، وكم ألح علي أن أتقاسم معه غذاءه، لكنني اعتذرت وأنا أعانقه وأُقبِّل رأسه الصغير وأتمنى له العافية وطول العمر. وبعد غيبة دامت شهرا أو أقل من شهر، وصلني خبر رحيله رحمة الله عليه. وقد تذكرت المرحوم محمد الحداد وأنا أسترجع ما كان يحكيه لي خاي احمد أَوْ أَوْ من ذكريات عن مسرح سيرفانطيس وعن محمد الحداد وجمعيتي الهلال والمُغرب، ويؤكد لي أنه كان يتفنن في تهييء فنجان الشاي الأخضر المنعنع بزهر النارنج للسي محمد الذي ينعته ب : السي محمد أَنْ أَرْطِيسْطَا أْبِيرْ. * اعلامي وشاعر