اللوم الفضفاض للأحزاب السياسية على ضعفها وأدائها الباهت، ودون إرجاع الأسباب في هوانها إلى المسببات، وإيقاف عجلة البحث عن الخلل في دائرتها، يعد أقرب إلى انخراط مجاني في مخطط المخزن القديم/ الجديد، في محاولاته المستمرة في إضعاف مختلف القوى المجتمعية، وتبيان عدم رشدها وعدم أهليتها لقيادة أي مشروع مجتمعي، أو تقديم أي خيار ثالث يقود التغيير ويثبت وجود بدائل على التدبير المرتبك لمختلف القطاعات والأوراش والمشاريع، وبالتالي إثبات ضرورة بقاء كل المفاتيح في يد وزارة الداخلية وبينها وبين القصر. وما لا يمكن أن تخفيه المحاكمات الغيابية للأحزاب السياسية التي تجري على أعمدة الجرائد وعلى القنوات التلفزية، ولا يمكن أن تحجبه بغرابيلها هو أن لوزارة الداخلية يد طولى في إضعاف هذه الأحزاب ، إبان سياسة تقسيم المقسم وتجزيء المجزأ، واستطاع من خلالها “المخزن” إجراء تغيير في منظومة الأحزاب السياسية بتحويلها من حركات اجتماعية آخذة في التجذر الشعبي، إلى أحزاب سياسة تنحصر وظيفتها بالتدرج بقدر تعرضها للتحجيم، والمستمرة حتى في حاضرنا، بطرق مختلفة، وبالتالي صناعة “نخبة” على المقاس الذي تريده الدولة وتترجاه، يتضمن سربا من المصفقين والمشجعين الذين لا يرددون خلف سياسة الدولة إلا سلاما، تحركهم بأدواتها البالية التي تعود إلى العصور الحجرية، ففي أي الديمقراطيات في العالم يمكن أن يحشر المستشارون في مدشر حتى تتشكل المجالس “المنتخبة”؟ ومن العبث تصور أحزاب سياسية قوية في ظل نظام سياسي فاسد، تغيب فيه أبسط الأسس الديمقراطية، وترعى فيه الدولة بأياديها كل شيء، حتى تشكيل مكاتب تسيير أبسط جماعة في إقليم يوجد بالمنفى، والحال أن احترام الأحزاب السياسية للشعب وللمواطن أمر محتوم لو كانت تعيش في ظل نظام ديمقراطي، تلعب فيه محكمة دستورية عليا دور الرقيب على النزاهة والديمقراطية الداخليتين، كما هو حاصل في ألمانيا ودول ديمقراطية أخرى، والتي تعتبر أن الحزب الذي تغيب فيه الديمقراطية والنزاهة الداخليتين، يشكل خطرا على النظام الديمقراطي للبلد، فيسمح للحكومة بتقديم طلب مسؤول بحل الحزب للمحكمة الدستورية العليا. والجاري فعلا، أن الإعلام الرسمي، ومعه من يرددون الأسطوانة المشروخة عن الأحزاب وهوانها وضعف أدائها، يصرفون النقاش عن صلبه الفعلي والحقيقي، إذ عوض أن يناقش النسق السياسي الذي أفرزت وضعيتها الحالية باعتبارها نتيجة لمجموعة من الأسباب، يصرف النظر إلى طبيعة الأداء وعدد الأحزاب السياسية… والحال أن الأداء لا يمكن أن يتم في ظل عدم إقرار نظام ديمقراطي، وفصل تام للسلط، ومنح الأحزاب السياسية مساحة التحرك وإثبات قدرتها على تنفيذ برامجها من عدمه، وبالتالي جاز للناخبين محاكمة الفشل بالمقاطعة، أو بالتصويت لصالح أحزاب أخرى، أما الارتكان إلى “عيوب العدد” فأمر مردود على أصحابه، ذلك أن أعتى الأنظمة الديمقراطية تتوفر على العشرات من الأحزاب السياسية، ونظامها الديمقراطي فقط هو الكفيل بإفراز الصالح من الطالح في قيادة مشروع سياسي. إن الوهن السياسي الحالي نتيجة طبيعية لنصف قرن من المعارك السياسية الجوفاء، تجعل النقاش جذريا يضرب في عمق النسق السياسي بشكل كلي، بدءا من ترسانته القانونية وانتهاء عند مؤسساته و”أحزابه” وآلياته الديمقراطية كالانتخابات، ويخرج بنتيجة مفادها أن الأمل المفقود لا يكمن بالضرورية في الأماكن التي نبحث فيها، بل في مَوَاطن أخرى، وفي غياب إرادة حقيقية لدى العقول المدبرة في القصر ومحيطه والأجهزة التنفيذية، وشئنا ام أبينا تستمر الفوضى والضبابية في النقاش والتحليل، حالما نجد دار لقمان تتوفر على مقاومة شديدة للبقاء على حالها، لا تقودها الأحزاب السياسية، بل تدبر في الدوائر العليا، تحاصر حزبا وتدفع بآخر. فتُناقض الدولة نفسَها إذن، بين الخطاب السياسي للقصر، ورفعه لسقف التطلعات في تمديد هامش اشتغال الأحزاب، أحيانا، وبين التدبير الذي تقوم به الأجهزة التابعة كوزارة الداخلية، باستمرار تحكمها في الأمور بذات الطريقة، وللمثال لا الحصر، توفر الانتخابات مؤشرات دالة على ذات التدبير، تتحكم وزارة الداخلية في اللوائح وفي التقطيع الإنتخابي وتحدد العتبة، بل وتحاول لزم الأحزاب السياسية بميثاق شرف تلجمها عن الحديث عن أي اختلالات متوقعة، أو بما معناه توقيع شيك على بياض، ويشرف شخص مقرب من الملك على تشكيل تحالف انتخابي يضم ثمانية “أحزاب”. ونتيجة لذلك، ونحن على مرمى حجر من الانتخابات، يمكن الجزم، بداية ونهاية، أن ثوب الأحزاب السياسية لا يثبت براءتها ، بأي حال من الأحوال، ومساهمتها في ما وصلته الأمور من وهن، فهي الجانية والمجني عليها في ذات الآن، لكن ذلك لا يعني في ذات الآن صرف النقاش عن الإشكالات الحقيقية التي يعاني منها المغرب في ظل استشراء الفساد السياسي، وتغييب أي إرادة في تخليق الحياة العامة بما فيها الشأن السياسي، وفي المقابل تعمل آلة الجحيم على تحويل الجدل إلى صراع بين الشعب والأحزاب، عوض موطنه الفعلي وهو أن يكون بين الشعب والدولة بأجهزتها وجحافلها المؤيدة والداعمة للفساد وبقائه.