مجلس الشيوخ الفرنسي يحتفل بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء المظفرة    الوداد يعود بانتصار ثمين من آسفي    "أونسا" ترد على الإشاعات وتؤكد سلامة زيت الزيتون العائدة من بلجيكا    قنصلية المملكة بكورسيكا تحتفي بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء    ست ورشات مسرحية تبهج عشرات التلاميذ بمدارس عمالة المضيق وتصالحهم مع أبو الفنون    الدار البيضاء تحتفي بالإبداع الرقمي الفرنسي في الدورة 31 للمهرجان الدولي لفن الفيديو    نصف نهائي العاب التضامن الإسلامي.. تشكيلة المنتخب الوطني لكرة القدم داخل القاعة أمام السعودية    المنتخب المغربي الرديف ..توجيه الدعوة ل29 لاعبا للدخول في تجمع مغلق استعدادا لنهائيات كأس العرب (قطر 2025)    كرة القدم ..المباراة الودية بين المنتخب المغربي ونظيره الموزمبيقى تجرى بشبابيك مغلقة (اللجنة المنظمة )    بعد فراره… مطالب حقوقية بالتحقيق مع راهب متهم بالاعتداء الجنسي على قاصرين لاجئين بالدار البيضاء    أيت بودلال يعوض أكرد في المنتخب    أسيدون يوارى الثرى بالمقبرة اليهودية.. والعلم الفلسطيني يرافقه إلى القبر    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    توقيف مسؤول بمجلس جهة فاس مكناس للتحقيق في قضية الاتجار الدولي بالمخدرات    تتويج إسباني وبرتغالية في الدوري الأوروبي للناشئين في ركوب الموج بتغازوت    بأعلام فلسطين والكوفيات.. عشرات النشطاء الحقوقيين والمناهضين للتطبيع يشيعون جنازة المناضل سيون أسيدون    بين ليلة وضحاها.. المغرب يوجه لأعدائه الضربة القاضية بلغة السلام    حصيلة ضحايا غزة تبلغ 69176 قتيلا    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الإثنين    مديرة مكتب التكوين المهني تشتكي عرقلة وزارة التشغيل لمشاريع مدن المهن والكفاءات التي أطلقها الملك محمد السادس    عمر هلال: اعتراف ترامب غيّر مسار قضية الصحراء، والمغرب يمد يده لمصالحة صادقة مع الجزائر    الكلمة التحليلية في زمن التوتر والاحتقان    الرئيس السوري أحمد الشرع يبدأ زيارة رسمية غير مسبوقة إلى الولايات المتحدة    أولمبيك الدشيرة يقسو على حسنية أكادير في ديربي سوس    التجمع الوطني للأحرار بسوس ماسة يتفاعل مع القرار التاريخي لمجلس الأمن حول الصحراء المغربية    مقتل ثلاثة أشخاص وجرح آخرين في غارات إسرائيلية على جنوب لبنان    دراسة أمريكية: المعرفة عبر الذكاء الاصطناعي أقل عمقًا وأضعف تأثيرًا    إنفانتينو: أداء المنتخبات الوطنية المغربية هو ثمرة عمل استثنائي    "حماس" تعلن العثور على جثة غولدين    النفق البحري المغربي الإسباني.. مشروع القرن يقترب من الواقع للربط بين إفريقيا وأوروبا    درك سيدي علال التازي ينجح في حجز سيارة محملة بالمخدرات    الأمواج العاتية تودي بحياة ثلاثة أشخاص في جزيرة تينيريفي الإسبانية    فرنسا.. فتح تحقيق في تهديد إرهابي يشمل أحد المشاركين في هجمات باريس الدامية للعام 2015    لفتيت يشرف على تنصيب امحمد العطفاوي واليا لجهة الشرق    الطالبي العلمي يكشف حصيلة السنة التشريعية    ميزانية مجلس النواب لسنة 2026: كلفة النائب تتجاوز 1.59 مليون درهم سنوياً    تقرير: سباق تطوير الذكاء الاصطناعي في 2025 يصطدم بغياب "مقياس ذكاء" موثوق    بنكيران: النظام الملكي في المغرب هو الأفضل في العالم العربي    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    إسبانيا تشارك في المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب بالدار البيضاء    "أونسا" يؤكد سلامة زيت الزيتون    "يونيسيف" ضيفا للشرف.. بنسعيد يفتتح المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب    بيليم.. بنعلي تقدم النسخة الثالثة للمساهمة المحددة وطنيا وتدعو إلى ميثاق جديد للثقة المناخية    مخاوف برلمانية من شيخوخة سكانية بعد تراجع معدل الخصوبة بالمغرب    تعليق الرحلات الجوية بمطار الشريف الإدريسي بالحسيمة بسبب تدريبات عسكرية    الداخلة ترسي دعائم قطب نموذجي في الصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي    مهرجان الدوحة السينمائي يعرض إبداعات المواهب المحلية في برنامج "صُنع في قطر" من خلال عشر قصص آسرة    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    اتصالات المغرب تفعل شبكة الجيل الخامس.. رافعة أساسية للتحول الرقمي    الأحمر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    فرحة كبيرة لأسامة رمزي وزوجته أميرة بعد قدوم طفلتهما الأولى    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    الوجبات السائلة .. عناصر غذائية وعيوب حاضرة    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مطارحات نقدية أولية حول القصيدة العباسية
نشر في طنجة الأدبية يوم 05 - 02 - 2011


1. أحكام متلدة وطرح طريف:
تكاد تتفق جل الدراسات التي قاربت الحياة الأدبية في العصر العباسي حول نفس المهيع الذي سلكته، ألا وهو التقوقع حول هذا العصر ومحاولة عزله زمانيا (132 – 656ه) وتبيان ما كان فيها من توسع في العمران وخروج من حياة البدو إلى بهرجة الحضارة، وما صاحب هذا كله من قلاقل وتشذرات في الحكم ومناوءات حول السلطة مخصصين كل مرحلة على حدة بأدباء وشعراء وسموها بل يذهبون أبعد من ذلك عندما يعتبرون أن كل مرحلة من مراحل الحكم العباسي لها خصائصها الفنية ومياسمها الجمالية المحددة، وأن الحياة – في كل أبعادها – قد عرفت في هذه المرحلة تطورا جذريا سواء من حيث المظاهر الاجتماعية والاقتصادية والفكرية (التأثير الهيليني، المثقافة، بداية الجمع والتدوين في اللغة والعلوم، انتشار الفرق الكلامية والمذاهب العقلية...) مدعين أن كل هذه العوامل قمينة بأن تحول مسار التجربة الشعرية وتعدل فيه وكأن الأدب رهين بالتحولات السياسية، كلما ازدهرت هذه الأخيرة ازدهر، وكلما اندحرت تردى واندحر، وهي فكرة لا يلوكها العقل ولا يقرها النقل؛ وذلك من جهتين: الأولى يمثلها التساؤل الإشكالي الآتي الذي يطرح نفسه بقوة: كيف بيوم واحد يفصل بين دولة / سياسية ودولة أخرى أن يحدث تغييرا في الحياة الأدبية والفكرية ؟؟؟ ونحن نعلم أن التغيير مشروع يحتاج إلى عقود كي يتبلور ويتحقق، والثانية تستند على بعض المنجزات الفكرية في حقلي البلاغة والنقد الأدبيين وما تنماز به من بذاخة وسموق في عصر نعت بالانحطاط، بله ننظر في مرحلة التأسيس التي شكلتها النصوص الشعرية اللجية الجمال والإسار والتي كتبت في مرحلة لم تعرف الإستقرار والدعة قط، وكانت قائمة على الترحال الدائم بحثا عن الماء والكلأ مغبة غبشة مهامه الصحراء ومفاوزها المقفرة، ومغبة الموت المحذق ذات اليمين وذات الشمال بفعل كثرة الإغارات والحروب من جهة، وما يسد به غائلة الطوى والمسغبة من جهة أخرى.
وقد شكلت هذه الأفكار سندا اعتمده دعاة التأصيل للحداثة في تأكيد الفكرة القائلة بأن شعراء المرحلة العباسية مثلوا خروجا عن المألوف والنموذج الشعري التأسيسي، وأسسوا بذلك لنموذج شعري قوامه؛ التصنع في اللفظ، وطلاوة التعبير، وخلق بدائل موضوعية / تيمائية جديدة عوض المقدمة الطللية. لكن هذا الرأي سرعان ما يخر متهاويا عندما نعود لتلك النصوص التي بقيت على حالها لم يمسسها تغير لا من حيث الشكل ولا المضمون، اللهم تلك الإضافات اليسيرة التي فرضتها روح العصر؛ والمتمثلة في الإغراق في استعمال المساحيق البديعية والتنميقات البلاغية، وفي محاولة طرح بدائل جديدة؛ خاصة ما لمسناه في محاولة أبي نواس وبشار من طرح بديل جديد عن المقدمة النسيبية، ومرد ذلك أن كليهما كان يعيش مشاكل اجتماعية ونفسية صعبة، دفعتهما إلى طرح تلك البدائل، حتى يتسنى لهما إثبات الذات ونيل الحظوة المفقودة، لكن سرعان ما فشلوا في ذلك وعادوا إلى النموذج الأسمى الذي يشكل الطلل ديدنه الشعري.
من هنا يتضح لنا بجلاء أن القصيدة العربية واحدة على مر العصور لم يطلها أي تغيير ولا تبديل، يقول الدكتور عز الدين إسماعيل: « وهكذا ظل الإطار العام القديم، هو نفس الإطار لدى أبي نواس، أما التغيير فقد حدث في التفصيلات التي ملأ بها هذا الإطار» .
ويقول أيضا: « على الرغم من كل ما طرأ على المجتمع العباسي من تغير وتطور، ظلت المجالات الموضوعية التي عرفت للشعر من قبل قائمة ومستمرة، فالمدح والرثاء والهجاء والغزل والوصف والمجون والزهد، كلها ظلت مجالات للإبداع الشعري في ذلك العصر » .
أما الأستاذ محمد نجيب البهيتي فيقول: « ومن هنا بقي الاستفتاح التقليدي في ميزان التقديم أثقل وأرجح واتصل بقاؤه، ومن هنا لم يجد أبو نواس نفسه قادرا على أن يسير سيرته في هجر هذا الباب في جمع قصائده » .
فدونكها الأبيات الآتية – خاصة في مدائحه - :
ألاحي أطلال الرسوم الطواسما عفت غير سفع كالحمام وجواتما
أربع البلا إن الخشوع لباد عليك، وإني لم أخنك ودادي
فإذا تأملنا البيتين نلفي أبا نواس واقفا بباب الطلل يطلب وصاله ومسامحته، بعدما تأكد بأنه طلسم وجودي يسم حياة الشاعر، فالوقوف عنده بمثابة مثير للذات الشاعرة التي تحاول أن يعطيها الشعر قياده من جهة. ومحاولة لشد انتباه المتلقي واستمالة عواطفه من جهة أخرى؛ يقول ابن رشيق: « (-) افتتاح القصائد بالنسيب، لما فيه من عطف القلوب واستدعاء القبول بحسب ما في الطباع من حب الغزل » .
2. في وحدة القصيدة:
من المسلم به أن القصيدة الشعرية دفقة شعورية حاصلة في زمان ومكان محددين وغير قابلة للتكرار، لكن تذهب بعض الدراسات إلى فكرة مؤداها؛ تشذر أوصال القصيدة (المرأة، الخمرة، الناقة، المدح...) دون وعي بأن الشاعر حينما يعرج على الطلل يبكيه والرسم الدارس يشجيه والخمرة المعتقة تغريه والناقة التي تبهره والفرس الذي يسحره، إنما يوالف بين هذه الدرر في سلك رفيعة لا يعرفها إلا انقاد الذواقة للشعر، كما أنه يحاول (الشاعر) تهييء نفسه للقول الشعري، وتهييء متلقيه لتقبله، وحسبك من ذلك كعب بن زهير الذي أتى طالبا عفو رسول الله المأمول، فوجد نفسه يصف سعدى، وهنا تحضر أبرز مظاهر اللاوعي الذي يصاحب عملية نظم القريض، ومن تم يشرع لنا القول؛ إن تلك البنيات هي عناصر مختزلة في الضمير الجمعي الشعري العربي، أو لنقل بمثابة حالة من التوثب الوجداني والاستعداد الفطري للقول الشعري.
3. مواضيع الشعر واحدة لا تتغير:
اختلفت وتباينت تحديدات أغراض ومواضيع الشعر بين العرب القدماء، فمنهم من حصرها في سبعة أغراض (أبو العباس ثعلب) ومنهم من حصرها في ستة أغراض (قدامى بن جعفر وأبو هلال العسكري). بينما حصرها ابن رشيق القيرواني في عشرة أغراض، ومر هذا الاختلاف إلى كثرة التصنيفات واختلاف المقاييس والضوابط، وتباين المنطلقات مما أدى إلى تباين النتائج، لكن من خلال استقراء المتون الشعرية واستقطار ذاكرتها، يتبدى جليا أن مواضيع الشعر لا تخرج عن النسيب والوصف المرتبط بحالة الطرب، والهجاء اللصيق بالغضب والمديح المرتبط بالرغبة والاستجداء والاستعطاف المصاحب للرهبة.
وتجدر الإشارة أن جوهر الشعر كله؛ المدح وأن كل المواضيع الأخرى تنطلق منه أو تنبثق عنه وذلك لدلائل هي:
‌أ. عندما يفتخرالشاعر بنفسه وعشيرته؛ فإنه يمدح نفسه وعشيرته بذكر الأمجاد والمناقب.
‌ب. عندما يتشبب بامرأة متغزلا؛ فإنه يمدح جانب الفحولة منه ويبئر عليه.
‌ج. عندما يهجو شخصا ما؛ فإنه في هجائه له يفخر ضمنيا بذاته ويعلي من مرتبة نفسه.
‌د. عندما يمدح خليفة أو أميرا؛ فإنه يبطن ذلك مدح ذاته، ويمدحها من خلال الممدوح.
‌ه. عندما يرثي أحدا ما، فذاك مدح لخلاله النبيلة.
وإذا ما عدنا إلى مرحلة التأسيس نلفي أن القصيدة العربية الواحدة تحبل بعدة أغراض – وهذا لا يعني تشذرها – وأن كل غرض يخصص له حيز شعري معين، حالما ينتهي يبدأ غرضا آخر، دون أن نعي هذا الانتقال الغرضي ودونما إساءة أو تشويه للقصيدة، وهذا ما يسميه النقاد ببراعة أو حسن التخلص. في حين أن أفردت القصيدة في المرحلة العباسية لغرض واحد، وهذا مكمن ادعاء التحول وبداية الحداثة الشعرية في نظر بعض الدارسين؛ الذين غاب عنهم أن هذا الإفراد الغرضي ليس سوى تمطيط للقصيدة التأسيسية القديمة، والاكتفاء بموضوع واحد ووحيد والتفصيل فيه شعرا. وهنا يطالعنا السؤال الآتي: من هو أشعر وأحق بصفة الفحولة؟ هل شاعر مرحلة التأسيس الذي كان يعوج على مواضيع كثيرة في قصيدة واحدة في انسلاك جمالي تام وإسار شعري بارع؟ أم الشاعر العباسي الذي اكتفى بالنظم في موضوع وحيد؟
1. أحكام متلدة وطرح طريف:
تكاد تتفق جل الدراسات التي قاربت الحياة الأدبية في العصر العباسي حول نفس المهيع الذي سلكته، ألا وهو التقوقع حول هذا العصر ومحاولة عزله زمانيا (132 – 656ه) وتبيان ما كان فيها من توسع في العمران وخروج من حياة البدو إلى بهرجة الحضارة، وما صاحب هذا كله من قلاقل وتشذرات في الحكم ومناوءات حول السلطة مخصصين كل مرحلة على حدة بأدباء وشعراء وسموها بل يذهبون أبعد من ذلك عندما يعتبرون أن كل مرحلة من مراحل الحكم العباسي لها خصائصها الفنية ومياسمها الجمالية المحددة، وأن الحياة – في كل أبعادها – قد عرفت في هذه المرحلة تطورا جذريا سواء من حيث المظاهر الاجتماعية والاقتصادية والفكرية (التأثير الهيليني، المثقافة، بداية الجمع والتدوين في اللغة والعلوم، انتشار الفرق الكلامية والمذاهب العقلية...) مدعين أن كل هذه العوامل قمينة بأن تحول مسار التجربة الشعرية وتعدل فيه وكأن الأدب رهين بالتحولات السياسية، كلما ازدهرت هذه الأخيرة ازدهر، وكلما اندحرت تردى واندحر، وهي فكرة لا يلوكها العقل ولا يقرها النقل؛ وذلك من جهتين: الأولى يمثلها التساؤل الإشكالي الآتي الذي يطرح نفسه بقوة: كيف بيوم واحد يفصل بين دولة / سياسية ودولة أخرى أن يحدث تغييرا في الحياة الأدبية والفكرية ؟؟؟ ونحن نعلم أن التغيير مشروع يحتاج إلى عقود كي يتبلور ويتحقق، والثانية تستند على بعض المنجزات الفكرية في حقلي البلاغة والنقد الأدبيين وما تنماز به من بذاخة وسموق في عصر نعت بالانحطاط، بله ننظر في مرحلة التأسيس التي شكلتها النصوص الشعرية اللجية الجمال والإسار والتي كتبت في مرحلة لم تعرف الإستقرار والدعة قط، وكانت قائمة على الترحال الدائم بحثا عن الماء والكلأ مغبة غبشة مهامه الصحراء ومفاوزها المقفرة، ومغبة الموت المحذق ذات اليمين وذات الشمال بفعل كثرة الإغارات والحروب من جهة، وما يسد به غائلة الطوى والمسغبة من جهة أخرى.
وقد شكلت هذه الأفكار سندا اعتمده دعاة التأصيل للحداثة في تأكيد الفكرة القائلة بأن شعراء المرحلة العباسية مثلوا خروجا عن المألوف والنموذج الشعري التأسيسي، وأسسوا بذلك لنموذج شعري قوامه؛ التصنع في اللفظ، وطلاوة التعبير، وخلق بدائل موضوعية / تيمائية جديدة عوض المقدمة الطللية. لكن هذا الرأي سرعان ما يخر متهاويا عندما نعود لتلك النصوص التي بقيت على حالها لم يمسسها تغير لا من حيث الشكل ولا المضمون، اللهم تلك الإضافات اليسيرة التي فرضتها روح العصر؛ والمتمثلة في الإغراق في استعمال المساحيق البديعية والتنميقات البلاغية، وفي محاولة طرح بدائل جديدة؛ خاصة ما لمسناه في محاولة أبي نواس وبشار من طرح بديل جديد عن المقدمة النسيبية، ومرد ذلك أن كليهما كان يعيش مشاكل اجتماعية ونفسية صعبة، دفعتهما إلى طرح تلك البدائل، حتى يتسنى لهما إثبات الذات ونيل الحظوة المفقودة، لكن سرعان ما فشلوا في ذلك وعادوا إلى النموذج الأسمى الذي يشكل الطلل ديدنه الشعري.
من هنا يتضح لنا بجلاء أن القصيدة العربية واحدة على مر العصور لم يطلها أي تغيير ولا تبديل، يقول الدكتور عز الدين إسماعيل: « وهكذا ظل الإطار العام القديم، هو نفس الإطار لدى أبي نواس، أما التغيير فقد حدث في التفصيلات التي ملأ بها هذا الإطار» .
ويقول أيضا: « على الرغم من كل ما طرأ على المجتمع العباسي من تغير وتطور، ظلت المجالات الموضوعية التي عرفت للشعر من قبل قائمة ومستمرة، فالمدح والرثاء والهجاء والغزل والوصف والمجون والزهد، كلها ظلت مجالات للإبداع الشعري في ذلك العصر » .
أما الأستاذ محمد نجيب البهيتي فيقول: « ومن هنا بقي الاستفتاح التقليدي في ميزان التقديم أثقل وأرجح واتصل بقاؤه، ومن هنا لم يجد أبو نواس نفسه قادرا على أن يسير سيرته في هجر هذا الباب في جمع قصائده » .
فدونكها الأبيات الآتية – خاصة في مدائحه - :
ألاحي أطلال الرسوم الطواسما عفت غير سفع كالحمام وجواتما
أربع البلا إن الخشوع لباد عليك، وإني لم أخنك ودادي
فإذا تأملنا البيتين نلفي أبا نواس واقفا بباب الطلل يطلب وصاله ومسامحته، بعدما تأكد بأنه طلسم وجودي يسم حياة الشاعر، فالوقوف عنده بمثابة مثير للذات الشاعرة التي تحاول أن يعطيها الشعر قياده من جهة. ومحاولة لشد انتباه المتلقي واستمالة عواطفه من جهة أخرى؛ يقول ابن رشيق: « (-) افتتاح القصائد بالنسيب، لما فيه من عطف القلوب واستدعاء القبول بحسب ما في الطباع من حب الغزل » .
2. في وحدة القصيدة:
من المسلم به أن القصيدة الشعرية دفقة شعورية حاصلة في زمان ومكان محددين وغير قابلة للتكرار، لكن تذهب بعض الدراسات إلى فكرة مؤداها؛ تشذر أوصال القصيدة (المرأة، الخمرة، الناقة، المدح...) دون وعي بأن الشاعر حينما يعرج على الطلل يبكيه والرسم الدارس يشجيه والخمرة المعتقة تغريه والناقة التي تبهره والفرس الذي يسحره، إنما يوالف بين هذه الدرر في سلك رفيعة لا يعرفها إلا انقاد الذواقة للشعر، كما أنه يحاول (الشاعر) تهييء نفسه للقول الشعري، وتهييء متلقيه لتقبله، وحسبك من ذلك كعب بن زهير الذي أتى طالبا عفو رسول الله المأمول، فوجد نفسه يصف سعدى، وهنا تحضر أبرز مظاهر اللاوعي الذي يصاحب عملية نظم القريض، ومن تم يشرع لنا القول؛ إن تلك البنيات هي عناصر مختزلة في الضمير الجمعي الشعري العربي، أو لنقل بمثابة حالة من التوثب الوجداني والاستعداد الفطري للقول الشعري.
3. مواضيع الشعر واحدة لا تتغير:
اختلفت وتباينت تحديدات أغراض ومواضيع الشعر بين العرب القدماء، فمنهم من حصرها في سبعة أغراض (أبو العباس ثعلب) ومنهم من حصرها في ستة أغراض (قدامى بن جعفر وأبو هلال العسكري). بينما حصرها ابن رشيق القيرواني في عشرة أغراض، ومر هذا الاختلاف إلى كثرة التصنيفات واختلاف المقاييس والضوابط، وتباين المنطلقات مما أدى إلى تباين النتائج، لكن من خلال استقراء المتون الشعرية واستقطار ذاكرتها، يتبدى جليا أن مواضيع الشعر لا تخرج عن النسيب والوصف المرتبط بحالة الطرب، والهجاء اللصيق بالغضب والمديح المرتبط بالرغبة والاستجداء والاستعطاف المصاحب للرهبة.
وتجدر الإشارة أن جوهر الشعر كله؛ المدح وأن كل المواضيع الأخرى تنطلق منه أو تنبثق عنه وذلك لدلائل هي:
‌أ. عندما يفتخرالشاعر بنفسه وعشيرته؛ فإنه يمدح نفسه وعشيرته بذكر الأمجاد والمناقب.
‌ب. عندما يتشبب بامرأة متغزلا؛ فإنه يمدح جانب الفحولة منه ويبئر عليه.
‌ج. عندما يهجو شخصا ما؛ فإنه في هجائه له يفخر ضمنيا بذاته ويعلي من مرتبة نفسه.
‌د. عندما يمدح خليفة أو أميرا؛ فإنه يبطن ذلك مدح ذاته، ويمدحها من خلال الممدوح.
‌ه. عندما يرثي أحدا ما، فذاك مدح لخلاله النبيلة.
وإذا ما عدنا إلى مرحلة التأسيس نلفي أن القصيدة العربية الواحدة تحبل بعدة أغراض – وهذا لا يعني تشذرها – وأن كل غرض يخصص له حيز شعري معين، حالما ينتهي يبدأ غرضا آخر، دون أن نعي هذا الانتقال الغرضي ودونما إساءة أو تشويه للقصيدة، وهذا ما يسميه النقاد ببراعة أو حسن التخلص. في حين أن أفردت القصيدة في المرحلة العباسية لغرض واحد، وهذا مكمن ادعاء التحول وبداية الحداثة الشعرية في نظر بعض الدارسين؛ الذين غاب عنهم أن هذا الإفراد الغرضي ليس سوى تمطيط للقصيدة التأسيسية القديمة، والاكتفاء بموضوع واحد ووحيد والتفصيل فيه شعرا. وهنا يطالعنا السؤال الآتي: من هو أشعر وأحق بصفة الفحولة؟ هل شاعر مرحلة التأسيس الذي كان يعوج على مواضيع كثيرة في قصيدة واحدة في انسلاك جمالي تام وإسار شعري بارع؟ أم الشاعر العباسي الذي اكتفى بالنظم في موضوع وحيد؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.