الحوار الاجتماعي بالمغرب بين الشكلية والفعالية    "مراسلون بلا حدود": حرية الصحافة عالميا في أسوأ حالاتها على الإطلاق    عيد العمال.. الكونفدرالية ببني ملال "تحتج" في مسيرة حاشدة    الذهب يتعافى بعد بلوغ أدنى مستوى في أسبوعين    تفاصيل إحداث قطب تكنولوجي جديد بالدار البيضاء يوفر أزيد من 20 ألف منصب شغل    الجنرال يرمي جيرانه بالحجارة    "الأونروا": حصار إسرائيل على غزة يقتل مزيدا من الأطفال والنساء يوميا    الفاتيكان يثبت "مدخنة اختيار البابا"    التدخلات الإنسانية تتأزم بقطاع غزة    لجنة الأخلاقيات توقف العديد من المسؤولين عن كرة القدم بين سنة وثلاث سنوات بسبب اختلالات في التسيير    كأس أمم إفريقيا لأقل من 20 سنة: المغرب يستهل مشواره بفوز مثير على كينيا    مطار برلين يضبط كيلوغرامات من الهيروين عند أربعيني    التبرع بالأعضاء يضع السعودية في المرتبة الثالثة عالميا    إحباط عبور "شحنة شيرا" إلى سبتة    توقعات أحوال الطقس اليوم الجمعة    العثور على جثة شخص داخل منزل بشارع الزرقطوني بعد اختفائه لثلاثة أيام .    الفنان الممثل محمد الشوبي في ذمة الله    وفاة الممثل المغربي محمد الشوبي    خُوسّيه سَارَامَاغُو.. من عاملٍ فى مصنعٍ للأقفال إلى جائزة نوبل    رحيل الفنان محمد الشوبي عن عمر 63 سنة بعد معاناة طويلة مع المرض    الفنان محمد شوبي يغادر الدنيا إلى دار البقاء    الساحة الفنية المغربية تفقد أحد أعمدتها برحيل الفنان محمد الشوبي    حين يتحول الانفعال إلى مشروع سياسي: في تفكيك خطاب بنكيران حول "القضية" و"الحمار"    الصين تدرس دعوات أمريكية لاستئناف الحوار بشأن الرسوم الجمركية    كرة القدم.. توتنهام يضع قدما في نهائي الدوري الأوروبي    اللاعب المغربي الذي أبهر العالم بأدائه المجنون … !    كوريا: الرئيس المؤقت يقدم استقالته لدخول سباق الانتخابات الرئاسية    اسرائيل تشن هجوما على منطقة مجاورة للقصر الرئاسي في دمشق لحماية "الدروز"    احتراق شاحنة على الطريق السيار طنجة المتوسط    منتجو الفواكه الحمراء يخلقون أزمة في اليد العاملة لفلاحي إقليم العرائش    هل بدأت أمريكا تحفر "قبرها العلمي"؟.. مختبرات مغلقة وأبحاث مجمدة    الزلزولي يساهم في فوز بيتيس    "أشبال المغرب" يستهلون كأس إفريقيا بفوز شاق على منتخب كينيا    الدمناتي: مسيرة FDT بطنجة ناجحة والاتحاد الاشتراكي سيظل دائما في صفوف النضال مدافعا عن حقوق الشغيلة    تنفيذ قانون المالية لسنة 2025.. فائض خزينة بقيمة 5,9 مليار درهم عند متم مارس    في عيد الشغل.. أمين عام حزب سياسي يتهم نقابات بالبيع والشراء مع الحكومة    صادرات الفوسفاط بقيمة 20,3 مليار درهم عند متم مارس 2025    القهوة تساعد كبار السن في الحفاظ على قوة عضلاتهم (دراسة)    فوائد القهوة لكبار السن.. دراسة تكشف علاقتها بصحة العضلات والوقاية من السقوط    كرة القدم.. برشلونة يعلن غياب مدافعه كوندي بسبب الإصابة    نشرة إنذارية: زخات رعدية وهبات رياح قوية مرتقبة بعدد من أقاليم المملكة    توقيف لص من ذوي السوابق لانتشاله القبعات بشوارع طنجة    المركزيات النقابية تحتفي بعيد الشغل    الحكومة تطلق خطة وطنية لمحاربة تلف الخضر والفواكه بعد الجني    تقرير: المغرب بين ثلاثي الصدارة الإفريقية في مكافحة التهريب.. ورتبته 53 عالميا    تسارع نمو القروض البنكية ب3,9 في المائة في مارس وفق نشرة الإحصائيات النقدية لبنك المغرب    عادل سايح: روح الفريق هل التي حسمت النتيجة في النهاية    السكوري بمناسبة فاتح ماي: الحكومة ملتزمة بصرف الشطر الثاني من الزيادة في الأجور    أكاديمية المملكة تشيد بريادة الملك محمد السادس في الدفاع عن القدس    الدار البيضاء ترحب بشعراء 4 قارات    حقن العين بجزيئات الذهب النانوية قد ينقذ الملايين من فقدان البصر    اختبار بسيط للعين يكشف احتمالات الإصابة بانفصام الشخصية    دراسة: المضادات الحيوية تزيد مخاطر الحساسية والربو لدى الأطفال    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مطارحات نقدية أولية حول القصيدة العباسية
نشر في طنجة الأدبية يوم 05 - 02 - 2011


1. أحكام متلدة وطرح طريف:
تكاد تتفق جل الدراسات التي قاربت الحياة الأدبية في العصر العباسي حول نفس المهيع الذي سلكته، ألا وهو التقوقع حول هذا العصر ومحاولة عزله زمانيا (132 – 656ه) وتبيان ما كان فيها من توسع في العمران وخروج من حياة البدو إلى بهرجة الحضارة، وما صاحب هذا كله من قلاقل وتشذرات في الحكم ومناوءات حول السلطة مخصصين كل مرحلة على حدة بأدباء وشعراء وسموها بل يذهبون أبعد من ذلك عندما يعتبرون أن كل مرحلة من مراحل الحكم العباسي لها خصائصها الفنية ومياسمها الجمالية المحددة، وأن الحياة – في كل أبعادها – قد عرفت في هذه المرحلة تطورا جذريا سواء من حيث المظاهر الاجتماعية والاقتصادية والفكرية (التأثير الهيليني، المثقافة، بداية الجمع والتدوين في اللغة والعلوم، انتشار الفرق الكلامية والمذاهب العقلية...) مدعين أن كل هذه العوامل قمينة بأن تحول مسار التجربة الشعرية وتعدل فيه وكأن الأدب رهين بالتحولات السياسية، كلما ازدهرت هذه الأخيرة ازدهر، وكلما اندحرت تردى واندحر، وهي فكرة لا يلوكها العقل ولا يقرها النقل؛ وذلك من جهتين: الأولى يمثلها التساؤل الإشكالي الآتي الذي يطرح نفسه بقوة: كيف بيوم واحد يفصل بين دولة / سياسية ودولة أخرى أن يحدث تغييرا في الحياة الأدبية والفكرية ؟؟؟ ونحن نعلم أن التغيير مشروع يحتاج إلى عقود كي يتبلور ويتحقق، والثانية تستند على بعض المنجزات الفكرية في حقلي البلاغة والنقد الأدبيين وما تنماز به من بذاخة وسموق في عصر نعت بالانحطاط، بله ننظر في مرحلة التأسيس التي شكلتها النصوص الشعرية اللجية الجمال والإسار والتي كتبت في مرحلة لم تعرف الإستقرار والدعة قط، وكانت قائمة على الترحال الدائم بحثا عن الماء والكلأ مغبة غبشة مهامه الصحراء ومفاوزها المقفرة، ومغبة الموت المحذق ذات اليمين وذات الشمال بفعل كثرة الإغارات والحروب من جهة، وما يسد به غائلة الطوى والمسغبة من جهة أخرى.
وقد شكلت هذه الأفكار سندا اعتمده دعاة التأصيل للحداثة في تأكيد الفكرة القائلة بأن شعراء المرحلة العباسية مثلوا خروجا عن المألوف والنموذج الشعري التأسيسي، وأسسوا بذلك لنموذج شعري قوامه؛ التصنع في اللفظ، وطلاوة التعبير، وخلق بدائل موضوعية / تيمائية جديدة عوض المقدمة الطللية. لكن هذا الرأي سرعان ما يخر متهاويا عندما نعود لتلك النصوص التي بقيت على حالها لم يمسسها تغير لا من حيث الشكل ولا المضمون، اللهم تلك الإضافات اليسيرة التي فرضتها روح العصر؛ والمتمثلة في الإغراق في استعمال المساحيق البديعية والتنميقات البلاغية، وفي محاولة طرح بدائل جديدة؛ خاصة ما لمسناه في محاولة أبي نواس وبشار من طرح بديل جديد عن المقدمة النسيبية، ومرد ذلك أن كليهما كان يعيش مشاكل اجتماعية ونفسية صعبة، دفعتهما إلى طرح تلك البدائل، حتى يتسنى لهما إثبات الذات ونيل الحظوة المفقودة، لكن سرعان ما فشلوا في ذلك وعادوا إلى النموذج الأسمى الذي يشكل الطلل ديدنه الشعري.
من هنا يتضح لنا بجلاء أن القصيدة العربية واحدة على مر العصور لم يطلها أي تغيير ولا تبديل، يقول الدكتور عز الدين إسماعيل: « وهكذا ظل الإطار العام القديم، هو نفس الإطار لدى أبي نواس، أما التغيير فقد حدث في التفصيلات التي ملأ بها هذا الإطار» .
ويقول أيضا: « على الرغم من كل ما طرأ على المجتمع العباسي من تغير وتطور، ظلت المجالات الموضوعية التي عرفت للشعر من قبل قائمة ومستمرة، فالمدح والرثاء والهجاء والغزل والوصف والمجون والزهد، كلها ظلت مجالات للإبداع الشعري في ذلك العصر » .
أما الأستاذ محمد نجيب البهيتي فيقول: « ومن هنا بقي الاستفتاح التقليدي في ميزان التقديم أثقل وأرجح واتصل بقاؤه، ومن هنا لم يجد أبو نواس نفسه قادرا على أن يسير سيرته في هجر هذا الباب في جمع قصائده » .
فدونكها الأبيات الآتية – خاصة في مدائحه - :
ألاحي أطلال الرسوم الطواسما عفت غير سفع كالحمام وجواتما
أربع البلا إن الخشوع لباد عليك، وإني لم أخنك ودادي
فإذا تأملنا البيتين نلفي أبا نواس واقفا بباب الطلل يطلب وصاله ومسامحته، بعدما تأكد بأنه طلسم وجودي يسم حياة الشاعر، فالوقوف عنده بمثابة مثير للذات الشاعرة التي تحاول أن يعطيها الشعر قياده من جهة. ومحاولة لشد انتباه المتلقي واستمالة عواطفه من جهة أخرى؛ يقول ابن رشيق: « (-) افتتاح القصائد بالنسيب، لما فيه من عطف القلوب واستدعاء القبول بحسب ما في الطباع من حب الغزل » .
2. في وحدة القصيدة:
من المسلم به أن القصيدة الشعرية دفقة شعورية حاصلة في زمان ومكان محددين وغير قابلة للتكرار، لكن تذهب بعض الدراسات إلى فكرة مؤداها؛ تشذر أوصال القصيدة (المرأة، الخمرة، الناقة، المدح...) دون وعي بأن الشاعر حينما يعرج على الطلل يبكيه والرسم الدارس يشجيه والخمرة المعتقة تغريه والناقة التي تبهره والفرس الذي يسحره، إنما يوالف بين هذه الدرر في سلك رفيعة لا يعرفها إلا انقاد الذواقة للشعر، كما أنه يحاول (الشاعر) تهييء نفسه للقول الشعري، وتهييء متلقيه لتقبله، وحسبك من ذلك كعب بن زهير الذي أتى طالبا عفو رسول الله المأمول، فوجد نفسه يصف سعدى، وهنا تحضر أبرز مظاهر اللاوعي الذي يصاحب عملية نظم القريض، ومن تم يشرع لنا القول؛ إن تلك البنيات هي عناصر مختزلة في الضمير الجمعي الشعري العربي، أو لنقل بمثابة حالة من التوثب الوجداني والاستعداد الفطري للقول الشعري.
3. مواضيع الشعر واحدة لا تتغير:
اختلفت وتباينت تحديدات أغراض ومواضيع الشعر بين العرب القدماء، فمنهم من حصرها في سبعة أغراض (أبو العباس ثعلب) ومنهم من حصرها في ستة أغراض (قدامى بن جعفر وأبو هلال العسكري). بينما حصرها ابن رشيق القيرواني في عشرة أغراض، ومر هذا الاختلاف إلى كثرة التصنيفات واختلاف المقاييس والضوابط، وتباين المنطلقات مما أدى إلى تباين النتائج، لكن من خلال استقراء المتون الشعرية واستقطار ذاكرتها، يتبدى جليا أن مواضيع الشعر لا تخرج عن النسيب والوصف المرتبط بحالة الطرب، والهجاء اللصيق بالغضب والمديح المرتبط بالرغبة والاستجداء والاستعطاف المصاحب للرهبة.
وتجدر الإشارة أن جوهر الشعر كله؛ المدح وأن كل المواضيع الأخرى تنطلق منه أو تنبثق عنه وذلك لدلائل هي:
‌أ. عندما يفتخرالشاعر بنفسه وعشيرته؛ فإنه يمدح نفسه وعشيرته بذكر الأمجاد والمناقب.
‌ب. عندما يتشبب بامرأة متغزلا؛ فإنه يمدح جانب الفحولة منه ويبئر عليه.
‌ج. عندما يهجو شخصا ما؛ فإنه في هجائه له يفخر ضمنيا بذاته ويعلي من مرتبة نفسه.
‌د. عندما يمدح خليفة أو أميرا؛ فإنه يبطن ذلك مدح ذاته، ويمدحها من خلال الممدوح.
‌ه. عندما يرثي أحدا ما، فذاك مدح لخلاله النبيلة.
وإذا ما عدنا إلى مرحلة التأسيس نلفي أن القصيدة العربية الواحدة تحبل بعدة أغراض – وهذا لا يعني تشذرها – وأن كل غرض يخصص له حيز شعري معين، حالما ينتهي يبدأ غرضا آخر، دون أن نعي هذا الانتقال الغرضي ودونما إساءة أو تشويه للقصيدة، وهذا ما يسميه النقاد ببراعة أو حسن التخلص. في حين أن أفردت القصيدة في المرحلة العباسية لغرض واحد، وهذا مكمن ادعاء التحول وبداية الحداثة الشعرية في نظر بعض الدارسين؛ الذين غاب عنهم أن هذا الإفراد الغرضي ليس سوى تمطيط للقصيدة التأسيسية القديمة، والاكتفاء بموضوع واحد ووحيد والتفصيل فيه شعرا. وهنا يطالعنا السؤال الآتي: من هو أشعر وأحق بصفة الفحولة؟ هل شاعر مرحلة التأسيس الذي كان يعوج على مواضيع كثيرة في قصيدة واحدة في انسلاك جمالي تام وإسار شعري بارع؟ أم الشاعر العباسي الذي اكتفى بالنظم في موضوع وحيد؟
1. أحكام متلدة وطرح طريف:
تكاد تتفق جل الدراسات التي قاربت الحياة الأدبية في العصر العباسي حول نفس المهيع الذي سلكته، ألا وهو التقوقع حول هذا العصر ومحاولة عزله زمانيا (132 – 656ه) وتبيان ما كان فيها من توسع في العمران وخروج من حياة البدو إلى بهرجة الحضارة، وما صاحب هذا كله من قلاقل وتشذرات في الحكم ومناوءات حول السلطة مخصصين كل مرحلة على حدة بأدباء وشعراء وسموها بل يذهبون أبعد من ذلك عندما يعتبرون أن كل مرحلة من مراحل الحكم العباسي لها خصائصها الفنية ومياسمها الجمالية المحددة، وأن الحياة – في كل أبعادها – قد عرفت في هذه المرحلة تطورا جذريا سواء من حيث المظاهر الاجتماعية والاقتصادية والفكرية (التأثير الهيليني، المثقافة، بداية الجمع والتدوين في اللغة والعلوم، انتشار الفرق الكلامية والمذاهب العقلية...) مدعين أن كل هذه العوامل قمينة بأن تحول مسار التجربة الشعرية وتعدل فيه وكأن الأدب رهين بالتحولات السياسية، كلما ازدهرت هذه الأخيرة ازدهر، وكلما اندحرت تردى واندحر، وهي فكرة لا يلوكها العقل ولا يقرها النقل؛ وذلك من جهتين: الأولى يمثلها التساؤل الإشكالي الآتي الذي يطرح نفسه بقوة: كيف بيوم واحد يفصل بين دولة / سياسية ودولة أخرى أن يحدث تغييرا في الحياة الأدبية والفكرية ؟؟؟ ونحن نعلم أن التغيير مشروع يحتاج إلى عقود كي يتبلور ويتحقق، والثانية تستند على بعض المنجزات الفكرية في حقلي البلاغة والنقد الأدبيين وما تنماز به من بذاخة وسموق في عصر نعت بالانحطاط، بله ننظر في مرحلة التأسيس التي شكلتها النصوص الشعرية اللجية الجمال والإسار والتي كتبت في مرحلة لم تعرف الإستقرار والدعة قط، وكانت قائمة على الترحال الدائم بحثا عن الماء والكلأ مغبة غبشة مهامه الصحراء ومفاوزها المقفرة، ومغبة الموت المحذق ذات اليمين وذات الشمال بفعل كثرة الإغارات والحروب من جهة، وما يسد به غائلة الطوى والمسغبة من جهة أخرى.
وقد شكلت هذه الأفكار سندا اعتمده دعاة التأصيل للحداثة في تأكيد الفكرة القائلة بأن شعراء المرحلة العباسية مثلوا خروجا عن المألوف والنموذج الشعري التأسيسي، وأسسوا بذلك لنموذج شعري قوامه؛ التصنع في اللفظ، وطلاوة التعبير، وخلق بدائل موضوعية / تيمائية جديدة عوض المقدمة الطللية. لكن هذا الرأي سرعان ما يخر متهاويا عندما نعود لتلك النصوص التي بقيت على حالها لم يمسسها تغير لا من حيث الشكل ولا المضمون، اللهم تلك الإضافات اليسيرة التي فرضتها روح العصر؛ والمتمثلة في الإغراق في استعمال المساحيق البديعية والتنميقات البلاغية، وفي محاولة طرح بدائل جديدة؛ خاصة ما لمسناه في محاولة أبي نواس وبشار من طرح بديل جديد عن المقدمة النسيبية، ومرد ذلك أن كليهما كان يعيش مشاكل اجتماعية ونفسية صعبة، دفعتهما إلى طرح تلك البدائل، حتى يتسنى لهما إثبات الذات ونيل الحظوة المفقودة، لكن سرعان ما فشلوا في ذلك وعادوا إلى النموذج الأسمى الذي يشكل الطلل ديدنه الشعري.
من هنا يتضح لنا بجلاء أن القصيدة العربية واحدة على مر العصور لم يطلها أي تغيير ولا تبديل، يقول الدكتور عز الدين إسماعيل: « وهكذا ظل الإطار العام القديم، هو نفس الإطار لدى أبي نواس، أما التغيير فقد حدث في التفصيلات التي ملأ بها هذا الإطار» .
ويقول أيضا: « على الرغم من كل ما طرأ على المجتمع العباسي من تغير وتطور، ظلت المجالات الموضوعية التي عرفت للشعر من قبل قائمة ومستمرة، فالمدح والرثاء والهجاء والغزل والوصف والمجون والزهد، كلها ظلت مجالات للإبداع الشعري في ذلك العصر » .
أما الأستاذ محمد نجيب البهيتي فيقول: « ومن هنا بقي الاستفتاح التقليدي في ميزان التقديم أثقل وأرجح واتصل بقاؤه، ومن هنا لم يجد أبو نواس نفسه قادرا على أن يسير سيرته في هجر هذا الباب في جمع قصائده » .
فدونكها الأبيات الآتية – خاصة في مدائحه - :
ألاحي أطلال الرسوم الطواسما عفت غير سفع كالحمام وجواتما
أربع البلا إن الخشوع لباد عليك، وإني لم أخنك ودادي
فإذا تأملنا البيتين نلفي أبا نواس واقفا بباب الطلل يطلب وصاله ومسامحته، بعدما تأكد بأنه طلسم وجودي يسم حياة الشاعر، فالوقوف عنده بمثابة مثير للذات الشاعرة التي تحاول أن يعطيها الشعر قياده من جهة. ومحاولة لشد انتباه المتلقي واستمالة عواطفه من جهة أخرى؛ يقول ابن رشيق: « (-) افتتاح القصائد بالنسيب، لما فيه من عطف القلوب واستدعاء القبول بحسب ما في الطباع من حب الغزل » .
2. في وحدة القصيدة:
من المسلم به أن القصيدة الشعرية دفقة شعورية حاصلة في زمان ومكان محددين وغير قابلة للتكرار، لكن تذهب بعض الدراسات إلى فكرة مؤداها؛ تشذر أوصال القصيدة (المرأة، الخمرة، الناقة، المدح...) دون وعي بأن الشاعر حينما يعرج على الطلل يبكيه والرسم الدارس يشجيه والخمرة المعتقة تغريه والناقة التي تبهره والفرس الذي يسحره، إنما يوالف بين هذه الدرر في سلك رفيعة لا يعرفها إلا انقاد الذواقة للشعر، كما أنه يحاول (الشاعر) تهييء نفسه للقول الشعري، وتهييء متلقيه لتقبله، وحسبك من ذلك كعب بن زهير الذي أتى طالبا عفو رسول الله المأمول، فوجد نفسه يصف سعدى، وهنا تحضر أبرز مظاهر اللاوعي الذي يصاحب عملية نظم القريض، ومن تم يشرع لنا القول؛ إن تلك البنيات هي عناصر مختزلة في الضمير الجمعي الشعري العربي، أو لنقل بمثابة حالة من التوثب الوجداني والاستعداد الفطري للقول الشعري.
3. مواضيع الشعر واحدة لا تتغير:
اختلفت وتباينت تحديدات أغراض ومواضيع الشعر بين العرب القدماء، فمنهم من حصرها في سبعة أغراض (أبو العباس ثعلب) ومنهم من حصرها في ستة أغراض (قدامى بن جعفر وأبو هلال العسكري). بينما حصرها ابن رشيق القيرواني في عشرة أغراض، ومر هذا الاختلاف إلى كثرة التصنيفات واختلاف المقاييس والضوابط، وتباين المنطلقات مما أدى إلى تباين النتائج، لكن من خلال استقراء المتون الشعرية واستقطار ذاكرتها، يتبدى جليا أن مواضيع الشعر لا تخرج عن النسيب والوصف المرتبط بحالة الطرب، والهجاء اللصيق بالغضب والمديح المرتبط بالرغبة والاستجداء والاستعطاف المصاحب للرهبة.
وتجدر الإشارة أن جوهر الشعر كله؛ المدح وأن كل المواضيع الأخرى تنطلق منه أو تنبثق عنه وذلك لدلائل هي:
‌أ. عندما يفتخرالشاعر بنفسه وعشيرته؛ فإنه يمدح نفسه وعشيرته بذكر الأمجاد والمناقب.
‌ب. عندما يتشبب بامرأة متغزلا؛ فإنه يمدح جانب الفحولة منه ويبئر عليه.
‌ج. عندما يهجو شخصا ما؛ فإنه في هجائه له يفخر ضمنيا بذاته ويعلي من مرتبة نفسه.
‌د. عندما يمدح خليفة أو أميرا؛ فإنه يبطن ذلك مدح ذاته، ويمدحها من خلال الممدوح.
‌ه. عندما يرثي أحدا ما، فذاك مدح لخلاله النبيلة.
وإذا ما عدنا إلى مرحلة التأسيس نلفي أن القصيدة العربية الواحدة تحبل بعدة أغراض – وهذا لا يعني تشذرها – وأن كل غرض يخصص له حيز شعري معين، حالما ينتهي يبدأ غرضا آخر، دون أن نعي هذا الانتقال الغرضي ودونما إساءة أو تشويه للقصيدة، وهذا ما يسميه النقاد ببراعة أو حسن التخلص. في حين أن أفردت القصيدة في المرحلة العباسية لغرض واحد، وهذا مكمن ادعاء التحول وبداية الحداثة الشعرية في نظر بعض الدارسين؛ الذين غاب عنهم أن هذا الإفراد الغرضي ليس سوى تمطيط للقصيدة التأسيسية القديمة، والاكتفاء بموضوع واحد ووحيد والتفصيل فيه شعرا. وهنا يطالعنا السؤال الآتي: من هو أشعر وأحق بصفة الفحولة؟ هل شاعر مرحلة التأسيس الذي كان يعوج على مواضيع كثيرة في قصيدة واحدة في انسلاك جمالي تام وإسار شعري بارع؟ أم الشاعر العباسي الذي اكتفى بالنظم في موضوع وحيد؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.