" إنها مجرد مباراة ..ويجب ألا تحزن .. رغم أنني أتفهم مشاعرك ".. " لا أحب أن أرى الناس يبكون حتى لو كنت لا أعرفهم " . بهذه العبارات التلقائية ، المحملة بكل معاني البراءة ، توجه طفل برتغالي يدعى ماتياس، لم يتجاوز عمره العشر سنوات ، مساء الأحد المنصرم 10 يوليوز 2016، عقب إعلان نهاية اللقاء النهائي لكأس أوربا في كرة القدم بين منتخبي فرنسا والبرتغال ، بتتويج هذا الأخير ، "توجه" نحو شاب فرنسي كان يخفي وجهه بيده بعد أن غالبته دموع الخيبة جراء الخسارة غير المنتظرة . مشهد شكل حدثا لافتا ترجمته ملايين التعليقات على مستوى وسائل الاتصال الاجتماعي ، وتناقلته كبريات المحطات التلفزية الدولية والصحف ذات الصيت العالمي ، متوقفة عند الدلالات النبيلة لخطوة الصغير "ماتياس" ، والتي جعلت الشاب الفرنسي يتوقف عن البكاء ويمسح دموعه، قبل أن يضمه بين أحضانه بحرارة قوامها الصدق والعفوية . مشهد استحضرت من خلاله - دون سابق ترتيب - مشاهد تخريب وإتلاف الممتلكات، الخاصة منها والعامة ، والاعتداءات التي بلغت حد إزهاق أرواح أبرياء... والتي طبعت "الموسم الدموي " ، عفوا ، الكروي 2015 - 2016 ببلادنا ، احتجاجا على خسارة هذا الفريق أو رفضا لتراجع تصنيف آخر ضمن "التراتبية العامة للتنافس الكروي الوطني" ! مشاهد تجاوزت تداعياتها القاتمة حدود الملاعب لتطال الشوارع و الفضاءات العامة في أكثر من مدينة، والتي استحالت ، في أكثر من مرة ، إلى "مسارح " لارتكاب أفعال جرمية مع سبق إصرار وتخطيط ، أفلح "أبطالها" في ترويع الكبار والصغار، وفي الآن ذاته ترويج وتسويق صورة سوداء عن البلاد ، ضدا على المجهودات المبذولة من أجل جعلها قبلة للأمن والأمان ودوام الاطمئنان . مشاهد ما كان لها أن تحدث لو كان هؤلاء المشاغبون ، المخربون، المعتدون... ، في مستوى "حكمة " الطفل ماتياس وعمق عبارته القوية : "إنها مجرد مباراة" . حوادث ما كان لها أن توقف مسارات حياتية ليافعين وشبان ، غادروا أحضان آبائهم وأمهاتهم ، على حين غرة، تاركين في قلوبهم لوعة لن يخفف من حدتها تعاقب الشهور والسنوات. وأنى لهم ذلك وقبور فلذات الأكباد بكل من مقبرتي "الغفران والرحمة" بالدارالبيضاء - كنموذج فقط - تقف شاهدة على فداحة ما يصنعه الجهل بمدلول عبارة "إنها مجرد مباراة " . مدلول لا أثر له ، أيضا ، في كتابات وتصريحات وتعليقات العديد من "الملتصقين " بالمجال الرياضي - ورقيا ، إذاعيا ، تلفزيا وإلكترونيا .. - ، حيث تتم الاستعانة بمفردات تمتح مرجعيتها من قاموس لاعلاقة له بالروح الرياضية، من قبيل : "معركة مصيرية ، مواجهة حياة أو موت ، لقاء يعز فيه المرء أو يهان ، مقابلة الفرصة الأخيرة ، موعد الثأر والانتقام ..."، وما شابهها من كلمات تهيج مشاعر محبي الفرق ، خصوصا المراهقين منهم المشكلين للقاعدة الواسعة للجماهير الكروية ، وتجعلها قابلة للانفجار مع أول "هفوة تحكيمية" عادية تسجل بهذا الملعب أو ذاك وبهذه المدينة أو تلك . يحدث هذا دون أدنى إحساس بالمسؤولية أو ممارسة نوع من النقد الذاتي ، حيث يصر أصحاب مثل هذه "المنزلقات" ذات الفواتير الباهظة ، على التشبث بنفس النهج، دون اكتراث بمسلسل "المآسي" الآخذة حلقاته في التزايد المرعب ؟ غياب المعنى العميق لجملة " إنها مجرد مباراة " ، يصادف المنشغل بأحوال المجتمع، تجلياته السلبية، أيضا ، في ميادين أخرى ، كما هو شأن مجال التنافس الانتخابي ، الجماعي منه بالخصوص ، في العديد من مناطق "الجغرافية القروية". حقيقة يشهد عليها اعتماد بعض الحالمين باقتعاد كرسي الرئاسة، على تهديد المنافسين الآخرين بأوخم العواقب ، سواء من خلال تسخير بعض "البلطجية" ، من ذوي السوابق وغيرهم ، لزرع الرعب في نفوس مؤيديهم وأفراد أسرهم ، إذا ما أصروا على مواصلة السباق الانتخابي ، أو عبر إثارة "النعرات القبلية " ، مع ما تؤشر عليه من ميل إلى الغلو والتعصب والتطرف...، والتي سبق أن أتت نيرانها الحارقة على الأخضر واليابس في أكثر من جهة . هي ، بحق ، دروس ثرية تلك التي تستخلص من العبارة التي فاه بها الطفل البرتغالي ماتياس : " إنها مجرد مباراة " ، يتمنى المرء أن يكون أغلب الذين تتبعوا أطوار منافسات كأس أوربا للأمم - من مسؤولي المجال الكروي الوطني وجماهيره، وغيرهم - قد سمعوا بها، ورسخت في أذهانهم ما يمكن أن يشكل مدعاة لإعادة النظر في مسلكيات قادمة ، يؤمل أن تكون بلبوس أقل قتامة وأبعد عن "الدموية" بشتى تمظهراتها .