في عري طبيعة مدثرة بسحر الجمال ، وعلى شاطئ بحيرة شاسعة الضفاف ، في مكان ما من الأطلس المتوسط ، وتحت سماء أرخت لبداية الستينيات من القرن الماضي ، كنا صبية كلما لفحتنا الشمس انحدرنا من مداشرنا ركضا باتجاه البحيرة ، كي نستحم ، ونلهو بالطين ، وحين يحلو لنا نصطاد خلسة عن إدارة المياه والغابات أسماكا نزدرد لحمها الطري بعد طهيها على نار هادئة . كبرنا،والتحق الكثيرون منا بالمدن البعيدة للدراسة،والوظيفة. أما الذين لم يحالفهم الحظ ، فقد التحقوا بالجندية منذ الساعات الأولى من سن البلوغ . كل هؤلاء الذين قادتهم أقدارهم بعيدا ظلت البحيرة شيئا لا ينسى في ذاكرتهم . أما كاتب هذه السطور وبدون مبالغة فهو لا يمكن أن يمر يوم دون أن يجد نفسه في حضرتها كلما انتابته نوبة من الشرود ، وحلق بعيدا . لم نكن الوحيدين الشغوفين بتك البحيرة ، وما يحيط بها من غابات وجبال . دائما في نهاية الأسبوع يأتون . لا يخلفون الموعد أبدا ، وأغلبهم أوربيون يدرِّسون في القرى والمدن القريبة ، أو البعيدة كالبيضاء ومراكش . منهم رجال أعمال ، وأطباء ، ومهندسون ، ومن مختلف الوظائف والمهن . كنا في تواصل معهم باستمرار ، وما درسناه من اللغة الفرنسية في مدرسة الدوار كان كافيا لفهم ما يقولون . منا من يحرس السيارات ، ومنا من يحمل آليات الصيد ، أو تقديم المساعدة ؛ وذلك بالغوص في الماء لاستخلاص الشصوص العالقة بحجر، أو جدع شجر. كانوا كلما سنحت لهم الفرصة يهرعون إلى هذا الفضاء الجميل للتخلص من ضغط العمل ، وحياة المدن الصاخبة . يأتون في الصباح ، وفي المساء يغادرون غانمين بما اصطادوه من أسماك يحبونها كثيرا ، خاصة منها النوع المعروف بالَبْلاكْ. هذا هو النموذج الأول من الزائرين لمنطقتنا ، والغاية عندهم هي الاستجمام ، وممارسة رياضة الصيد ، والاستمتاع بجمال الطبيعة .هؤلاء أيضا كانوا كرماء معنا ،إذ في المساء يتحفوننا بعشرة دراهم ، كانت ساعتها كافية لقضاء مآربنا يوم السوق ،عدا مشاركتهم لنا طعامهم ،لأننا نلازمهم طيلة اليوم كمساعدين . النموذج الثاني له مآرب أخرى غير السياحة ، هؤلاء يأتون مثنى ، أوجماعات صغيرة . ينصبون خيامهم الكندية ، ويقضون عدة أيام . يجلسون على الأرض عراة ، ويدمنون تدخين أشياء لا علم لنا بها ، ويبدو أن هذا الشيء المدَخَّن ، مع ما يشربونه يحقق لهم انتشاء كبيرا . يصخبون، ويقهقهون عاليا . يتخلل ذلك صمت ينصرفون فيه إلى المغازلة باللمس ، ووشوشات بادية المعنى في الأذن . ينهضون إلى البحيرة ، ويستحمون عراة ، كما يتراشقون بالماء . تعانق الواحدة منهم هذا الرجل ، أو ذاك ، وكما تقبل هذا تقبل ذاك أيضا . يعودون إلى اليابسة ، ويستلقون ، بعد دهن أجسادهم بالواقي من الشمس . المثير الصاعق بالنسبة لنا هو أن الرجل منهم يغازل أي أنثى منهم ، ويقبلها قبلا طويلة عميقة ، من دون أي إحساس بالحرج ، أو الخجل . يستمران إلى أن تبلغ الرغبة شأوها العظيم ، ويشرعون توًّا في المضاجعة أمام أعيننا التي لا تكاد تصدق . هل جاؤوا لكي يفسدوا الأخلاق التي بدل الآباء والأمهات جهدا كبيرا لتلقينها لنا ؟ هل جاؤوا من أجل تعليمنا شيئا نجهله ؟ أم أنهم ببساطة يمارسون حياتهم على النحو الذي اختاروه ؟ المتفق عليه بيننا هو أن هذا الاحتفال الجنسي أطربنا كثيرا وإن صدمنا في البداية وجعلنا ندرك بالواضح ، والمكشوف ما لا يمارس إلا في الظلام ، بعد إحكام غلق الأبواب . كانت المرأة منهم تنحني أمامنا ، ويبدو كل شيء كما هو بأدق التفاصيل . كنا بالنسبة إليهم عدما ؛ إذ لا يحفلون بنا تماما ، ولا بنظراتنا المندهشة ، كما لو أنها لا تصدق ما ترى . كانت نساؤهم شقراوات صغيرات ، وباهرات الجمال . أدركنا فيما بعد أنهم من الهيبي الذين اجتاحوا في الستينيات كل أرجاء العالم بحثا عن نقاء ما ، وأن ما كانوا يفعلونه إن هو إلا شكل من أشكال التحرر من قيم حضارة رفضوها جملة ، وتفصيلا ، وأن الجنس ليس إلا حقا طبيعيا مارسه الإنسان ، منذ أن أهدى الخالق آدم امرأة من أجل اكتمال معزوفة الوجود . النموذج الثالث يتصف أصحابه بسلوك متزن ، ولا يقدمون على ما يخدش الحياء ، وإن قبَّلوا فعلى الخفيف . يستحمون في البحيرة ، ويعودون إلى بيوتهم المتنقلة ، أو ما يسمى بالكارافان . يقضون بعض الوقت في المطالعة ، وهم يأخذون حماما شمسيا . ويتبادلون بين الحين والآخر أطراف الحديث . هؤلاء أيضا ونحن نرقبهم من بعيد يحلو لهم أحيانا فيأتي أحدهم متوددا ليمدنا بالشوكولا ، والحَلوى . بدورنا نأتيهم ببعض أرغفة الخبز ، والبيض ، وكانت الأمهات لا يمانعن ، لأن هؤلاء غرباء حتى ولو كانوا من ملة أخرى . هؤلاء عرفنا غايتهم بعد مرور عدة سنوات . كانوا مبشرين، لأنهم قبل أن يرحلوا من باديتنا إلى جهة أخرى يهدون كل واحد منا كتابا صغير الحجم مكتوب عليه إنجيل يوحنا . حدث هذا عدة مرات من طرف زوار آخرين . لم نكن ندري ساعتها أنهم يجوبون البوادي من أجل التنصير والتمسيح . هذا الكتيب قرأته عدة مرات ، والسبب هو أنه يتضمن حكايات مسلية ، وخوارق ، وأعاجيب ، إلا أن مشكلتي مع هذا المقروء هي الجملة الأولى ، والتي علقت بذهني منذ تلك السن المبكرة :» في البدء كان الكلمة ، والكلمة كان الله ، وكان الكلمة الله». كنت أعتقد أن في التعبير خطأ فادحا ، أو غموضا على الأقل ؛ إذ الأصح هو أن يقول « في البدء كانت الكلمة «. أدركت فيما بعد أن الكلمة في هذا المفتتح الإنجيلي لا تعني الكلمة بمعناها العادي المتداول البسيط ، كما توهم لي ، وإنما تعني اللوغوس اليونانية ، وهي مصطلح لغوي/ فلسفي تعني عقل الله .