خرجت الولاياتالمتحدة من مربع التلويح بسيناريو التدخل الخارجي في ليبيا الذي كانت تضغط به على أطراف الصراع، وتُهدد به الميليشيات المُسلحة التي خرجت عن سيطرتها، إلى دائرة اقتراح قوة دولية لحفظ السلام، وذلك في تحول لافت ترافق مع بدء البرلمان الليبي الجديد مناقشة الأوضاع الأمنية العامة في البلاد. ويحمل هذا الموقف الأميركي الجديد الذي عبّرت عنه سفيرة الولاياتالمتحدة الأميركية في ليبيا ديبورا جونز، الكثير من الأبعاد السياسية والأمنية، بالنظر إلى توقيته الذي تزامن مع استهداف محيط السفارة الأميركية بالعاصمة الليبية. وكانت سفيرة الولاياتالمتحدة لدى ليبيا ديبورا جونز قد أعلنت أنها ناقشت مع رئيس الحكومة المؤقتة عبدالله الثني، «تشكيل قوة لحفظ السلام في ليبيا بمعية الاتحاد الأفريقي أو الأممالمتحدة». ورفضت في تصريحات سابقة الآراء القائلة بأن المجموعة الدولية تخلت عن ليبيا، وتركتها فريسة للميليشيات المتصارعة، حيث قالت إن ليبيا « ليست أفغانستان، ويجب تصحيح هذا الخطاب». غير أن مراقبين اعتبروا أن هذا الموقف يعكس حالة التخبط والارتباك التي أصابت الإدارة الأميركية في التعاطي مع الملف الليبي المرشح للدخول في مرحلة جديدة تجعل البلاد تقترب بخطى حثيثة من «الصوملة» التي يُصبح فيها التدخل العسكري الأجنبي «مغامرة غير محسوبة العواقب». وساهم إعلان الرئيس الأميركي باراك أوباما عن أسفه لعدم بذل المزيد لإعادة إعمار ليبيا، في ترسيخ هذا الفهم، حيث اعتبر في حديث نشرته يوم الجمعة الماضي صحيفة «نيو يورك تايمز»، أن «تخلي الإدارة الأميركية عن إعادة إعمار ليبيا خطأ لا يُقبل تكراره». وقد فُهم في حينه أن الإدارة الأميركية، ستولي اهتماما متزايدا للملف الليبي من خلال إشاعة أن المجتمع الدولي أصبح أكثر قبولا للتدخل في ليبيا، وأن مثل هذا السيناريو هو الأنسب لمعالجة هذا الملف الذي بات يُقلق دول الجوار. غير أن تطور الأحداث الميدانية، يدفع في اتجاه مغاير، حيث أثبت إلى غاية الآن أن أميركا تتعاطى مع الملف الليبي كحلقة ثانوية في سلم أولوياتها، وهي بذلك تسعى إلى توريط أطراف إقليمية وأفريقية فيه انطلاقا من الواقع الجديد الذي بدأت في نسج خيوطه الأولى تحت تسميات متعددة منها «حفظ الأمن والاستقرار»، و»إعادة الإعمار». وقالت الباحثة الاستراتيجية الصينية ندى تشن: «يلتفت العالم مجددا إلى ليبيا بعد مرور عام على تمرير مجلس الأمن الدولي القرار رقم 1973 الذي فوض بفرض حظر جوي على البلد الواقع بشمال أفريقيا ومكن حلف شمال الأطلسي (الناتو) من التدخل عسكريا في القضية الليبية بحجة حماية المدنيين. فبعد اندلاع الثورة التي أطاحت بحكم العقيد الراحل معمر القذافي، لم يشهد الشعب الليبي كثيرا من النتائج التي تسعده أو ترضيه كما كان يتخيل، بل على النقيض شعر هذا الشعب بشيء من خيبة الأمل تجاه تحقيق المستقبل الأفضل الذي طمح فيه والذي وعده به الناتو عندما «حشر أنفه» في القضية. حلم الليبيون ببلد جديد توزع فيه الثروة بشكل عادل على الشعب قليل العدد بأسره ليعيش في نعمة بفضل عائدات النفط. ولكنهم بعد عام من انطلاق الثورة لم يجدوا إلا الشكوى من ارتفاع أسعار السلع وعدم نظافة الشوارع والبطالة وغياب الأمن. صحيح أن الحرب نجحت في الإطاحة بنظام القذافي وانتهت رسميا، ولكن الاضطراب ما زال مستمرا ولا تبدو نهايته وشيكة، إذ تقع اشتباكات بين جماعات مسلحة من حين إلى آخر في مدن ليبية مختلفة. ويشكل الانتشار العشوائي للأسلحة تهديدا على أمن البلد وجيرانه. وقد رفض البعض ممن شاركوا في الثورة تسليم أسلحتهم والإذعان للحكومة المركزية، بل ذهب بعضهم إلى اقتحام المباني الحكومية في مدن مثل العاصمة طرابلس احتجاجا على عدم تلبية طلباتهم. وتشهد المنطاق الحدودية الليبية حركات تهريب أسلحة. وقد أعلن الجيش الجزائري مؤخرا عن مصادرة كميات كبيرة من الأسلحة المختلفة القادمة من ليبيا. وتخشى دول المنطقة والمجتمع الدولي أن تقع مثل هذه الأسلحة في أيدي إرهابيين ومتمردين، الأمر الذي سيؤدى إلى تدهور الوضع الأمني الهش أصلا في بعض دول الجوار. وباختصار، هناك طريق طويل أمام ليبيا لإستعادة الأمن والاستقرار. وعلى الصعيد السياسي، يبدو أن ليبيا تفقد بعض الاستقرار الذي شهدته بعد سقوط نظام القذافي. وقد أعلن زعماء قبائل وساسة ليبيون في 6 مارس الجاري إقليم برقة الممتد من حدود مصر في الشرق إلى مدينة سرت غربا «اقليما فيدراليا»، على أن يستمد شرعيته من الدستور الذي أقر إبان عهد الملك الراحل إدريس السنوسي عام 1951. وفي اليوم التالي، أكد المجلس الوطني الانتقالي، الذي يدير شئون ليبيا، رفضه للإعلان وفي هذا الصدد، اعتبر مفتي الديار الليبية الشيخ صادق الغرياني إعلان نظام الحكم الفيدرالي في إقليم برقة «بداية لتقسيم ليبيا». ويبعث هذا للعالم بحقيقة مفادها أن ليبيا لم تصبح دولة مستقرة سياسيا وما زال الغموض يكتنف مستقبلها السياسي. لا ريب في أن التدخل العسكري الخارجي في القضية الليبية هو من العناصر التي دفعت ليبيا الى هذا الوضع الراهن. ويصعب على الناتو أن يقول إنه حقق كل أهداف هذا التدخل لاسيما حماية المدنيين، ويتعين على الناتو أن يتحمل مسؤولية الأضرار التي ألحقها بالشعب الليبي. وفي هذا السياق، صرح وانغ مين، نائب مندوب الصين الدائم لدى الأممالمتحدة، فى اجتماع لمجلس الأمن الدولي حول ليبيا عقد في 6 مارس الجاري، صرح بأنه يتعين على مجلس الأمن الدولي أن يستخلص العبر من طريقة التعاطي مع القضية الليبية، داعيا إلى إجراء مزيد من التحقيقات فى الضربات الجوية التي شنها الناتو على ليبيا العام الماضي. وقال وانغ مين إن تقرير لجنة الأممالمتحدة المكلفة للتحقيق فى انتهاكات حقوق الإنسان فى ليبيا أوضح أن الضربات التي نفذها الناتو فى ليبيا تسببت فى سقوط مدنيين، واستهدفت بعض الغارات الجوية منشآت غير عسكرية. وبينما يركز العالم حاليا على القضية السورية، يتعين عليه أن يتعلم من درس القضية الليبية. وكما دعت الصين مرارا وتكرارا، يكمن الحل الأمثل للأزمة السورية في الطرق السلمية واللجوء إلى الحوار. وقد طرحت الصين بالفعل رؤية سياسية لتسوية القضية السورية سلميا, وتحتوي هذه الرؤية على ست نقاط أبرزها دعوة جميع الأطراف المعنية في سوريا الى إنهاء العنف فورا، وإطلاق حوار سياسي شامل بدون شروط مسبقة. وقد حظي موقف الصين من القضية السورية بالفعل بتجاوب دولي واسع النطاق وفي طريقه إلى أن يصبح اتجاها للحل، كما يتضح من المقترحات التي طرحتها روسيا والدول العربية والاتحاد الأوروبي والأممالمتحدة خلال زيارات مسؤولين رفيعي المستوى من هذه الجهات إلى سوريا. وقد خلفت القضية الليبية درسا مؤلما يتعين على العالم أن يتعلمه جيدا، إذ اتضح أن الحل السياسي هو السبيل الوحيد لتسوية النزاعات الدولية، ولن ينجح أي خيار تفرضه القوى الخارجية على أي شعب، كما لن يجدي أي تدخل خارجي في الشؤون الداخلية لبلد ما على غرار تدخل الناتو في ليبيا.