وزير الداخلية يودّع شقيقته الكبرى بجنازة هادئة وبدون بروتكول ومتواريا عن الأنظار    كوت ديفوار تجدد تأكيد "دعمها الكامل" للمبادرة المغربية للحكم الذاتي    العيون.. رئيس "سيماك": التجربة التنموية في الأقاليم الجنوبية للمغرب نموذج يحتذى على الصعيد القاري    انطلاق فعاليات النسخة الأولى من ملتقى التشغيل وريادة الأعمال بطنجة    ميسي يقود ميامي إلى هزم بورتو    مهرجان "كناوة وموسيقى العالم" يعيد إلى الصويرة نغمة المحبة والبركة    "عائدتها قدرت بالملايير".. توقيف شبكة إجرامية تنشط في الهجرة السرية وتهريب المخدرات    رئيس النيابة العامة يجري مباحثات مع وزيرة العدل بجمهورية الرأس الأخضر    حكومة أخنوش تصادق على إحداث "الوكالة الوطنية لحماية الطفولة" في إطار نفس إصلاحي هيكلي ومؤسساتي    ماركا: ياسين بونو "سيد" التصديات لركلات الجزاء بلا منازع    تغييرات في حكامة "اتصالات المغرب"    البيت الأبيض: موقف دونالد ترامب من إيران "لا يجب أن يفاجئ أحداً"        بعيوي يكذب تصريحات "إسكوبار الصحراء"    الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية يستقبل وزيرة العدل بجمهورية الرأس الأخضر    إصدار أول سلسلة استثنائية من عشرة طوابع بريدية مخصصة لحرف تقليدية مغربية مهددة بالاندثار    الحرب الامبريالية على إيران    أمن طنجة يتفاعل بسرعة مع فيديو السياقة الاستعراضية بشاطئ المريسات ويوقف المتورطين        الأحمر يلازم تداولات بورصة البيضاء    الحكومة تصادق على تقنين استخدام "التروتينت" ووسائل التنقل الفردي بقوانين صارمة    المغرب والولايات المتحدة يعززان شراكتهما الأمنية عبر اتفاق جديد لتأمين الحاويات بموانئ طنجة المتوسط والدار البيضاء    الإعلام الإنجليزي يشيد بأداء الوداد وحماس جماهيره في كأس العالم للأندية    نشرة إنذارية تحذر المواطنين من موجة حر شديدة ليومين متتاليين    "مجموعة العمل" تحشد لمسيرة الرباط تنديدا بتوسيع العدوان الإسرائيلي وتجويع الفلسطينيين    أخبار الساحة    الوداد الرياضي يتلقى هدفين نظيفين أمام مانشستر سيتي في كأس العالم للأندية    بنكيران يهاجم… الجماهري يرد… ومناضلو الاتحاد الاشتراكي يوضحون    هل يعي عبد الإله بنكيران خطورة ما يتلفظ به؟    مجازر الاحتلال بحق الجوعى وجرائم الحرب الإسرائيلية    بيت الشعر في المغرب يتوّج بجائزة الأكاديمية الدولية للشعر    تعدد الأصوات في رواية «ليلة مع رباب» (سيرة سيف الرواي) لفاتحة مرشيد    سؤال الهوية الشعرية في ديواني .. « سأعبر جسر القصيدة» و «حصتي من الإرث شجرة» للشاعرة سعاد بازي المرابط        الحكومة تصادق على إحداث المعهد الوطني العالي للموسيقى والفن الكوريغرافي        معرض بكين للكتاب: اتفاقية لترجمة مؤلفات حول التراث المغربي اللامادي إلى اللغة الصينية    الدوزي يُطلق العدّ التنازلي ل"ديما لباس"    كتل هوائية صحراوية ترفع الحرارة إلى مستويات غير معتادة في المغرب    طنجاوة يتظاهرون تنديدًا بالعدوان الإسرائيلي على غزة وإيران    الشعب المغربي يحتفل غدا الجمعة بالذكرى ال55 لميلاد صاحب السمو الملكي الأمير مولاي رشيد    إصابة حكم ومشجعين في فوضى بالدوري الليبي    ميداليات تحفز "بارا ألعاب القوى"    فحص دم جديد يكشف السرطان قبل ظهور الأعراض بسنوات    بنهاشم بعد مواجهة مانشستر سيتي: لعبنا بشجاعة وخرجنا بدروس ثمينة رغم الخسارة    بنك المغرب والمؤسسة المالية الدولية يوقعان شراكة لتعزيز الشمول المالي الفلاحي بالمغرب    الصين تدفع نحو مزيد من الانفتاح السياحي على المغرب: سفارتها بالرباط تتحرك لتعزيز توافد السياح الصينيين    إيران تستهدف مستشفى بجنوب إسرائيل ونتانياهو يتوعدها بدفع "ثمن باهظ"    برلمان أمريكا الوسطى يُجدد دعمه الكامل للوحدة الترابية للمغرب ويرد على مناورات خصوم المملكة    خدش بسيط في المغرب ينهي حياة بريطانية بعد إصابتها بداء الكلب    السعودية تدعو إلى ارتداء الكمامة في أداء العمرة    التوفيق : تكلفة الحج تشمل خدمات متعددة .. وسعر صرف الريال عنصر حاسم    ورزازات تحدث تحولا نوعيا في التعامل مع الكلاب الضالة بمقاربة إنسانية رائدة    وزير الأوقاف: خدمات واضحة تحدد تكلفة الحج الرسمي وتنسيق مسبق لضبط سعر الصرف    خبير يعرف بالتأثير الغذائي على الوضع النفسي    وزارة الاوقاف تصدر إعلانا هاما للراغبين في أداء مناسك الحج    وزارة الأوقاف تحدد موعد قرعة الحج        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المؤسسة الثقافية في المغرب.. أي أفق؟
المؤسسات الثقافية تحتاج إلى إصلاح ذاتها قبل إصلاح الشأن الثقافي
نشر في المساء يوم 27 - 12 - 2010

أضحى وجود المؤسسات الثقافية في أي مجتمع، مع حفاظها على حريتها واستقلاليتها تجاه مؤسسات الدولة، اليوم، مطلبا حيويا في الحياة العامة، ليس فقط في البلدان التي ديدنها التهجية
والحبو في درب التحديث، بل حتى في البلدان التي رسخت تقاليد ثقافية مؤسساتية، إذ هي خير من يعبر عن روح الحياة العامة، فما وراء السلوك السياسي والأخلاقي، العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، أشكال تدبير الشأن الديني والروحي وأشكال تفويض الصلاحيات الإدارية.. هناك، دوما، ثقافة ما، فنسبة المؤسسات الثقافية لباقي المؤسسات الاجتماعية الأخرى، كنسبة العقل للجسد، فهي كمالها وصورتها، وكل أشكال الحياة الاجتماعية هي فقط أعراض منسوبة إلى شيء جوهره الثقافة، لذلك يعد مغالِطا ذلك الذي يحلل السلوكات السياسية والاقتصادية والاجتماعية دون أن تشكل الثقافة بالنسبة إليه منطلقا ومنتهى.. ومخطئ أكثر من يحلل سلوكات المنتسبين إلى مؤسسة القضاء أو التشريع أو الإدارة دون أن يُحمِّل المؤسسات الثقافية مسؤولية شيوع هذه السلوكات على شيوعها... وعندنا في المغرب، هذه المعادلة أولى...
لا نريد الحديث عن الحد القديم الذي يحد الإنسان، بكونه كائنا ثقافيا، فهذا مقام يوجب نظرا آخر، تتقاطع عنده الفلسفة بالعلوم الإنسانية، والأدب بالأركيولوجيا، بل الحديث عن مفهوم الثقافة باعتباره مدخلا لتحصيل تحليل مطابق لمختلف السلوكات التي تسترعي انتباه المهتم بالشأن العام لبلده، ومنه ننتقل إلى الحديث عن دور المؤسسات الثقافية في إصلاح البنية المجتمعية في تكاملها الوظيفي وتخصيصه عن حالة المؤسسات الثقافية في المغرب، مع انحياز منهجي نصرح به، وهو اعتماد مقول النسق الثقافي في مقاربة هذا الموضوع، وذلك لأسباب سنأتي على ذكرها في حينها. وننطلق من التساؤلات التالية: هل احتفظت المؤسسة الثقافية في المغرب باستقلالها تجاه سلطة المؤسسة السياسية؟ ومنه، هل تملك هذه المؤسسات، اليوم، بدائلَ حقيقيةً لكل السلبيات التي تعتمل في حياتنا العامة؟ هل تستطيع المؤسسات الثقافية، التي تعتمد على المال العامّ، الحفاظَ على استقلاليتها؟ بماذا نفسر اليوم ذوبان بعض المؤسسات الثقافية في أتون الصراع الإيديولوجي ضد قيم ثقافية أصيلة فينا؟ أم إن طبيعتها، بما هي مؤسسة، تفترض هكذا انحياز؟
الثقافة نسق يشمل مختلف العقائد والمعارف والقيم والفنون والفولكلور الشعبي والعادات والتقاليد التي يكتسبها الإنسان ويمارسها بصفته كائنا اجتماعيا بطبعه، وهي تُعاش من خلال السمات الروحية والمادية والفكرية الخاصة التي تميز مجتمعا بعينه، ولا تبقى تأثيراتها في حدود هذه المظاهر، بل تتعداها لتصبح لها سمات في كل مفاصل الحياة العامة، وبعبارة أخرى، تصبح نسقا.
إن اعتماد مفهوم النسق الثقافي في تحليل الحالة التاريخية للمغرب اليوم، له ما يبرره، منهجيا، فهو يجعل الفاحص يضع مسافة مع تحليلات عامة الناس، الغارقين في انفعالاتهم، فكم من تحليلات يقترفها بعض «الخبراء» في منابرنا الإعلامية، بل وحتى الجامعية لا تختلف في شيء عن تحليلات العامة.. فهي تحليلات تعتبر وجها لمشكلتنا وليست أبدا حلا، كأن نسمع أحدهم يُحمّل البصري مسؤولية حالة التشرذم الحزبي، وآخرون يُحمّلون عبد الرحمان اليوسفي مسؤولية فشل التناوب، تماما كما يحملون عبد الحميد عقار مسؤولية اتحاد كتاب المغرب.. إننا، بهذا، نقع ضحية ل«مكر» التاريخ، بالمعنى الهيغلي للمفهوم، فالنسق الثقافي يفترض، في مختلف الأزمنة التي تحيل إليها هذه الشخصيات الثلاث، هكذا انتكاسات، وهذه الشخصيات، على جزئيتها في مشهدنا الوطني العام، تبقى، وفق هذا المنظور، «أدوات» لشيء يتجاوزهم بكثير، وهو سلطة النسق الثقافي.
لذلك نتساءل: هل كان بإمكان هؤلاء أن يفعلوا غير ما فعلوه؟ وبطريقة أخرى: هل النسق الثقافي المغربي للسبعينيات ولنهاية التسعينيات واليوم يسمح بإمكانات أخرى؟ هل يسمح النسق الثقافي الراهن بأن نستنسخ على المستوى السياسي، مثلا، دستور فرنسا وإسبانيا؟ وعلى المستوى الحقوقي، بأن نقر المساواة وحرية التعبير وغيرها من مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، مع أن النسق الثقافي لا يسمح بذلك؟ هل يسمح النسق الثقافي باستنساخ «كوليج ذو فرانس» على مستوى البحث الجامعي؟
إن الذي يؤمن بإمكان ذلك هو شخص يتخيل واقعا ثقافيا هلاميا وليس واقعَنا المتجسد، فما يستفاد من تجاربنا المغربية، على محدودية آفاقها، في السياسة والاقتصاد والإدارة وغيرها، هو أن النسق الثقافي الراهن ما يزال غير مهيأ إطلاقا لمساءلة مجموعة من البديهيات الخاطئة، والتي تجعل كل المبادرات الإصلاحية تفشل قبل أن تُكتَب، فقبل ترسيخ الحكامة في الإدارة والشفافية في الاقتصاد والديمقراطية في السياسة والاختلاف في حقوق الإنسان، ينبغي بالأحرى ترسيخ ثقافة حديثة، فثقافة الريع تتنافى مع الشفافية وثقافة القبيلة والعائلة تتنافى مع الديمقراطية وثقافة الانتهازية واحتقار الآخر تتنافى مع حقوق الإنسان...
فأهمية اعتماد مفهوم النسق الثقافي منهجا في التحليل تكمن في أنه يلملم الجزئيات والأعراض وانفعالاتها ولا يجعل الفاحص يتيه في التحليل الشخصي، والذي لا يجنبه على أي حال متاهة الذاتية وأحكام القيمة، ومنه أيضا تجنب تحميل الأشخاص أكبر مما يسمح به النسق الثقافي، فمن يقول اليوم مثلا إن عبد الرحمان اليوسفي كان يتوجب عليه الدفع بإجراءات تقوي مؤسسة الوزير الأول إبان التناوب وإنه أخطأ إذ لم يفعل، قائل مثل هذا الكلام، من وجهة نظر النسق الثقافي، كمن يقول في مجال الإبستمولوجيا والعلم، على أنه كان يتوجب على نيوتن الانتباه إلى نسبية الزمان والمكان، وهو أخطأ إذ لم يفعل!، أو كالقائل إنه كان ينبغي لعباس بن فرناس أن ينتبه إلى الجاذبية، قبل أن يطير.. وقد أخطأ إذ لم يفعل! فالنسق الثقافي، والذي يحكم حدود الإمكان في السياسة والمجتمع، في الثقافة والإدارة، في العلم والقيم، في الممارسة والنظرية لم يكن ليسمح بطفرات كهذه.
إن الفساد الإداري في المغرب قبل أن يكون سلوكا هو أولا ثقافة، وانعدام الديموقراطية الحزبية، قبل أن يكون مشكلة سياسية، هو مشكلة ثقافية، واحتقار المرأة، قبل أن يكون مشكلة أخلاقية، هو مشكلة ثقافية، وهكذا صعودا إلى كل مشكلاتنا، وصولا إلى ما يجري في البرلمان والمدرسة والمحكمة ومخفر الشرطة والأسرة والفرق الرياضية: الثقافة ذاتُها والذهنية ذاتها...
فالذهنية المسؤولة عن إخفاقاتنا الدبلوماسية هي نفسها المسؤولة عن إخفاقاتنا التربوية، وهي نفسها المسؤولة عن تأخرنا الاقتصادي وقس على ذلك، فمن المحال أن تكون دبلوماسيتنا جيدة وتعليمنا سيئا، أو العكس، أو أن تكون رياضتنا رائدة، فيما مجالنا العمراني متخلف أو العكس، فالنسق الثقافي يحدد الإمكان والمحال أيضا.
دور المؤسسات الثقافية في الإصلاح
يحيل مفهوم المؤسسة الثقافية على روح الأزمنة الحديثة، حيث عقلنة المجال العمومي ووضع قواعد متعاقَد عليها لتدبير الاختلاف والتعدد، وأدوار المؤسسة الثقافية في هذا المجال العمومي دور مركزي، لذلك نجد أن كل المفكرين والفلاسفة الذين وضعوا أسس المجتمعات الحديثة والمعاصرة يؤكدون على ضرورة ضمان استقلاليتها عن الدولة وحرصوا على نقد كل محاولات الهيمنة أو التوظيف أو الإدماج التي تتعرض لها هذه المؤسسات من طرف الدولة، بل إننا لا نجد فيلسوفَ سياسة لم يشر إلى الأمر بصراحة، فنجد الأمر عند الفيلسوف الألماني كانط، في كتابه «صراع الكليات»، ونجده عند هيغل في «أصول فلسفة الحق»، ونجدها أيضا عند فلاسفة فرنسا إبان الستينيات والسبعينيات، كميشيل فوكو وجاك ديريدا وفرانسوا شاتلي وحنا أرندت وغيرهم.. فاستقلالية مؤسسات، كالجامعات ومراكز البحث والأندية الثقافية المختلفة والمؤسسات الإعلامية المستقلة والمهيكلة، هي القلعة الأخيرة ضد كل الشموليات، سواء منها الصريحة أو المتخفية.
فما يميز المجتمعات الديمقراطية المتحضرة هو كونها ليست فقط متقدمة بالتقنية والتنظيم، بل متقدمة أيضا في الاحتفاء بالثقافة والمثقفين، وفي المحصلة، احتفاء بالعقل، فعندما كان يتكلم دولوز، البارحة، وآلان تورين واليوم، فإن كل فرنسا تُنصت!...
ليست المجتمعات الحديثة مجردَ تجمعات لكائنات سياسية، بل هي أساسا تجمعات لكائنات تبدع وتنتقد وتتحرر ولا تتوقف عن الأمل والطموح إلى وجود إنساني أفضل، وبالتالي فالإبقاء على استقلالية هذه المؤسسات هو أساسا ضمان لأدوارها في تثقيف وتفعيل مشاركة الناس في تقرير مصيرهم السياسي، ومواجهة الأزمات والتحولات السياسية والثقافية والاجتماعية والقيمية التي تؤثر في مستوى حياتهم ومعيشتهم، وهي أيضا مشتل لتلاقح كل الأطروحات التي تقدم مختلف إمكانات السعادة، بمعناها المجتمعي الأشمل.
إذن، في ظل الحاجة الملحة إلى الإصلاح الثقافي في المغرب، باعتباره مدخلا للإصلاح المجتمعي ككل، لم يعد بالإمكان تجاهل الدور المركزي للمؤسسات الثقافية، بشرط -كما سبق القول- أن نضمن، بشكل حثيث، حريتها واستقلاليتها، لأسباب عدة من جملتها أولا، أنه مهما كانت رزنامة الإصلاحات التي تستهدف النهوض بهذا القطاع أو ذاك، تبقى الثقافة مفتاحا رئيسيا لذلك، فالعقل الذي يبدع إصلاحا هو مهيَّأ ثقافيا أيضا لإفشاله، وهذا ما يحدث في حياتنا الحزبية والتربوية والاقتصادية والتشريعية والقضائية... ثانيا، لا ينبغي التعويل كثيرا على السياسي في تحقيق الطفرة الثقافية الكفيلة بتهييء شروط موضوعية لتغيير مسارنا التاريخي، فهو -بتعبير عبد الله العروي- «معذور»، لعدم فعاليته في تحديث المجال العمومي، إنْ لم نقل عدم قدرته على ذلك، نظرا إلى الضغوطات الخارجية، في حين أن المؤسسة الثقافية، والتي يُفترَض أن تكون حرة، هي التي عليها مسؤولية تاريخية للدفع بالإصلاح الثقافي، باعتبار هذا الأخير منطلقا للإصلاح السياسي والاجتماعي، لكنْ حيث إن هذه المؤسسات لا تشكل بديلا للقيم التي يحرص الفاعل السياسي المحافظة عليها، فإن هذا يعتبر مدخلا موضوعيا للحديث عن وجود أزمة مجتمع، فهي عرض فقط لأزمة ماهوية هي أزمة ثقافة، وهذه مشكلة المغرب. ثالثا، وأخيرا، إن الإصلاح الثقافي لا تنجزه الإرادات الطيبة والمبادرات المعزولة لهذا المثقف أو ذاك، إذ إن أغلب المشاريع الثقافية التي عرفتها ساحتنا الوطنية انتهت بموت أصحابها، في حين أن الاستمرارية والتراكم لا يتحققان إلا من داخل المؤسسة الثقافية الحقيقة.
مشاريع ثقافية بدون مؤسسات
«أزمة ثقافة» لا نعني بها مرة أخرى، كون المغاربة لا يقرؤون أو أن المغاربة لا يتذوقون المسرح أو الموسيقى الكلاسيكية، فهذه أعراض للأزمة فقط، لكن جوهرها هو أن تطبع المثقف بقيم محيطه، ثم ضعف المؤسسات الثقافية، فالمغاربة اليوم يتبنون مقولات واعتقادات ثقافية أتقنوا تغليفها وتحصينها بتقاليد ثقافية هجينة، فلا هي بالأصيلة ولا هي بالحديثة، أو لنقلْ إنها مركبة منهما معا، وهذا مما يسهل الوقوف على تجلياته في الشارع والبيت والمدرسة والجامعة والإدارة والمقاولة.. إنها أزمة هوية وأزمة مصير أيضا.. تتجسد، على نحو صارخ، في شخصية المغربي اليوم.
فنحن نجد السياسي المغربي يدافع بقوة على ما تم إنجازه في المغرب بعد الاستقلال ويسم القائلين بغير ذلك ب«السوداوية» وكراهية الوطن، بينما عندما يمرض نجده «يهرول» نحو مستشفيات أوربا للتطبيب.. ونجده يتكلم عن «الأصالة»، بينما يدرس أبناؤه في مدارس البعثات أو يرسلهم للدارسة في مدارس «معاصرة».. ونجد الحزبي أيضا «يُشِيد»، حيث حل وارتحل، بالهامش الديمقراطي الذي يعيشه المغرب اليوم، بينما هو في الوقت ذاته، غير قادر على إتيان «سلوكات ديمقراطية»، بل ويحاربها بمختلف الوسائل...
أما تجليات أزمة الثقافة عند المغربي العادي، فتصل حد الغرائبية، فالمغربي اليوم يلعن السياسة والسياسيين ولكنه يطمع في أموالهم، ينتقد بشدة مظاهر الفساد في الإدارة، لكنه لا يتردد في تقديم الرشوة أو استعمال الوساطات في أمر يمكن قضاؤه دون الحاجة إلى ذلك.. يدعو إلى احترام حق الطفولة ويشغل طفلة قروية في منزله! يدعي احترام حق المرأة ويعامل زوجته كجارية.. بينما الاحترام، كل الاحترام ل»خليلته».. يضع على زجاج سيارته آيات قرآنية ويستعمل سيارته في كل «الرذائل»!...
وعلى مستوى النقد الثقافي، فمثقفونا -على اختلاف مشاربهم- لم ينتسبوا لإلى مؤسسة ثقافية، وحتى إنْ فعلوا، فإنهم تعثروا في إحداث تراكم في أجيال المثقفين يرسخ نوعا من التقاليد الثقافية، كالتي نجدها مثلا في معهد «سرفانتس» الإسباني، أو «غوته» الألماني، أو على مستوى البحث الجامعي في فرنسا «الكوليج دو فرانس»..
ولتحري الدقة والصراحة، فالمرحوم الدكتور عابد الجابري كان لديه مشروع ثقافي حقيقي، ولا يستطيع أحد اليوم أن ينكر فضل الرجل في تنوير عقول أجيال وأجيال من الشباب الجامعي المغربي، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وأشرف كجامعي لامع على عشرات الأطروحات التي كان ينتظر من أصحابها حمل المشعل لتحقيق التراكم الكفيل بإحداث النهضة الثقافية المطلوبة، لكنْ هل تحقق له هذا المشروع؟ أي هل ترك مدرسة لها تقاليدها الثقافية؟ طبعا لا، إذ إن عددا كبيرا من تلامذته «ارتدّوا» عن أمره كله، فمنهم من رضي بوظيفته واستسلم ل«اليومي»، ومنهم من يعيد «إنتاج» إنتاجات الجابري نفسه، أما الذين بقوا في المؤسسة الثقافية الجامعية ذاتها، أمثال الدكتورين عبد السلام بنعبد العالي وسالم يفوت، فقد انتقل الأول من الفارابي إلى الفلسفة المعاصرة، والثاني من ابن حزم إلى الإبستمولوجيا.. باستثناء الدكتور محمد المصباحي، الذي بقي وفيا للمبحث نفسه، وللأفق نفسه.
الشيء نفسه يمكن أن يقال عن علي أومليل والعروي وطه عبد الرحمان، فهل تركوا تقاليد ثقافية مؤسسية يحملها تلامذتهم، هذا إن وجدوا؟ طبعا لا، بل إنهم هاجروا و»هجروا» كل شيء: أومليل آثر «نعيم» التشريفات الدبلوماسية على «شقاء» الثقافة المضادة، وطه عبد الرحمان آثر وحدة واتصال «عالم الذوق» على تناقض وتعدد «عالم الحس».. أما العروي، فقد «صمت» عن الثقافة وهاجر إلى عالم الرمز والكناية، مع أن المثقف ليس هو الذي يمتلك كمّاً من المَعارف والمعلومات والشهادات العلمية، بل هو الذي يحمل بوعي هموم مجتمعة وأمته ويعيش في قلب الشعب ويناضل من أجل حريته ومن أجل الارتقاء بوعيه... والنتيجة على مستوى راهننا الثقافي، خاصة والاجتماعي عامة، بينة بذاتها، إذ هناك مؤسسات ثقافية ولكنها صورية، يستعملها أصحابها ل»أشياء» لا علاقة لها بالثقافة، وهناك مؤسسات ثقافية لها إمكانات بشرية مهمة، لكنها مغرقة في النخبوية والتجريد، وأخرى لم يستطع أصحابها وضع مسافة مع السلطة السياسية، بل أضحت نسخة عن الدولة، بتناقضاتها واختلالاتها..

المؤسسات الثقافية والتنمية الثقافية المستدامة
المشروع الثقافي استثمار في الإنسان من أجل الإنسان، والمجتمعات التي استطاعت في الآونة الأخيرة تحقيق معدلات محترمة ومتواترة من التنمية، هي مجتمعات قلبت مفاهيم الثروة بأن تبنّت نموذجا من التنمية يستثمر في العقول لا في الأرض أو الريح أو الماء.. مجتمعات استثمرت في الثقافة، من خلال مفهوم شامل للمؤسسة الثقافية.
إن المؤسسة الثقافية تشمل، في الحقيقة، جميع المؤسسات الصحافية ودُورَ النشر وجميع المكتبات والجامعات المتخصصة وجميع بيوت الحكمة والمجامع العلمية واللغوية ومراكز البحوث والدراسات، وكذلك المتاحف والمسارح والقاعات الفنية والفرق المسرحية والموسيقية ودُور الأوبرا ومدارس الموسيقى.. كما يمكن اتباع ذلك بقائمة أخرى تشمل المقاهي الأدبية ومقاهي الأنترنت والنوادي الثقافية والجمعيات الأدبية.. نحن، إذن، أمام عدد غير محدود من المؤسسات الثقافية وأمام كم هائل من الإنتاج الثقافي، تقوم هذه المؤسسات بنشره، بطريقة أو بأخرى، وحسب اختصاص كل منها. فما الذي يمكن أن تقوم به هذه المؤسسات من دور في التنمية الثقافية المستدامة؟
قبل أن نتعرف على ذلك الدور، يجب أن نفرق بين التنمية الثقافية الآنية وبين التنمية الثقافية المستدامة، فالأولى تعني -ضمن ما تعني- أن مؤسسة أو مؤسسات معينة تقوم بطرح برنامج ثقافي معيَّن تعمل من خلاله على تطوير نمط ثقافي، كإصدار سلسلة من الكتب أو إصدار مجلات ثقافية دورية أو إقامة حفلات موسيقية مبرمجة أو معارض فنية متتالية، وفق رؤيا مدرسة أو مدارس فنية متعددة.
أما الثانية، فإنها تعني قيام جميع المؤسسات المذكورة أعلاه، والتي اعتُبرت من المؤسسات الثقافية بعمل إستراتيجي ومبرمج، لرفد الحركة الثقافية، وفق الحاجة والراهن التاريخي والمستقبلي، وتضع الخطط والدراسات لاستمرار ذلك وتطويره، كمّا ونوعا، وإعداد الملكات المتخصصة والمؤهلة للقيام بهذا الدور. التنمية الثقافية المستدامة هي، إذن، تنمية شمولية ذات أبعاد متعددة تصب في مجال واحد من مجالات الحياة ألا وهو الثقافة، باعتبارها مدخلا حقيقيا للتنمية لباقي المستويات المجتمعية الأخرى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.