يتجه معهد العالم العربي بباريس إلى تقليص بعض نشاطاته وتسريح عدد من موظفيه بسبب مشاكل مالية ناجمة عن إخلال معظم البلدان العربية بالتزاماتها المالية تجاه هذا الصرح الثقافي، الذي ينتصب بباريس كأهم واجهة ثقافية للحضارة العربية خارج الحدود الجغرافية للوطن العربي. ويخشى الكثيرون من أن يكلل المعهد احتفالاته بذكرى انطلاقته الخامسة والعشرين بتوقيع شهادة وفاته بعد أن قررت البلدان العربية، في استقالة شبه جماعية، مقاطعة الشأن الثقافي العربي بحمولاته الحضارية وتأثيراته المختلفة، من خلال توقفها عن تسديد المستحقات التي بذمتها والبالغة إلى حدود متم 2012 نحو سبعة ملايين أورو. ميزانية المعهد السنوية لا تزيد عن 20 مليون أورو، يؤمن المعهد أزيد من نصفها من الخارجية الفرنسية (12 مليون أورو)، وبعضها من مداخيله الخاصة، التي تؤمّنها المعارض والتظاهرات الكبرى، وأيضا من عائدات المؤسسات المتبرعة. ولا تسهم الدول العربية مجتمعة سوى بعشرة في المائة. وهناك من الدول من توقفت عن تسديد مستحقاتها منذ ما يزيد عن عشر سنوات.. ولسدّ العجز في ميزانيته هذا العام، قررت إدارة المعهد، بعد أن أبلغتها وزارة الخارجية بنيّتها خفض الميزانية المخصصة للمعهد بنسبة 20 في المائة، تسريح عدد من الموظفين والتخلي عن بعض النشاطات، مما قد ينجم عنه تراجع غير مسبوق في وظيفة هذا الصرح الثقافي العربي. ويسعى المعهد مع ذلك إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من أجل الاستمرار في مزاولة المهمة التي أنشئ من أجلها سنة 1988، بدعوة الدول العربية، وخاصة منها ليبيا والعراق وسوريا ومصر ولبنان، إلى تسديد مستحقاتها البالغة أزيد من عشرة ملايين أورو. فكم هي ثقيلة الأعباء على المسؤولين العرب عندما تتعلق بتعزيز المسار المتميز للتلاقح الثقافي بين العالم العربي وفرنسا، وتفعيل انصهاره في عمق الثقافات الأخرى، وخاصة الأوربية والمتوسطية، من خلال ما يحتضنه المعهد من تظاهرات فكرية وثقافية وفنية ترصد التاريخ العربي بتأثيراته المختلفة. فعلى امتداد فصول السنة، يقدم المعهد كما هاما من المعارض التشكيلية والمهرجانات السينمائية والشعرية والموسيقية ومعارض للتصوير الفوتوغرافي والخط والرسم، فضلا عن ملتقيات فكرية وأدبية ومحطات تأملية في بعض الأسماء العربية البارزة في مجال الشعر والرواية والمسرح . وبقدر ما يسعى إلى استحضار الإرث الثقافي العربي بحمولته الحضارية التي أثبتت قدرتها على الانصهار في بوتقة الفكر الإنساني، يحرص المعهد أيضا على إعادة بناء وتركيب هذا الإرث مع إبراز نقط التقائه وتلاقحه مع الثقافات الأخرى. غير أن المعهد يعاني اليوم من آفتين ماليتين: الأولى هي العجز في الميزانية العادية بسبب امتناع معظم البلدان العربية عن تسديد المتأخرات التي في ذمتها وما ينجم عن ذلك من تسريحات وإلغاء للكثير من التظاهرات الثقافية. ويتمثل العجز الآخر في نقص الأموال للقيام بأعمال الصيانة الضرورية للمبنى. وسبق لمديرية الترميم والصيانة بباريس أن وجهت رسالة إلى إدارة المعهد تطالبه بإجراء مجموعة من أعمال الصيانة ليتوافق المبنى مع معايير السلامة المتبعة في هذا النوع من المؤسسات. ولم يعد أحد من رواد المعهد، عربا كانوا أم أجانب، يستبعد اليوم إغلاقه بسبب عدم وفاء الدول العربية منذ سنوات بالتزاماتها المالية، واستقالتها من مسؤولياتها الثقافية لتبصم عهدا جديدا يتحول فيه المعهد من منبر عربي للمعرفة والتثقيف إلى فضاء أوربي أو متوسطي، بعد الأخبار الرائجة حاليا عن احتمال تحوله إلى مقر للاتحاد الأورو متوسطي. قد نتفهم شح دول الخليج المسكونة أكثر بعروبة الجزيرة العربية، والحريصة على أن تسلم الثقافة العربية من شوائب الامتزاج، كما يروج لذلك بعض مبدعيها، وقد نتفهم أن يكون هؤلاء بنفطهم وغازهم على هذا القدر من الشح، الذي ينم عن ضعف الاهتمام بالإرث الثقافي العربي وما أثبته من قدرات على الانصهار قي بوتقة الفكر الإنساني، لكن الأمر يختلف في منطقة المغرب العربي ومنطقة الشام ومصر التي نهلت ثقافتها على امتداد أجيال من الحمولة الفرنسية إلى حد الانصهار، بل أحيانا الذوبان في الأجناس الفرنكفونية المختلفة. أضف إلى ذلك حضور جالية قوية دائمة البحث بفرنسا عن صنع ذاتها ضمن معادلة الاندماج والهوية. ويمكن القول إن المعهد هو ضحية نجاحه بشكل من الأشكال، حيث ينتصب كفضاء ثقافي يقدم من خلال المعارض التراثية الكبرى التراث العربي في تنوعه وغناه، وينتقل به من باريس إلى عواصم ومدن أخرى في أوربا وحتى أمريكا. ويحتفظ معرض «مغرب ماتيس»، الذي اختزل فصولا خصبة ومثمرة عن علاقة الرسام الفرنسي، هنري ماتيس، بالمغرب وانجذابه القوي إلى طبيعته وخضرته المتمردة، بالرقم القياسي من حيث الإقبال (650 ألف زائر)، يليه معرض «أندلسيات من دمشق إلى قرطبة» (540 ألف زائر)، ثم معرض «الفرسان والخيول العربية» الذي حقق ثالث رقم قياسي (420 ألف زائر)، بفضل المكانة التي يحتلها الفرس في الحياة العربية، وكذا قيمة وندرة التحف واللوحات التاريخية المتصلة بالخيول التي استعارها المعهد من متاحف عديدة من أوربا والعالم العربي.