سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
رولو: إعلان مصر الوحدة مع سوريا بشّر ببزوغ أمة عربية جديدة لم تكن هناك حدود معينة للجمهورية التي اعتزم عبد الناصر إنشاءها بداية مع سوريا واليمن والعراق
أدى إعلان الوحدة السورية المصرية تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة فبراير 1958 إلى إشاعة البهجة في جلّ أرجاء العالم العربي، التي أخذت وسائل الإعلام فيها تبشّر ببزوغ فجر جديد لأمة جديدة تستمد حدودها من الخليج الفارسي حتى المحيط الأطلسي، وتعزّز مثل هذا الشعور بعد الإطاحة بالملكية العراقية في يوليوز من العام نفسه ووصول طبقة حاكمة شديدة الشبه بتلك الماثلة الآن في القاهرة، التي أخذت تصريحاتها ذات الطابع القومي الثوري الاشتراكي تبشّر بآمال عريضة في المنطقة، وأخذ الاعتقاد يزداد حول كون زمان الناصرية المنتصرة آخذ في التقدم باتجاه ذروة جديدة في بلدان أخرى كلبنان التي اتجه أنصار الوحدة فيها إلى التعبير الصريح عن رغبتهم في اللحاق بقافلة الوحدة المظفّرة.... لم تكن هناك حدود معينة للجمهورية التي اعتزم عبد الناصر إنشاءها بداية مع سوريا في الوقت الذي كانت عيناه تنظران بشغف شديد إلى اليمن والعراق خاصة بعد الإطاحة بالملكية في كل منهما، كيف لا وهو الذي أخذ على عاتقه تجسيد الأمة العربية في كيان واحد مستقل لمواجهة الامبريالية العالمية التي تقودها الولاياتالمتحدة ومن خلفها الصهيونية العالمية، يتجه بأنظاره لرسم فجر جديد لأمة جديدة دون أن يعي حجم الكوارث التي باتت على وشك الانفجار تدريجيا في وجه هذا الحلم العربي التي كانت العراق منبعا لشرارتها الأولى... فعلى عكس كل التوقعات أخذ الماركسيون على امتداد الوطن العربي لاسيما العراق يميلون إلى تعكير الصفو العام لعبد الناصر ملتقين في ذلك مع الشيوعيين الذين يعارضون مثل هذه الوحدة المحتملة بين بغداد والقاهرة، بعد أن مثّلت لهم تلك الوحدة ارتدادا إلى الوراء على أساس كون الحركة الثورية في بلاد الرافدين أكثر راديكالية من نظيرتها في وادي النيل، فها هو العميد عبد الكريم قاسم الذي وصل للتو إلى سدّة الحكم قد استند إلى جمع حكماء مؤلف من القوى السياسية التي كوّنت قاعدة نظامه ممثلة بالأساس من الشيعة والأكراد أكبر الطوائف العراقية عددا، طائفتان تُحرّم الدخول في أي اتحاد من شأنه أن يَمحي هويتها ويدمجهما في كيان عربي سيء حتى أخذت تلك الدعوات تجد لها الصدى في الأوساط العراقية التي لم تكن راغبة في الذوبان داخل الجمهورية العربية المتحدة حتى وصل الأمر إلى العاصمة القاهرة التي اصطف فيها الشيوعيون المصريون وراء رفاقهم العراقيين قبل أن يتم اعتبارهم بمثابة الخونة لبلادهم وللأمة العربية وتنهال مَوجة الاعتقالات لا عليهم فحسب، بل امتدت لتطال العديد من المفكرين الليبراليين واليساريين ممن استنكروا على الدوام البونابارتية الناصرية الذين أعلن عبد الناصر وبعد خمسة أعوام (يوم اللقاء) نيته في الإفراج عنهم وتمتيعهم بالحرية بعد أن تضرّرت صورته وبدا راغبا في مخاطبة الرأي العام العربي الذي لم تكن أكثريته تأنس إليه من جهة، وتثبيت نظامه الذي أخذ يتزعزع نظير سقوط الوحدة قبل ذلك بعامين فقط... وحدة الشعوب لا وحدة الدول رويدا رويدا أخذت خطوات عبد الناصر الرامية إلى الوحدة العربية تترنّح وتمشي بخطى بطيئة قبل أن تتكسّر أرجلها بعد الإطاحة بعبد الكريم قاسم في العام 1963 بالعراق ووصول خلفائه من حزب البعث المنافسين للناصرية إلى سُدّة الحكم هناك حتى بات عبد الناصر يحاذر منهم إلى درجة الوسواس، مُعتبرا أن هذا التنظيم البعثي الجديد هو الذي تسبّب في انهيار الجمهورية العربية المتحدة، وبالتالي وجد عبد الناصر نفسه مُجبرا على إعادة النظر في الماضي مُعلنا إغلاق المعتقلات السياسية وبدء مشروعه الوحدوي والعدول عن الوحدة العربية التقليدية مانحا إياها محتوى مذهبيا متهافتا ذاهبا إلى القول لا يمكن تحقيق الوحدة إلا بين الشعوب ذات الأهداف المشتركة، محاولا الإشارة بصيغة أخرى إلى أن الاشتراكية والتصدّي للامبريالية والمشتركات الثقافية والدينية لم تعد كافية لتحقيق هذه الوحدة التي يجب أن تنطلق بداية من وحدة الشعوب التي حلّت مكان وحدة الأوطان، وبالتالي إن كان لذلك أن يتحقق (كما أردف عبد الناصر)، فإن كونفدرالية مزوْدة بمجلسين أحدهما مُنتخب وفقا للتمثيل النسبي والآخر يُمثل الدول الأعضاء بالتساوي قد تفي بالمصالح النوعية للشعوب المعنية حتى بدا واضحا للجميع حينها أن السوق المشتركة، كما تصوْرها الجنرال ديغول، قد أضحت تمثل النموذج الأسمى لبعد الناصر. هكذا انطلق عبد الناصر سريعا إلى تمجيد وحدة الشعوب بعد أن أقنع نفسه بأن صيانة هذا المذهب لن يكون عصيْ على الإدراك والتنفيذ على الأقل في المستقبل القريب، فسارع إلى مقاومة الضغوط التي مورست عليه لإبرام الوحدة بين مصر واليمن التي قامت في نهاية العام 1962 ضد القبائل المأجورة من قبل الملك المخلوع والمملكة العربية السعودية مؤازرا للشعب السني من الأكراد العراقيين في مطالبهم القاضية بالحكم الذاتي واصفا قادة بغداد الجدد بالشوفينية، مُعززا ذلك بدعوته إلى تحرير فلسطين والدفاع عن المقدسات الإسلامية فيها التي تُدنّسها الصهيونية العالمية حتى رَمَتْ به تلك التطلعات والدعوات إلى قلوب الملايين من الشعوب العربية رغم معارضة زعماء البعض منها (الجزائر وليبيا) لسياسات عبد الناصر، خاصة العقيد الليبي الذي انطلق إلى التقليل من شأن عبد الناصر بعد رفض هذا الأخير الطلبات المُلحة للقذافي الرامية إلى إعلان الإتحاد بين البلدين. كان واضحا أن عبد الناصر يسعى من كل هذا وذلك إلى تهيئة مساحة خلفية سرّية صديقة لبلاده تقبل من جهة استيعاب فائض السكان المصريين ومنتجاتهم الزائدة عن الحاجة، وتكون قاعدة شعبية عريضة لممارسة الضغط على الدول العربية النفطية المصنفة كملكيات رجعية، وإجبارها على تخصيص جزء من دخلها لتنمية الشعوب الشقيقة الفقيرة إلى الموارد الطبيعية وعلى رأسها مصر، كل ذلك لتعزيز السطوة السياسية التي يزمع ممارستها على الجماهير العربية والتي سيسعى من خلالها إلى إحداث تضامن عربي كامل يرمي أساسا إلى تقوية الدور الذي تلعبه مصر على الساحة العربية والدولية. لاجئون ضيوف وحلفاء محتملون كانت تجسد تلك السياسة الناصرية ظاهراً للجميع في مقهى نايت آند داي Night and Day بفندق سميراميس المُطل على شواطئ النيل الخالد، كان ذلك النادي ذو الأبواب المفتوحة ليلا نهارا، كما يوحي اسمه، يُعد ملتقى للاجئين السياسيين العرب ممن كانوا أو سيكونوا فيما بعد من فئة الحكام ذوي الميول الناصرية في غالب الأحيان، إذ كان تقديرهم أن الوحدة العربية أيّا كان شكلها ومحتواها ستكون خليقة بتحقيق تطلعات كل منهم على حدة، إضافة إلى تطلعات عبد الناصر الذي منحهم اللجوء السياسي وأمدهم بأسباب الراحة والسكينة وضمن لنفسه حلفاء محتملين في الوطن العربي.