لست مناضلا معارا لجنوب إفريقيا، ولست حقوقيا تصدى مع سود هذا البلد للعنصرية، ولست مدعوا إلى حضور أشغال مؤتمر من مئات مؤتمرات جنوب جنوب التي تستيقظ وتنام عليها؛ لكنني كنت كبقية زملائي الصحافيين نطارد خيط دخان اسمه المنتخب الوطني في محفل كروي قاري. في جوهانيسبورغ نصحني عبد السلام حبيب الله، رئيس الجمعية المغربية بجنوب إفريقيا واتحاد الجاليات العربية، بزيارة منزل نيلسون مانديلا بمدينة سويتو التي لا تبعد كثيرا عن مقر إقامتنا في جوهانيسبورغ، ومعتقل روبن إيسلند المتاخم لمدينة كيب تاون الذي قضى فيه الزعيم الإفريقي الجزء الأكبر من رحلة اعتقال دامت 28 سنة، بينما أوصاني مهاجر مغربي آخر بالابتعاد عن السياسة والاكتفاء بزيارة حديقة الحيوانات الوطنية جنوب جوهانيسبورغ للقاء أسود وفيلة وفهود تقضي في الأدغال حياة سراح مؤقت. طاردني المثل القائل «حجة وزيارة» وظل يحرك في دواخلي ما تبقى من فضول صحفي تسدده الكرة تارة نحو الملاعب، وتحيله السياسة على تاريخ بلد رمت به الجغرافيا في قدم القارة السمراء دون أن تباعد بينه وبين التنمية. وقفنا أمام الزنزانة التي أقام فيها مانديلا مدة طويلة، لكن لكي تدخلها وتعيش خمس دقائق خلف قضبانها، عليك أن تؤدي ثلاثين أوروها، تساءلت بسذاجة كيف تحولت الزنزانة إلى معتقل مدر للدخل، لكن نيلسون أدى ثمن اعتقاله غاليا حين تعايش مع كل الأمراض في مكانٍ ما إن تدخله حتى تصبح خارج التغطية الزمنية والهاتفية. لأول مرة أرى في حياتي زوارا للسجن وهم يتسابقون لقضاء لحظات سعيدة في زنزانة طولها متران وعرضها متر واحد، فقد كان طابور الراغبين في الاستمتاع بدقائق تحت الحراسة النظرية طويلا، وكانت كاميرات الهواتف النقالة تؤرخ لحدث الاعتقال السياحي، وعلامات الحبور بادية على محيا «المعتقلين». لم نوقع في السجل الذهبي للزنزانة التاريخية، وحين سألت القائم على المعلمة «العقابية»، رد بنبرة غاضبة: «السجل مخصص للمشاهير». حينها، تبين أن السجن ليس للجدعان بل حتى السجل وانصرفت خوفا من إقامة دائمة في الزنزانة. في هذا المعتقل الرهيب، أصبح الاعتقال بضاعة سياحية يتم ترويجها على نحو جيد، حتى رقم الاعتقال الذي حمله مانديلا في السجن 64-466 أصبح متداولا في حملات مكافحة السيدا وفي جمع التبرعات لفائدة جمعية نيلسون للطفولة. لا تكتمل زيارة جنوب إفريقيا إلا باعتقال طوعي في زنزانة المناضل الكبير، فقد حرص باراك أوباما، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، على زيارة زنزانة مانديلا، و«جرب» كثير من الزعماء حياة الاعتقال لبضع دقائق على سبيل الاستئناس، بل إن السجن الرهيب استقطب آلاف الزوار الذين يمنون النفس بدقائق في أشهر زنزانة في العالم. تذكرت معتقل تازمامارت الرهيب، وسألت مرافقي: ألا يستحق هذا المنفى السحيق أن يتحول يوما إلى مزار «سياحي» لمن يريد أن يعرف المعنى الحقيقي للاعتقال، ليس السالب للحرية بل السالب للحياة أو ما تبقى منها؟ ألا يحز في النفس أن يبقى آكل البشر مجرد مبكى «حقوقي» أشبه بمزارات الأولياء الصالحين لا تنقصه إلا الشموع والأعلام؟ عادت بي الذاكرة إلى درب مولاي الشريف الذي تحول إلى مقاطعة حضرية طَمست معالم المكان، واختزلت وجودها في فض نزاعات الباعة المتجولين وإنتاج شواهد الاحتياج وحسن السيرة والسلوك. تساءلت: متى تتخلص أشهر الزنازين في بلادنا من التبعية لإدارة السجون، وتصبح مرفقا ثقافيا يعيد كتابة التاريخ بحبر المصالحة، بعد أن تنال «رخصة» تراث ثقافي؟ على امتداد الرحلة البحرية الرابطة بين كيب تاون والجزيرة/المعتقل، كان الجميع ينبش في سيرة الزعيم الأسطوري، حينها تذكرت كثيرا من «المناضلين» الذين قضوا بضعة أيام في السجن وحين أمسكوا بعصا السلطة نكلوا بالبلاد والعباد، وأصروا على لعب دور السجان، قبل أن تخلدهم البلاد بوضع أسمائهم على الأزقة والممرات المنسية. عشرات المناضلين عاشوا تجربة السجن، لكنهم لم يجعلوا منه محطة ثانية للنضال بل حولوه إلى باحة للاستراحة، وحين غادروه تسلموا ظهائر التعيين دون أن يتحولوا إلى قادة وملهمين، فالثورة قبل الاعتقال خيار وأثناءه فلسفة وبعد الإفراج تصبح مجرد مؤنث للثور. غادرنا المعتقل دون أن يغادرنا، وعدنا إلى مدينة دوربان لنستنشق نسائم الكرة، في ملعب يحمل اسم مناضل إفريقي يدعى موزيس مابيدا، هناك عشنا نكبة جديدة مع منتخبنا الذي عجز عن تجاوز فريق مغمور اسمه الرأس الأخضر. أمام بوابة هذا الملعب، افترش عدد من المشجعين المغاربة الأرض من شدة الإحباط، فقد كانت نطحة الرأس الأخضر عنيفة. مرت الحافلة التي تقل في أحشائها لاعبين أغلبهم يغلق آذانه بسماعات اتقاءً لشر الاحتجاج، ورغم ذلك صاح رجلٌ جسدُه ملفوفٌ في علم المغرب في وجه رئيس الوفد: «نطالب بإيداع هذا المنتخب في زنزانة مانديلا إلى أجل غير مسمى».