سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
«مستقبل الثقافة في مصر» لطه حسين.. رؤية استشرافية من أجل تعليم عمومي يؤسس لمجتمع متقدم «مستقبل الثقافة في مصر» لطه حسين.. رؤية استشرافية من أجل تعليم عمومي يؤسس لمجتمع متقدم
منذ زمن بعيد ظل الكتاب يلعب أدوارا طلائعية في حياة الإنسان، ويساعده على التعرف على نفسه وعلى الآخرين. وعلى مر العصور ظهرت ملايين الكتب التي تم تداولها بين الناس، ولكن الكتب التي حافظت على رونقها واخترقت الأزمة والأمكنة قليلة. والسبب في ذلك راجع إلى أن القراءة حاجة قبل كل شيئ، ومن ثم فإن القارئ هو من يمنح الكتاب عمرا مديدا أو يقوم بوأده بمجرد ظهوره. وتلك الحاجة تمليها السياقات المختلفة للقارئ الذي يبحث عن أجوبة مقنعة لأسئلته الكثيرة عما يحيط به. فما الذي يجعل كتابا رأى النور منذ قرون موضوع اهتمام كبير، وما الذي يجعل كتابا حديث العهد محل إهمال كبير؟ وحدها «أمهات الكتب» هي التي تحافظ على راهنيتها وتخترق الأزمنة والأمكنة لتحيى بين الناس. أصدر طه حسين كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» سنة 1938، بعد الاتفاق الذي حصل بين بريطانيا ومصر، والذي منح المصريين سلطات واسعة في تدبير شؤون بلادهم. وشكل بذلك نقطة تحول كبرى بشرت بقرب جلاء الاستعمار. وهو ما يعني أن الكتاب سيعمل على رسم الملامح الكبرى لما كان يرى أن على الثقافة المصرية أن تنهض به في إطار الإصلاح الشامل الذي ظل طه حسين ومفكرون آخرون يدعون إليه. من هذه الناحية، فإن الكتاب يشبه إلى حد ما، في سياقه وبواعث تأليفه، «النقد الذاتي» لعلال الفاسي. وبما أن كتاب طه حسين أسبق إلى النشر لأنه صدر قبل «النقد الذاتي» بحوالي عقد ونصف من الزمن، فإن مقارنة بين الكتابين تشي بأن علال الفاسي تأثر بطه حسين على الأقل من حيث فكرة كتابه، التي لا تختلف كثيرا عن فكرة كتاب طه حسين. ومع ذلك فإنه ينبغي أن نسجل فرقا كبيرا بين الكتابين. في الموضوع أولا لأن «النقد الذاتي» اختار أن يسبح في كل المجالات، بينما «مستقبل الثقافة في مصر» اختص بجانب الثقافة والتعليم وما يتصل بهما، وفي المنظور ثانيا لأن طه حسين كان أكثر ليبرالية وانفتاحا من علال الفاسي. وعلى الرغم من أن عنوان الكتاب يوحي بأن اهتمام طه حسين انحصر في مصر دون البلدان العربية الأخرى، فإنه يطال في أفكاره وفي مواضيعه كل البلاد العربية نظرا للتشابه الحاصل بينها في وضعية الثقافة والتعليم بصفة خاصة. وهذا ما يفسر أن كتاب طه حسين شكل إطارا مرجعيا لكل البلدان العربية أثناء كل محاولة من المحاولات التي تهدف إلى إصلاح التعليم. كما أنه كان موضوع بحوث وأطروحات جامعية في كل الأقطار العربية. ينبغي أن نذكر بأن زمن صدور الكتاب هو أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، وذلك لنؤكد على فكرة أكثر أهمية هي أن «مستقبل الثقافة في مصر» ما زال إلى الآن يحتفظ براهنية كبيرة. ذلك أن بعض المشاكل التي طرحها طه حسين وحاول أن يقترح لها حلولا، ما زال العالم العربي يعاني من انعكاساتها إلى الآن بعد مضي أكثر من ثمانين عاما. والقدرة على استشراف المستقبل بهذه الطريقة السديدة دليل على الوعي العميق والنظرة الثاقبة التي قادت طه حسين إلى تشخيص «الحالة» وإلى علاجها. ويبدو الكتاب إذا ربطناه بمؤلفات طه حسين التي سبقته منسجما مع «استراتيجية» هذا المفكر الكبير في الانتقال بالعالم العربي إلى مصاف التقدم. فالكتاب يأتي بعد عشر سنوات من مؤلفه المعروف «في الشعر الجاهلي»، الذي أزاح النزعة التقديسية عن التراث وتعامل معه باعتباره مادة علمية، وأثار ما أثاره من عواصف وصلت إلى دهاليز المحاكم. كما أنه أتى في سياق بناء الدولة الوطنية التي بدأت تستشعر ضرورة البحث عن مخرج للتحديات التي تطرحها مرحلة ما بعد الاستعمار. يبدأ طه حسين كتابه بمناقشة فكرة خاطئة، كانت وما زالت إلى الآن، تتردد بين الناس، مفادها أن الفارق الحضاري بين العرب والغرب، هو فارق نابع من فكرة الانتماء إلى الشرق، وبالتالي فإن «التخلف» هو قضاء وقدر ولا سبيل إلى تجاوزه. ولذلك كان عليه وهو المطلع الجيد على الثقافة الغربية الحديثة أن يسفه فكرة الثنائية شرق/غرب كمدخل للدعوة إلى الاستفادة من التجارب التي مرت بها أوربا في مجال الثقافة والتعليم. ومن ثم طرح التاؤل التالي: هل المصري شرقي التصور والإدراك والفهم والحكم على الأشياء، أم هو غربي التصور والإدراك والحكم على الأشياء؟ ليجيب بعد الرجوع إلى وقائع تاريخية كثيرة وبعد تحليل مطول أن «العقل المصري منذ عصوره الأولى عقل إن تأثر بشيء فإنما يتأثر بالبحر الأبيض المتوسط، وإن تبادل المنافع على اختلافها فإنما يتبادلها مع شعوب البحر الأبيض المتوسط». إن طه حسين يدافع هنا عن فكرة أساسية مفادها أن الارتباط التاريخي الذي جمع الدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط، أقوى من أي ارتباط آخر، وبالتالي لا وجود لأي فرق جوهري بين العقل المصري وبين العقل الأوربي. من هنا فإن مصر عندما تستفيد مما وصلت إليه الحضارة الأوربية الحديثة فإنها إنما تعود إلى أصولها الأولى ضمن التفاعل الحضاري الذي عرفته هذه الحضارة. والمدخل الوحيد عند طه حسين لإعادة تحقيق الاندماج بين تلك الدول، وهو الذي ظل ثابتا في علاقاتها بعضها ببعض، هو العمل بأصل من «أصول الحياة الحديثة، وهو أن السياسة شيء والدين شيء آخر، وأن نظام الحكم وتكوين الدول إنما يقومان على المنافع العملية قبل أن يقوما على أي شيء آخر». إن هذا بالضبط ما جعل أوربا في السابق تستفيد من المسلمين، فما الذي يمنع من أن نستفيد منها اليوم. وقد اضطر طه حسين إلى القيام بمرافعة طويلة تدحض كل الحجج التي تبرر الدعوة إلى القطيعة مع الحضارة الغربية، وتناقش المسألة من زاوية دينية ومن زوايا أخرى. كل هذا ليؤكد في الأخير أن كل إنكار للدور الذي تقوم به الحضارة الحديثة في سبيل رقي الإنسانية وتطورها هو ضرب من النفاق، لأن كل واحد منا يستفيد منها بطريقته الخاصة. إن هذا التحليل أفضى به إلى دعوة المصريين والعرب إلى «أن نسير سيرة الأوربيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادا ولنكون لهم شركاء في الحضارة». والسبيل إلى ذلك هو بناء التعليم على أسس متينة. المدخل الثاني لإصلاح التعليم هو الديمقراطية. ويربط طه حسين في كتابه بين الديمقراطية وبين الاستجابة لشروط الحاة الكريمة: «يجب أن تضمن الديمقراطية للناس ما يقيم أودهم، ويعصمهم من عادية الجوع. ولكن يجب أن تضمن لهم بعد ذلك القدرة على أن يصلحوا أمرهم ويتجاوزوا ما يقيم الأود إلى ما يتيح الاستمتاع بما أباح الله للناس من لذة ونعيم الحياة». ومن شروط الوصول إلى هذا الهدف الاهتمام بالتعليم الأولي (الابتدائي) الذي لا يقبل عند طه حسين أي جدال. يرفض طه حسين أن تتنازل الدولة عن دورها في هذا المستوى من التعليم لأسباب ثلاثة: أولها أن التعليم الأولي يمثل الحد الأدنى بالنسبة للمواطن كي يعيش، وثانيها أنه يدعم الوحدة الوطنية لأن التلميذ يتربى على مبادئ تكرس ذلك البدأ. أما ثالثها فيضمن الاستمرارية للدولة الوطنية. ومن هنا دعا طه حسين إلى التشديد على إلزامية التعليم في هذه المرحلة، كما دعا إلى أن تسهر عليه الدولة وحدها دون الخواص. وبعد أن حلل أوجه التقصير في التعليم الأولي ألح طه حسين على أن دور الدولة لا ينبغي أن يقف عند هذا الحد، بل عليها أن ترعى التعليم في المراحل الأخرى بمثل رعايته في المرحلة الأولى. وهكذا ينطلق لإبراز أهمية التعليم الثانوي والعالي. فإذا كان الغرض من التعليم الأولي هو منح الفرد حدا أدنى من التعليم يمكنه من أن يعرف نفسه وبيئته ووطنه، فإن التعليم الثانوي هو قنطرة المرور إلى مجتمع المعرفة الذي يمثله التعليم العالي. وبذلك فإن كل مراحل التعليم ضرورية، ولكن بعضها يبدو أكثر إلحاحا وضرورة من البعض الآخر. كل هذا يعد بمثابة مقدمات لتشخيص ما نسميه اليوم «أزمة التعليم» التي بسط جوانبها طه حسين في كتابه، بدءا بازدحام المدارس بالتلاميذ الذي يضعف المستوى التعليمي، مرورا بمشاكل المعلمين وظروفهم الاجتماعية والمادية وطريقة إجراء الامتحانات وأزمة القراءة لدى التلاميذ والأساتذة معا ومشاكل الكتاب المدرسي، وانتهاء بالإرادة السياسية لإصلاح التعليم التي لا يمكن أن تتحقق إلا بالإيمان بمهمة التعليم وبخطورته وبقدسيته. ويقدم طه حسين عددا من الاقتراحات لإصلاح التعليم، أهمها إنشاء المجلس الأعلى للتعليم، الذي يتشكل من كل المتدخلين في العملية التعليمية، ويكون بمثابة قوة اقتراحية لحل المشاكل الطارئة ولوضع الخطط والبرامج، وإعادة النظر في تنظيم مراقبة التعليم بما يجعل منها عنصرا مكملا ومساعدا في العملية التربوية وليس سلطة كابحة (يقترح طه حسين استبدال كلمة مراقبة بكلمة إدارة). أما الجهاز الثالث الذي يقترح طه حسين إصلاحه فهو التفتيش الذي يدعو إلى توفير الظروف الملائمة للمفتشين للقيام بعملهم، وإلى نزع «الهالة» عن المفتش باعتباره مربيا أولا وقبل كل شيء. على أن أخطر ما في كتاب طه حسين هو دفاعه المستميت عن المدرسة العمومية، التي استشعر منذ ذلك الوقت خطورة الأجهزة عليها. ومع اعترافه بأن إمكانيات الدولة لا تستطيع أن تفي بكل الحاجيات، إلا أنه يرفض في نفس الوقت أن يكون الفقر حاجزا أمام الوصول إلى المراتب العليا في التعليم، فيقول: «أنا أرفض أشد الرفض وأعنفه أن يقصر التعليم على طبقة من الناس دون طبقة، أو أن يباح للناس جميعا في القانون، ثم تخلق المصاعب العملية أمام الفقراء والمعدمين لتضطرهم إلى الاكتفاء بالتعليم الأولي، وتفرض عليهم الجهل وقد كانوا يستطيعون أن يتعلموا...» يقدم طه حسين من أجل حل مشكلة تمويل التعليم العالي اقتراحا يتكون من شقين: الشق الأول يتمثل في أنه لا يلتحق بالتعليم العالي إلا من برهن على أنه قادر فعلا على العطاء فيه. وبالتالي لا مجال في رأي طه حسين لمؤسسة تقبل جميع الطلبة. أما الشق الثاني فيفرض على الأغنياء أن يؤدوا مقابل تعليم أبنائهم بما يخلق نوعا من التضامن الاجتماعي لا يحرم أحدا من متابعة دراسته إن كان قادرا على ذلك. «مستقبل الثقافة المصرية» في عمقه وجوهره رؤية متقدمة لإصلاح التعليم والنهوض بالثقافة في العالم العربي. ولذلك ظل إلى أيامنا هذه حاضرا باعتباره مرجعا أساسيا في كل محاولة لتقويم التجارب التعليمية. وقارئ الكتاب يحس بأنه لا يتطرق إلى قضايا تهم مجتمع النصف الأول من القرن العشرين، وإنما يجد فيه ما يشفي الغليل في ملامسة قضايا التعليم والثقافة في أوائل القرن الواحد والعشرين. وهذا ما يجعل منه دون شك كتابا استشرافيا. حسن مخافي