يختلف محمد امجيد عن بقية الشخصيات التي طبعت تاريخ المغرب بتنوع اهتماماته، فالرجل، على الرغم من تقدمه في السن، يعتبر ذاكرة حية يتعايش داخلها السياسي والرياضي والاجتماعي. بدأ امجيد حياته مناضلا إلى جانب المهدي بنبركة، وانتهى به المطاف فاعلا جمعويا، وخاض معارك ضارية ضد إدريس البصري، تارة، وضد الأحزاب السياسية، تارة أخرى، رغم أنه مارس السلطة ونال، طيلة ولاية كاملة، صفة نائب محترم.. تلك التي يمقتها. «المساء» تجوب تضاريس مسار شخص يملك أكثر من قبعة، ويرفض المغادرة الطوعية لكل أوجه النشاط. - هل انتهت علاقتك بإدارة السجون مباشرة بعد تجربة سجن «غبيلة»؟ < لم تكن تربطني أي علاقة بالإدارة العامة للسجون، أنا قبلت تسيير المعتقل نزولا عند رغبة بنجلون وبادو، والمهدي بنبركة، لهذا لم أتقاض أي راتب على المهمة، لكن المهمة الكبرى التي قمت بها كانت تتعلق ب14 جنديا مغربيا من القناصة، كانوا معزولين في جناح بالمعتقل، بعد أن فروا من الجيش الفرنسي وانضموا إلى المقاومة، لم يرتكبوا من جرم سوى أنهم هربوا من الفرنسيين نحو المغاربة فوجدوا أنفسهم معتقلين في سجون المغرب المستقل، قلت للمسؤولين: لا يعقل أن يستمر اعتقال هؤلاء مع أن المغرب نال الاستقلال، واستطردت قائلا: اللهم إن هذا منكر. وقد دفعهم وضعهم غير المعقول ذاك إلى القيام بحركة احتجاجية بعد أن حولوا حديد الأسرة إلى أسلحة حادة ونظموا هجوما على الإدارة. قررت أن آخذ الملف مأخذ جد، فاتصلت بمراقب الأمن الوطني بالدارالبيضاء عبد الرحمن السلاوي، وطلبت منه إمدادي ب«سطافيت» البوليس كي أسافر في اليوم الموالي إلى الرباط، على أن يتولى قيادتها مقاوم من أصدقائي بدل رجل أمن. كنت مصرا على إنهاء المشكل في أقرب وقت. اتصلت بإدارة السجون رغم أنه لا علاقة لي بها، فلا مراسلات بيننا ولا هم يحزنون، فأحالوني على قيادة الجيش، وكان الجنرال بلعربي وقتئذ في القيادة العامة للجيش؛ حيث استدعاني للاحتجاج على موقفي المدعم للعساكر، لكنني قلت له إنني لن أقبل ببقائهم في السجن، فاستجاب الجنرال لمطلبي وأفرج عنهم بعد قضاء ثلاثة أيام في ثكنة بالقنيطرة. - عينت أيضا باشا في مدينة آسفي، كيف مارست مهام المخزن وأنت المعروف بمواقفك التحررية؟ < عينت لفترة قصيرة جدا في هذا المنصب، لكنني لم أكن أتعامل كإداري، لم أطبق التعليمات والقوانين المعمول بها آنذاك، ولم أكن أعرف كيفية التعامل مع مذكرات وزارة الداخلية، أو طقوس الاجتماعات مع القواد ورجالات المخزن، لكن الباشا الحقيقي لآسفي آنذاك كان هو بلخدير.. كان رجلا طيبا ويحترم الجميع ولا يمارس السلطة. - اشتغلت أيضا كمدير للصناعة التقليدية، أليس كذلك؟ < استدعاني يوما أحمد بنكيران، وكان وزيرا للتجارة والصناعة، واقترح أن يسند إلي مسؤولية تسيير مديرية الصناعة التقليدية رفقة محمد بنعبد الرزاق. كذلك كان. وفي عهدنا ح، خرجت مجموعة من المشاريع إلى الوجود كدار الصانع التقليدي، ثم التعاونيات الخاصة بهذه الفئة؛ حصل هذا في بداية الاستقلال. ومع مولاي أحمد العلوي، رحمه الله، تم إنجاز مشروع القصبة والمطبخ المغربي الأصيل؛ ورفقة الأميرة للاعائشة، نظمنا كمديرية للصناعة التقليدية أول مهرجان للقفطان المغربي. - عدت إلى آسفي للانضمام إلى الحركة العمالية، هل قررت مقاطعة المناصب الإدارية؟ < كما قلت لك في السابق، فأنا لم أخلق لأمارس الإدارة، لأنني أمقت مساطرها والبيروقراطية التي تميزها أحيانا، لهذا عدت إلى مدينة آسفي بعد تجربة هامة مع الصناع التقليديين، لألتقي مجددا بالبحارة، حيث اشتغلت في قطاع تصبير السمك رفقة الجمالي وبناني وصبري، إضافة إلى بعض الفرنسيين. - في مدينة آسفي، كان المحامي الفرنسي الكبير جان شارل لوغران يتردد على بيتك، ما هي طبيعة العلاقة التي جمعتكما؟ < علاقتي بهذا الرجل الكبير، الذي نذر حياته للدفاع عن المغرب والمغاربة، تعود إلى سنة 1947، حيث كنت في مدينة مراكش أقضي نهاية الأسبوع رفقة أحمد الطيبي بنهيمة الذي أصبح فيما بعد وزيرا للخارجية، وكان حينها طالبا بثانوية محمد الخامس. في يوم أحد على ما أذكر، قصدنا مكاننا المفضل لتناول وجبة الغذاء ويسمى مطعم الباشا. وفي مكان قريب، كان يجلس رجل فرنسي الجنسية قوي البنية رفقة زوجته. تقدم نحونا المسؤول عن المطعم (وقد كان فرنسيا كذلك، يدعى بريغان، وكان رجل علم وكانت زوجته هي من يتولى تدبير المطعم بعد أن فوض لها أمره) ثم قال لنا إن الأستاذ (المحامي) جان شارل لوغران يريد أن يجالسكما، فأجبته على الفور قائلا نحن من سينهض إلى حيث يجلس. زوجته روز كانت محامية أيضا. كان الرجل من المتطرفين الفرنسيين، حيث كان يقود المظاهرات، فأعفي من مهامه كمحام في هيئة باريس. وقد جاء إلى المغرب من أجل فتح مكتب في بلد يحتله الفرنسيون، حيث كان المغرب يعيش حالة غليان، بعد أن مرت ثلاث سنوات على تقديم وثيقة الاستقلال. تحدثنا طويلا عن الوطنية والسيادة، واقتنع بأفكارنا، ثم تبادلنا العناوين وراح كل إلى سبيله. - هل أنشأ مكتبا للمحاماة في مراكش؟ < لا بل في الدارالبيضاء بالقرب من القنصلية الفرنسية، غير بعيد عن ألفا 55، كان نشاطه المقاومة، وكلما حل بمراكش أو آسفي إلا وزار منزلي حتى أصبح صديقا حميما لي، بل إنه دافع عن الكثير من القضايا التي كان فيها المغاربة في قفص الاتهام، وعرف بمواقفه المساندة للمغرب. وأذكر في هذا السياق أنه في تلك الفترة وقعت معارك في وجدة، ومات عشرات اليهود وحصلت ضجة في هذه المدينةالشرقية. الإقامة العامة عينته محاميا في القضية، كي يدافع عن الضحايا ضد مولاي الحسن الذي أشارت إليه أصابع الاتهام. فجاءني لوغران وقال لي إنه معين من الإقامة العامة وسألني حلا للمشكل، فطلبت الفتوى من حزب الاستقلال، لكنني لم أتلق أي رد.. لا أحد تحمل المسؤولية، لهذا كنت مضطرا إلى لقائه لأشير عليه بأن يحاول أن يكيف القضية عن طريق إعطائها بعدا دينيا، كي تنحصر في صراع الأديان. ومن مواقفه التي لازال التاريخ يذكرها له دفاعه عن مفجري قنبلة مرس السلطان ومارشي سانطرال بالدارالبيضاء، وأيضا موقفه في قضية وجدة حين مات عشرات المغاربة في معتقل بكوميسارية وجدة اختناقا بعد أن وضع البوليس والعسكر الفرنسي عشرات المسجونين المغاربة في غرفة لا يزيد طولها عن مترين، حيث أدان الفرنسيين بشدة في زمن كان يصعب فيه توجيه اتهام إلى المستعمر. - بعد الاستقلال، هل عاد شارل إلى بلاده؟ < عاد إلى فرنسا وهو غاضب من المغاربة، لأنه بالرغم من النضال الذي ميز مسيرته كمحام مدافع عن قضايا الشعب المغربي، فإنه عانى من تنكر بعض الأشخاص له، ففي إحدى الاحتفالات التي أقامها القصر، لم توجه إليه وإلى زوجته الدعوة بينما دعي أشخاص آخرون لا علاقة لهم بالوطنية. ومن المواقف التي لا أزال أذكرها له بكثير من التقدير والاحترام، إصراره على إرسال حوالة مالية شهرية إليّ كي أسلمها إلى خادمة مغربية تدعى هنية، كانت تشتغل في بيته طيلة مقامه في المغرب، وظل وفيا لهذه العادة لأنه كان يجعل سلوكه اليومي انعكاسا وترجمة لأفكاره الداعية إلى ضمان وصون الكرامة. - هل زارك مرة أخرى بعد حصول المغرب على الاستقلال؟ < نعم، لقد قام بزيارة للدار البيضاءومراكشوآسفي، وفي منزلي استقبل مجموعة من الشخصيات والعديد من الزوار الذين تقاطروا على البيت بمجرد علمهم بنبإ وجوده بيننا، منهم وجهاء المدينة وكثير من الفرنسيين. وقد تكلمت في تلك الأمسية عن الرجل، ليس من أجل مدحه بل للاعتراف، ولو شفويا، بالخدمات التي أسداها إلى الوطن والتي كانت أكثر بكثير مما يدعيه بعض الوطنيين المزيفين. وقال شارل كلمة شهيرة أمام الحضور أكد فيها عدم استحقاقه لكلمات المدح، مبرزا أن ما قام به في المغرب كان ينطلق فيه من واجبه المهني كمحام يؤمن بقضية ويدافع عنها بإيمان، وهذا هو الفرق بين المحامي المؤمن بالقضية والمدافع عن ملف من أجل الأتعاب.