ارتفاع مخزون سد عبد الكريم الخطابي بإقليم الحسيمة بعد التساقطات المطرية الأخيرة    المعارضة بمجلس المستشارين تنسحب من الجلسة العامة وتطلب من رئيسه إحالة مشروع قانون إعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة على المحكمة الدستورية    مسؤولية الجزائر لا غبار عليها في قضية طرد 45 ألف أسرة مغربية    نشرة إنذارية.. زخات رعدية قوية وتساقطات ثلجية وطقس بارد من الأربعاء إلى السبت بعدد من مناطق المملكة    أمطار وثلوج تنعش منطقة الريف وتبعث آمال موسم فلاحي واعد بعد سنوات من الجفاف    السلطة القضائية تنضم إلى PNDAI    "كان المغرب".. المنتخب الجزائري يتغلب على السودان (3-0) في أولى مبارياته في دور المجموعات    وهبي: الحكومة امتثلت لملاحظات القضاء الدستوري في "المسطرة المدنية"    مخطط التخفيف من آثار موجة البرد يستهدف حوالي 833 ألف نسمة    كأس إفريقيا للأمم 2025.. الملاعب المغربية تتغلب على تقلبات أحوال الطقس    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    توقيف شخص بحوزته أقراص مهلوسة وكوكايين بنقطة المراقبة المرورية بطنجة    "ريدوان": أحمل المغرب في قلبي أينما حللت وارتحلت    كأس إفريقيا للأمم 2025 .. منتخب بوركينا فاسو يحقق فوزا مثيرا على غينيا الاستوائية    قضية البرلماني بولعيش بين الحكم القضائي وتسريب المعطيات الشخصية .. أسئلة مشروعة حول الخلفيات وحدود النشر    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الأحمر    توفيق الحماني: بين الفن والفلسفة... تحقيق في تجربة مؤثرة    المخرج عبد الكريم الدرقاوي يفجر قنبلة بمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي ويكشف عن «مفارقة مؤلمة في السينما المغربية»        وفاة رئيس أركان وعدد من قادة الجيش الليبي في حادث سقوط طائرة في تركيا    شخص يزهق روح زوجته خنقا بطنجة‬    نص: عصافير محتجزة    وزير الصحة يترأس الدورة الثانية للمجلس الإداري للوكالة المغربية للدم ومشتقاته    رباط النغم بين موسكو والرباط.. أكثر من 5 قارات تعزف على وتر واحد ختام يليق بمدينة تتنفس فنا    أطروحة دكتوراة عن أدب سناء الشعلان في جامعة الأزهر المصريّة    الكشف عن مشاريع الأفلام المستفيدة من الدعم    بنسعيد: الحكومة لا تخدم أي أجندة بطرح الصيغة الحالية لقانون مجلس الصحافة    روسيا تعتزم إنشاء محطة طاقة نووية على القمر خلال عقد    المغرب في المرتبة الثامنة إفريقيا ضمن فئة "الازدهار المنخفض"    رهبة الكون تسحق غرور البشر    الاقتصاد المغربي في 2025 عنوان مرونة هيكلية وطموحات نحو نمو مستدام    الحكومة تصادق على مرسوم إعانة الأطفال اليتامى والمهملين    الأمطار لم توقّف الكرة .. مدرب تونس يُثني على ملاعب المغرب    بول بوت: العناصر الأوغندية افتقدت للروح القتالية    انفجار دموي يهز العاصمة الروسية    زلزال بقوة 6.1 درجات يضرب تايوان    كأس إفريقيا بالمغرب .. مباريات الأربعاء    فرنسا تندد بحظر واشنطن منح تأشيرة دخول لمفوض أوروبي سابق على خلفية قانون الخدمات الرقمية    عجز ميزانية المغرب يقترب من 72 مليار درهم نهاية نونبر 2025    فدرالية الجمعيات الأمازيغية تهاجم "الدستور المركزي" وتطالب بفصل السلط والمساواة اللغوية    مواجهات قوية للمجموعتين الخامسة والسادسة في كأس إفريقيا    انتصارات افتتاحية تعزز طموحات نيجيريا والسنغال وتونس في كأس إفريقيا    الأمطار تغرق حي سعيد حجي بسلا وتربك الساكنة    الذهب يسجل مستوى قياسيا جديدا متجاوزا 4500 دولار للأونصة    "الهيلولة".. موسم حجّ يهود العالم إلى ضريح "دافيد بن باروخ" في ضواحي تارودانت    طقس ممطر في توقعات اليوم الأربعاء بالمغرب    بكين وموسكو تتهمان واشنطن بممارسة سلوك رعاة البقر ضد فنزويلا    عاصفة قوية تضرب كاليفورنيا وتتسبب في إجلاء المئات    كأس أمم إفريقيا 2025.. بنك المغرب يصدر قطعة نقدية تذكارية فضية من فئة 250 درهما ويطرح للتداول ورقة بنكية تذكارية من فئة 100 درهم    بلاغ بحمّى الكلام    فجيج في عيون وثائقها        الولايات المتحدة توافق على أول نسخة أقراص من علاج رائج لإنقاص الوزن    دراسة: ضوء النهار الطبيعي يساعد في ضبط مستويات الغلوكوز في الدم لدى مرضى السكري    دراسة صينية: تناول الجبن والقشدة يقلل من خطر الإصابة بالخرف    خطر صحي في البيوت.. أجهزة في مطبخك تهاجم رئتيك    مشروبات الطاقة تحت المجهر الطبي: تحذير من مضاعفات دماغية خطيرة    من هم "الحشاشون" وما صحة الروايات التاريخية عنهم؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مقاربة أزمة الوعي العربي الإسلامي من منظور الفكر المقارن
هاشم صالح يقارب جذور الحضارة الأوربية في كتاب «مدخل إلى التنوير الأوروبي»
نشر في المساء يوم 06 - 09 - 2009

عندما انكب هاشم صالح على تأليف كتاب «مدخل إلى التنوير الأوربي»، لم يستحضر ألبتة أنه يكتبه للغير، بل اعتبر أنه يكتبه لنفسه. وأما الباعث على هذا الاعتبار فهو أنه شعر بضرورة أن يبوح بما يكمن في دواخله من ثورات ذاتية كانت تنفجر كلما تمثل حال العالم العربي والإسلامي، خاصة ما تعلق منه بمظاهر التخلف والارتكاس إلى أفكار باتت، في نظر المؤلف، بالية ووجب تغييرها تغييرا جذريا. ظهرت الطبعة الأولى من الكتاب في شتنبر 2005 عن دار الطليعة للطباعة والنشر ورابطة العقلانيين العرب.
يبدو واضحا أن تأليف هاشم صالح لهذا الكتاب هو رغبة شخصية كبيرة في تسمية الأسماء بمسمياتها بعيدا عن التمويه الفكري الذي مارسته مختلف التيارات العربية التي صنفت نفسها في خانة اليسار. يقول هاشم صالح: «كنت أشعر أن الأمور أعمق وأعظم. فقد كانت هذه الإيديولوجيات تتحدث عن كل شيء ما عدا الشيء الذي ينبغي التحدث عنه. كانت عاجزة عن تسمية الأشياء بأسمائها، عن تحمل مسؤولية الواقع ومشاكله الملتهبة، عن الحفر الأركيولوجي حتى تصل إلى أعماقها وجذورها.»
ولعل أكثر ما ركز عليه المؤلف في ثورته الشخصية هاته هو العلاقة باللاهوت الديني والأفكار التي انحرفت بالتفكير الديني الإسلامي إلى الفكر المتطرف، والذي أفرز العديد من علامات التراجع والكثير من مظاهر العنف الدالة على أن ثمة أشياء لم تسر كما ينبغي أن تسير في العالم العربي الإسلامي. وفي حديثه عن ذلك، يعرج، خاصة، على أحداث 11 شتنبر 2001 وتفجيرات مدريد الإرهابية، التي حملت الكثير من الإشارات البليغة عن أن الأصولية الدينية سائرة في نخر المجتمعات العربية الإسلامية في الوقت الذي تتطلع فيه هذه الأخيرة إلى معانقة عهد الإصلاح الديني والاجتهاد الفكري القادر على استيعاب التراث وتجاوزه نحو مستقبل الحداثة التي لا تتنافر والثوابت الدينية.
ويقر هاشم صالح بأنه ينطلق من التاريخ ليرسم صورة لحال عربي إسلامي متخلف اعتمادا على الرجوع إلى المسار التقدمي الذي مرت منه أوربا ومآلات صراع الأفكار التي أفضت إلى انتصار الفكر التقدمي على الفكر الرجعي.
ومن الأشياء التي حركت وعي المؤلف ودفعت به دفعا إلى مقاربة التاريخ الأوربي وطبيعة الأفكار التي مهدت لنشأة المجتمع الحداثي ما آل إليه الوعي الإسلامي الذي دخل في أزمة مع نفسه يصفها هاشم صالح ب «الرهيبة»؛ والتي سرعان ما تجاوزت الحدود المحلية لتصير بحجم العالم كله. وهو ما تجلى، كما يقول، في أن هذه الأزمة أصبحت «مشكل العالم كله كما حصل بعد تفجيرات 11 شتنبر و11 مارس 2004 في مدريد (...) وسوف تشغلنا عدة عقود من السنين.»
شروط التغيير
ولما كانت المقارنة أساسية بين الشعوب والأمم على مستوى قضايا الحضارة والتقدم والحداثة فإن المؤلف يستحضر الوعي المسيحي الأوربي ليخلص إلى أن «أزمة الوعي الإسلامي مع نفسه ومع الحداثة الفكرية والفلسفية لا تختلف في شيء عن أزمة الوعي المسيحي الأوربي مع ذاته ومع نفس الحداثة.» فيعود إلى مقاربة الأزمة الأولى التي وقعت عند الأوربيين قبل ثلاثة قرون والطريقة التي حُلت بها، لاسيما على مستوى صراع الأفكار الذي كان في صلب معركة عنيفة مازالت كتب التاريخ تذكر تفاصيلها.
وفي مقارنته تلك، يبقي هاشم صالح على الأمل في أن يتجاوز العالم العربي الإسلامي أزمته من خلال الإيمان بأن معركة تحرر العقل الأوربي تثبت للإنسان العربي، عامة، والمثقف خاصة، أن «خوض المعركة من أجل تنوير العقول ممكن وأن النجاح فيها ممكن أيضا.» لكن ثمة شرط أساسي يتوقف عنده المؤلف حين يقول: «الرؤية الجديدة للدين والعالم، أو للعلاقة بين الدين والمجتمع، أو بين الدين والسياسة، يمكن أن تنتصر على الرؤية القديمة حتى ولو كانت راسخة الجذور في العقلية الجماعية منذ مئات السنين. ولكنها لن تنتصر إلا بعد تفكيك العقلية القديمة واقتلاعها من جذورها عن طريق تبيان تاريخيتها ونزع القدسية عنها.»
لكن الحديث عن التغيير يفترض الإحاطة بعدد من الشروط التي تؤسس المجال العام الذي يتحقق فيه التغيير والتحرر العقلي؛ منها شرط الإصلاح الديني، وشرط الممارسة السياسية، وشرط التمهيد المجتمعي للتغيير... وفي ذلك ثمة مستويات أخرى تطرح مشكل الأولوية انطلاقا من أهمية كل واحد منها مقارنة بالآخر. هنا يدعو المؤلف إلى ضرورة أن يسبق الإصلاح الديني الإصلاح السياسي، ويعتبر أن دعوة بعض المثقفين العرب إلى تقديم الثاني على الأول كان خطأ تاريخيا ينبغي تداركه في أي محاولة لمقاربة من هذا القبيل. إذ يرى أن المجتمعات مهما انسجمت أطيافها الدينية ومذاهبها العقدية ( إذا وُجد هذا الانسجام فعلا) لابد أن تنفجر تحت ضغط ما، طالما لم يتم الحسم في الإصلاح الديني قبل السياسي.
وأثناء تحليله لشرط الإصلاح الصحيح والأولى، ينتقد المؤلف أولئك المثقفين الذين لا تتعمق الحداثة عندهم إلى أبعد من مجرد قشرة سطحية تخفي الكثير من الترسبات التقليدية الطائفية، ويدعون الدفاع عن قيم الحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان والحال أنهم عاجزون عن «تفكيك القديم الموروث والمتحنط.».
وفي نقده لهؤلاء الذين «قالوا إن التنوير شيء قديم يعود إلى القرن الثامن عشر: أي إلى مائتي سنة إلى الوراء» يطرح هاشم صالح السؤال التالي:» (التنوير) قديم بالنسبة لمن؟» ثم يستطرد في ذكر أمثلة لشعوب عربية يبين المؤلف أن سؤال التنوير مازال قائما فيها، بل يجد فيها كل شروط وضع السؤال، فيما يقر بأن التنوير لم يعد يطرح في المجتمعات الأوربية التي تجاوزته بكثير نحو آفاق أخرى من التحرر والتقدم والانسجام.
إن ما يعيشه العالم العربي الإسلامي من مظاهر التردد والتردي الفكري هو دليل على غياب رؤية موحدة وفاعلة لمشروع قادر على استنباط ما يمكن استنباطه من تجارب الآخر. هذا الآخر هو اليوم ينظر إلينا نظرة تعال لأن زاوية النظر ليست بنفس درجة الحدة التي ينبغي أن تكون. وإذا كان هذا الآخر يسعى اليوم إلى الإسهام في تحقيق هذا التطلع المشروع للأمة العربية الإسلامية، فمسعاه ما زال لم يتجاوز مرحلة الحذر والخوف والمساعدة المحتشمة التي تبقى رهينة عتبة التوصيات؛ ومنها توصية تغيير مناهج التعليم والإسهام في دعمها. إلا أن المؤلف يعتبر أن الإسهام الأوربي، مثلا، في هذا الباب يبقى ضعيفا أمام حجم الأزمة المستفحلة على مستوى الفهم الأصولي المنغلق للدين، فيدعو إلى ضرورة أن «تكون المواجهة على مستوى القضية الشائكة والمهمة والتاريخية.»
أما شروط المواجهة فتبتدئ من وضع أسس للتعليم العقلاني للدين الإسلامي، الذي «يمكن أن يحل تدريجيا محل التعليم الظلامي السائد حاليا» قبل أي سبيل آخر؛ كما أن فرض التغيير بالقوة ومحاولة استنساخ الديمقراطية وحقوق الإنسان والحداثة في بيئة لم تنبت فيها هذه القيم بشكل طبيعي لا يمكنه أن ينجح: «ينبغي أن نعطي الوقت للوقت لكي تنضج الظروف والأفكار وتصبح المجتمعات جاهزة للتغيير الحقيقي. أما استعجال الظروف وحرق المراحل والتغيير القسري من الخارج فيؤدي إلى رد فعل عنيف وهائج، كما نلاحظ ذلك في العراق حاليا.»
يعود هاشم صالح إلى أوربا القديمة قبل الإصلاح الديني مع انفجار أفكار لوثر في وجه المجتمع الأوربي المسيحي المنغلق ليقيم الدليل على صحة التناوب بين المراحل التاريخية وتعاقب الحقب والأفكار. فقد جاءت الثورة الفرنسية لتغير واقع الظلمة الإقطاعية والأصولية والاستبداد، قبل أن يحل التنوير الفلسفي والانفجار الثوري وتزول الأزمة.
في الإطار ذاته هنالك من يرى اليوم أن الغرب يعيش أزمة أخرى هي أزمة العولمة الرأسمالية الفوضوية. إلا أنه ليس في هذه الأزمة الجديدة – إذا صح وجودها – ما يدعو إلى الاعتقاد بأن الغرب العقلاني المتقدم بني على أسس مغلوطة، بل هي أزمة تسير بالغرب إلى ما بعد الحداثة. ويشدد الكاتب، في هذا السياق، على أنه «لا ينبغي أن يفهم أحد أن هناك تراجعا عن التنوير، وانقلابا عليه...»، بل إن ما يحدث هو مراجعة مستمرة للحداثة من أجل تدارك عيوبها على ضوء المسار الذي قطعته حتى الآن. أما التخلي عن قيم العقل والديمقراطية وحرية المعتقد وكل ما تكرس خلال عهود الحداثة فغير وارد ألبتة. فلا تراجع عن تراكم قائم على العقل والأفكار العظمى والانسجام بين الذات والموضوع.
العودة إلى الماضي لصنع الحاضر
لابد من العودة إلى البدايات لفهم الحاضر، ولابد لهذه العودة أن تتوقف عند القرون الوسطى التي كانت فيصلا حاسما في تاريخ أوربا المنتقلة من مرحلة التخلف والأصولية إلى فترة التقدم والعقل. فالصراع ضد هذه القرون هو الذي ولد الحداثة. إلا أن المفهوم يطرح إشكالات عدة على مستوى المعنى الاصطلاحي والدلالي. العصور الوسطى «تفصل بين الحضارة اليونانية- الرومانية وبين العصور الحديثة.» إلا أنها ليست منسجمة كما قد توحي به التقسيمات الزمنية، وبالتالي «فمن الظلم، يلاحظ المؤلف، أن ننعت القرون الوسطى بأنها مظلمة كلها بنفس الدرجة، أو أنها معادية للعلم والعقل من أولها إلى آخرها.»
ومن سمات القرون الوسطى على المستوى الفكري أن كان الإنسان يكتفي بظواهر الأشياء دون الغوص في تفكيكها لغاية كشف حقيقتها، التي كانت تعتبر، بالنسبة للإنسان الوسيطي، أنها موجودة في الاعتقاد أو قانون الإيمان المسيحي.
ويضرب المؤلف مثالا لما كانت تمارسه الكنيسة من سلطة باسم النصوص والحقيقة الدينية المطلقة من خلال تذكيره بالإدانة التي أصدرتها في حق العالم غاليليو. وفي الوقت نفسه يركز على أن القرون الوسطى لم تكن على نفس درجة الظلامية الفكرية والدينية، بل تميزت بفترات متباينة من الوعي وبالتصاعد التدريجي لهيمنة العقل على مراحل إلى حين اكتمل التغيير وتجلت بشكل واضح بوادر الحداثة خاصة على مستوى ظهور الجامعات والتطور الحضري والتجاري، إذ لابد من الربط المنطقي بين الحداثة والتطور الاقتصادي.
بدأ العالم الأوربي المسيحي يغادر بؤرة الانحباس الحضاري ليلج عصر انبثاق الأزمنة الحديثة، ويدشن، أولا، عصر النهضة والإصلاح الديني في أوربا، الذي اتسم بتميز أوربا على بقية النطاقات الحضارية المجاورة خاصة النطاق الحضاري العربي الإسلامي، ثم النطاق الهندي والنطاق الصيني... حتى هذه الفترة، كانت أوربا ما تزال تجاور العرب المسلمين حضاريا. كان ذلك خلال القرن السادس عشر قبل أن تقفز أوربا قفزتها التاريخية الحاسمة ويتراجع العرب المسلمون.
وقد تميزت هذه الفترة بالتطور الذي حصل على مستويات عدة من عصر النهضة الذي يقول المؤلف إن «الكثيرين يطابقون بين عصر النهضة والقرن السادس عشر، ولكن الأمور أكثر تعقيدا من ذلك. فالواقع أنه ابتدأ منذ النصف الثاني من القرن الرابع عشر واستمر حتى بداية القرن السابع عشر، أي حتى ظهور ديكارت والثورة الغاليلية. بعدئذ ابتدأت الحداثة الفعلية»، قبل أن تلتئم عوامل التوسع التجاري والاكتشافات الجغرافية والتحرر من التردد على مستوى الأفكار الحداثية واللاهوتية...
وعلى طريق تفسيره للمراحل التي قطعتها أوربا نحو الحداثة يتوقف المؤلف عند شخصيات مهمة من عصر النهضة من باب الاعتراف بما كان لها من قيمة على مستوى الأفكار، خاصة على مستوى «الحركة الإنسية أو الإنسانية». وفي ذلك يأتي على ذكر كل من فرنسيسكو بيترارك ولورنزو فالا وإيراسموس...
أزمة الوعي الأوربي
يحدد هاشم صالح بداية تبلور التناقض بين الوعي الأوربي مع نفسه في العام 1685، بل قبل ذلك بقليل نتيجة لبروز رؤية جديدة للعالم تزاحم الرؤية المسيحية التقليدية السائدة. وإذ يعود المؤلف إلى هذا التاريخ فلأنه يعتبر أن الرؤية العلمية الجديدة ظهرت مع اللحظة الغاليلية، لا بل لحظة ظهور كتاب «المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية» لإسحاق نيوتن ومع الفكر الديكارتي. وكانت هذه الثورة العلمية هي اللبنة الأولى لثورات لاحقة حدثت في القرن التاسع عشر والقرن العشرين.
وتتابعت القطيعة الإبستمولوجية بين الماضي المسيحي والحاضر العلمي نتيجة عدة عوامل يتداخل فيها ما هو داخلي نابع من صلب المسيحية نفسها وما هو خارجي موضوعي. فقد بدا أن رجال الدين صاروا يفقدون مصداقيتهم من خلال تورطهم في التناقض بين ما يقولون وما يفعلون؛ زد على ذلك أن الكثير من رجال الدين لم يعودوا يكترثون بوضعهم الاعتباري، بل أصبحوا أفرادا بارزين بين أغنياء المجتمع، وباتوا يشكلون جزءا من الأرستقراطية التي تعمر القصور الحاكمة. ينضاف إلى هذا وذاك، التدهور الذي طال المسيحية على إثر «الأحداث الجماعية الكبرى التي هزت أوربا والمتمثلة في الحروب المذهبية، ومحاكم التفتيش، وملاحقة العلماء والمفكرين وحرقهم أو تصفيتهم جسديا.»
وبين العام 1685 و1715 بدأت بوادر عقلانية جديدة غير مسيحية تتبلور بشكل واضح، مدشنة أزمة وعي أوربي كبيرة. إلا أن الأزمة لم تكن لتأتي بنتائج سلبية. فقد كان من حظ أوربا أن تمخضت عن الأزمة ولادة جديدة عنوانها الحرية والقوة.
وفي خضم هذه التغيرات، لابد من وقفة تساؤل حول مفهوم التنوير كما ساد إبان حركة الانفصال عن التقليد المسيحي نحو مرحلة الانعتاق وتحقيق الذات. هنا يعود المؤلف إلى مجموعة من التعريفات التي قال بها العديد من الكتاب والباحثين الأوربيين. فالبروفسور رولان مورتييه يعتبر أن المفهوم كان دينيا في البداية قبل أن يتعلمن على يد الفلاسفة في عصر العقل، أي في القرن التاسع عشر...
ومع مرور الزمن، بدأ مصطلح التنوير يتخلص من «الهالة الدينية المسيحية لكي يدل على عصره بأسره: هو عصر التحرر العقلي والفكري في القرن الثامن عشر»، فراح يتحول إلى شكل المشروع الفكري والنضالي الذي جاء لينقذ البشرية الأوربية وغير الأوربية من ظلمات العصور الوسطى وسيطرة رجال الكنيسة.
بيد أن هذا المشروع لم يعلن عن نفسه بصراحة مخافة إثارة غضب الكنيسة إلا مع المفكر كوندورسيه، حسب المؤلف؛ خاصة في كتابه «مخطط بيان تاريخي لتقدم الروح البشرية» (أو العقل البشري) (1794)، ليتابع مفكرون آخرون الطريق بعد أن تراجع نفوذ الكنيسة. وكان من بين هؤلاء فولتير وديدرو وروسو... الذين تبين كتاباتهم مدى الفرق بين عصر بداية التنوير وعصر تكريسه بشكل ملموس وعلني.
رواد التنوير الأوائل
يصنف هاشم صالح كلا من بيير بايل وغاليليو وبوسويه ضمن الرواد الأوائل الذين كان لهم سبق التغيير الفكري الممهد لبلورة مشروع التنوير الأوربي.
وقد برز الأول في الفترة التي تزامنت مع الفصل بين واقع القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر من خلال الإفصاح عن وعيه الجديد الذي تميز بالشك في عقيدته الدينية التي ارتكبت باسمها المجازر والحروب الأهلية. إلا أنه لم يتخل نهائيا عن عمق إيمانه الديني لأن هذا الأخير راسخ في أعماقه. وقد مهدت أفكار هذه الشخصية الفرنسية لأفكار فولتير بعده.
أما غاليليو فقد حاول التوفيق بين العلم والإيمان انطلاقا من قناعته بأن المعنى الحقيقي للكتابات المقدسة لا يمكنه أن يقع في حلة تناقض مع أية حقيقة فلسفية كانت أم علمية فلكية وإن كان بلغ درجة أخرى من الاعتقاد من خلال عبارته الشهيرة التي قال فيها: «إن هدف الروح القدس في النصوص الدينية يكمن في تعليمنا كيف نذهب إلى السماء، وليس كيف هي مصنوعة السماء.» «بمعنى، يفسر هاشم صالح، أن الكتب الدينية تعلمنا كيف يمكن أن ننال رضى الله ونذهب إلى الجنة، وليس التركيبة الفيزيائية أو الفلكية للسماء، فهذه من اختصاص العلوم الطبيعية.»
أما جاك بنينيي بوسّويه فقد استدل به المؤلف لأنه كان من أبرز الأصوليين المناهضين للثورة العلمية. إلا أنه فشل في الوقوف ضد تيار العقلانية الجامح. لأن حركة التاريخ كانت أقوى من أن
يوقفها.
وأفرد المؤلف للمفكر الهولندي سبينوزا والفرنسي فولتير حيزا كبيرا من كتابه من خلال الحديث عن نشأتهما ومسارهما الفكري الزاخر بالأفكار وكونيته التي تجاوزت الحدود الهولندية إلى الآفاق الأوربية عند الأول والفرنسية عند الثاني؛ بالنسبة لسبينوزا فقد برز بقدرته وجرأته الكبيرة في تفكيك الثوابت المسيحية التقليدية، لاسيما رفضه للعقائد الأساسية للمذهب الكاثوليكي، رافضا مثلا تجسد الله في المسيح أو القول بالقربان المقدس... التي اعتبرها أمورا من قبيل الخرافة ليس إلا. موازاة مع ذلك كان سبينوزا يؤمن بأن الدين يؤمن للبسطاء الطمأنينة النفسية، وعليه فمن غير المعقول حرمانهم من ذلك، بينما هو كان يستطيع التوصل إلى الطمأنينة بطريقته الخاصة.
فولتير هو الآخر كان له مساره الحاسم في تطوير الفكر العقلاني وتكريس التنوير الأوربي من خلال كتاباته وأفكاره حد أنه اعتبر منارة هذا التنوير. إلا أن المؤلف يتوقف عند الإشارة إلى أن فولتير كان يسير بسرعة تفوق سرعة زمانه. فأفكاره لاقت الكثير من المقاومة وعرضت حياته للخطر، بل إنه كان متفائلا أكثر من اللازم، لأن «عملية لحسم النهائي مع الأصولية المسيحية استغرقت أكثر من قرن حتى بعد موته.»
الاعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة يؤدي إلى الاستبداد
رغم كل الرغبة في الثورة على واقع الحال في عالمنا العربي الإسلامي، ينتهي المؤلف إلى الإقرار بأن مسيرة التخلف والنكبات والممارسات التي عانتها الشعوب العربية الإسلامية لا يمكنها أن تنسى بين عشية وضحاها. ومن هذا الباب، يدعو الغرب إلى تفادي نظرة القسوة على المسلمين. فالغرب، هو أيضا، عانى ويلات الأصولية لزمن طويل. ويعتبر أن مشكلة الأصولية لا يمكن فهمها إلا إذا عولجت ضمن منظور مقارن.
ولم تفت المؤلف الإشارة إلى أن الأصولية في عالمنا الإسلامي لم تعد حبيسة حدوده، بل باتت معولمة لا تعني المجال العربي الإسلامي أو الغربي، فحسب، بل تعني المجال المشرقي أيضا بعد أن هدم طالبان، مثلا، تماثيل بوذا التي تعتبر ذات قيمة حضارية كبيرة عند سكان بلدان جنوب غرب آسيا. أما «الاعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة دون بقية البشر، يكتب هاشم صالح، فيؤدي مباشرة إلى الاستبداد والتعصب الأعمى وإلغاء كل فكر آخر.»
ثمة تنبيه أشار إليه المؤلف عند دفاعه عن قيمة التنوير الفكري؛ يتعلق الأمر بضرورة الإيمان بأن التنوير الفكري له تداعياته الإيجابية على تطور المجتمعات العربية الإسلامية خلافا لما قد يعتقد بعض الذين يقولون إن التنوير صار اليوم محط انتقاد حتى في البيئة التي أنتجته، أي أوربا. وتبريرا لذلك يؤكد أنه إذا كان الأوربيون ينتقدون تنويرهم فلأنهم يريدون تصحيح نواقصه لا ليتخلوا عنه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.