كلما اعتقدنا أن سحابة الضباب الكثيف التي تجثم على المغرب ستنقشع إلا جاء ما يزيدها كثافة وغموضا. وإذا كانت ملفات معقدة بطبيعتها، مثل الحراك الاجتماعي وحملة المقاطعة وموجة قوارب الشبح التي تغري بالهجرة السرية، فإن عوامل أخرى تكشف كيف أن التعقيد والضبابية مقصودان ومرغوب فيهما لغايات مبهمة. آخر هذه العوامل تلك الأزمة المفتعلة بين حزبين، أحدهما يرأس الحكومة، وثانيهما يمسك بتلابيبها. وفي الوقت الذي تتصدّع فيه الحكومات في ديمقراطيات عريقة مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا بسبب خلافات في التقدير السياسي لمواضيع مثل الهجرة والتموقع الإقليمي والخيارات الاقتصادية، فإن حكومتنا نحن تتصدّع لأن وزيرا يعتبر الحزب الذي يقود الحكومة متآمرا ومخربا. فرغم كل الزوابع الرملية التي تعصف بنا هذه الأيام، لا بد أن نقول إن جزءا من مشكلاتنا يعود إلى كوننا مازلنا نعيش معركة لكسر العظم بين قوى متمكنة تقليديا من النظام السياسي المغربي وبين حزب العدالة والتنمية، ليس لأن هذا الأخير يحمل مشروعا ثوريا أو تخريبيا، كما قال وزير الشباب الطالبي العلمي، بل لأن صعوده جاء بواسطة قوة جديدة وغير معهودة ولم يتقبلها جزء من النظام السياسي المغربي، وهي القوة الشعبية المتطلعة للديمقراطية وموجة شبابية تريد تحرير الثروات الوطنية من قبضة المهيمنين وتخليصها من منظومة الريع. هؤلاء الذين “ينكدون” حياة المغاربة اليوم، ويربكون دولتهم لم تقنعهم كل تلك التنازلات التي فرضت حتى الآن ضدا على إرادة المغاربة، كما عبروا عنها بطريقة ديمقراطية. وكما أننا لا ندخر جهدا في انتقاد هذا الحزب وحكومته، فمن باب الإنصاف التأكيد من جديد أن هناك من مازال يحاول أن “يندّم” المغاربة على إقدامهم على التجديد لعبدالإله بنكيران ومنح حزب العدالة والتنمية حصة كبيرة من مقاعد البرلمان، رغم كل ما بدل من جهد لإضعافه وتقليص حجمه قبيل انتخابات 7 أكتوبر 2016. نعم، مهما خلطت الأوراق، فإن المشكلة والعطب الأكبر يكمن في السياسة، ليس لأن المغرب لا يعرف إشكالات اجتماعية واقتصادية ومحدودية في الموارد، بل لأن السياسة هي الأداة الوحيدة التي اهتدت إليها البشرية لتدبير الخصاص والندرة وبناء التعايش والتماسك كيفما كانت الظروف، ولأنها الوسيلة الوحيدة التي تمكن المواطن من المشاركة في التدبير وممارسة حقه في المراقبة والمحاسبة، لكن شرطها الوحيد لتحقيق ذلك، هو أن تكون ديمقراطية، وهو ما نفتقده. حزب العدالة والتنمية لا يخيف البعض لأنه إسلامي، كما يحاول البعض أن يدعي، بل إن خطيئة هذا الحزب في اعتقادي هي أنه لم يعد إسلاميا فقط، كما يُراد له، بل تحول في إحدى المراحل إلى مشروع حزب قابل لحمل تطلعات جميع الديمقراطيين في المغرب، قبل أن يقرر التخلي عن ذلك. حزب العدالة والتنمية، الذي يمعن البعض في معاقبة المغاربة بسببه، لم يظهر في يوم من الأيام ما يهدد الدولة، بل خطيئته أنه هدد بعض مواقع الهيمنة السياسية والاقتصادية، وفي خضم تلك المعركة امتلك هذا الحزب أداة تنظيمية لم يعهد النظام السياسي في المغرب مثيلا لها في الفعالية والحرص على استقلالية القرار. والذين يمعنون اليوم في إغراقنا في الفوضى والتيه، يسعون في الحقيقة إلى تأديب جزء من المغاربة الذين آمنوا أن من حقهم اختيار من يمثلهم، وتحدوا في ذلك آلة السلطة التي اعتادت أن تختار لهم. الرسالة الواضحة الوحيدة وسط الزوابع، هي أن قوى الريع والاستحواذ لن تسمح للمغاربة بتكرار المحاولة، سواء مع حزب العدالة والتنمية أو مع غيره. المثير في ما يجري هو أن الحزب الأول المعني بالاستهداف قرّر أن يتنازل ويستسلم، رغم أنه مقيّد بوعوده الانتخابية التي رفع فيها شعار محاربة الفساد والاستبداد (التحكم). حزب العدالة والتنمية اليوم، باتت له خيارات شبيهة بلاعب الشطرنج الذي يستشعر قوة خصمه، ويصرف كامل جهده نحو تفادي الوقوع في “شاه مات”، ويبحث في المقابل عن استدراج اللعبة نحو حالة التعادل. هذه الحالة تعني انتهاء اللعبة دون حصول “الإماتة” لأي من الطرفين، وهناك حالات متعددة لحصول التعادل، مثل تكرار الحركة نفسها ثلاث مرات أو قيام اللاعبين بخمسين نقلة دون أخذ أي منهما لقطعة تعود إلى الآخر. لكن ما يبدو أن حزب العدالة والتنمية اليوم يسعى إليه، أو يتجه إليه على الأقل، هو أن يصل إلى حالة المأزق أو تعادل “الملك المخنوق”، وهو عندما يضع اللاعب الطامح إلى التعادل نفسه في وضعية تجعل ملكه في وضعية سليمة، أي لا يوجد في وضعية “كش”، لكنه لا يستطيع القيام بأية نقلة لأن الخيارات كلها قاتلة. هكذا يحصل اللاعب على التعادل وإن كان خصمه متفوقا عليه من حيث تموقع قطعه وبيادقه أو عددهم.