قال السالمي، أستاذ العلوم الجيوسياسية بجامعة بيزانسون في فرنسا، إن الموجة الآتية من الثورات قد تضرب الملكيات أساسا. كيف تقرأ الخطاب المتصاعد حول موجة جديدة من ثورات الربيع العربي؟ هذا الخطاب نتاج قراءات علمية قدمها العديد من المراقبين الجادين للحقائق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المنطقة، جعلت الكثير من الصحف المحترمة، على غرار «فاينانشل تايمز»، والمجلات الأكاديمية المتخصصة مثل «فورين أفيرز»، تدق أجراس ربيع ديمقراطي جديد، بشكل استباقي، عكس المرة الماضية حيث فاجأ الجميع. وبطبيعة الحال، ما كان لهذه التوقعات أن تظهر وتتكاثر بهذه الحدة لولا الحراك الاجتماعي والسياسي الذي تشهده الكثير من بلداننا، والذي يثير ثلاث ملاحظات أساسية: الأولى، أن هذا الحراك فجرته الأسباب نفسها التي فجرت ربيع 2011، ألا وهي المؤشرات السوسيواقتصادية الحرجة، وفي مقدمتها معدلات الفقر والبطالة المرتفعة في أوساط الشباب، والتي تفاقمت مقارنة بما كانت عليه الأوضاع في 2010. الثانية، أن الزمن أثبت أن الدول التي بادرت إلى إجراء إصلاحات في المجال السياسي والاجتماعي والاقتصادي، لم تكن جادة في ذلك، بل كانت تهدف إلى الانحناء أمام العاصفة وكسب الوقت. الثالثة، أن الاختلافات الإيديولوجية، أو المخاوف من الإسلاميين بتعبير أدق، التي كانت عائقا أمام استماتة حركات 2011، ومهدت الطريق أمام الثورة المضادة، بدأت تتراجع لصالح المطالب الاجتماعية الملحة، والرغبة في الحد من الفساد المستفحل، والرغبة في إحقاق العدالة الاجتماعية. الرابعة، أن التطورات الإقليمية الدموية في سوريا واليمن وليبيا، التي كانت عائقا هي الأخرى أمام الحركات الاحتجاجية، وفزاعة توظف لصالح السلطوية، لم تعد كذلك اليوم، ما يوحي بأن الوضع وصل إلى حد لا يطاق. بالإضافة إلى الوضع الفوضوي في اليمن وسوريا وليبيا، والاحتقان في مصر، يلاحظ أن أقوى الاحتجاجات في السنتين الأخيرتين هي تلك التي ضربت الملكيات (الأردن، المغرب، السعودية…). هل تتوقع أن تضرب الموجة الجديدة الملكيات أساسا؟ الموجة الأولى لم تضرب الملكيات كما ضربت الجمهوريات، ليس بسبب الشرعية التاريخية أو الدينية كما يقال أحياناً، لكن لأن الملكيات سارعت إلى إجراء إصلاحات سياسية، مثلما حدث في الأردن والمغرب، حيث جرى تعديل الدستور، وإجراء انتخابات تشريعية سابقة لأوانها، وإصلاحات اجتماعية في دول أخرى على غرار السعودية. لكن هذه الإصلاحات لم تغير الجوهر السلطوي للأنظمة، ولم تصغ سياسات اجتماعية متوازنة، بل اكتفت بقرارات عابرة اتخذتها الأنظمة بهدف شراء السلم الاجتماعي. لقد سعت الملكيات إلى كسب الوقت، وبعد مرور العاصفة استعادت القبضة الحديدية، بشكل أقرب إلى الأنظمة الشمولية في تدبيرها مسألة الحريات الأساسية وحرية التعبير. خلاصة القول، إن الملكيات استنفدت كل أوراقها، وانقطع حبل الثقة بينها وبين رعاياها، وبالتالي، فإن الموجة المقبلة من المتوقع أن تضربها أساساً. هل المغرب معني بهذه الموجة؟ ولمن ستكون المبادرة فيها؟ المغرب معني بهذه الموجة، وكل المؤشرات تصب في هذا الاتجاه. على سبيل المثال، فإن البطالة في صفوف الشباب بين 15 و24 سنة فاقت 40% في المدن. أكيد أن المغرب أجرى إصلاحات دستورية في 2011، ورغم أنها احتفظت للمؤسسة الملكية بسلطات واسعة على حساب رئيس الحكومة المنتخب، فقد اعتبرت وقتها متقدمة قياسا بالماضي. أجريت بعدها انتخابات سابقة لأوانها أتت بحزب «العدالة والتنمية» المعارض إلى قيادة الحكومة، التي جرى تقويض عملها بتحالف أغلبي هش ضم أحزابا مقربة من الدولة العميقة، ما أفضى إلى تعثر أول تسبب فيه خروج حزب «الاستقلال» إلى المعارضة، في ظل سياق عام شهد تراجعاً كبيراً في مجال الحريات. لكن ما بات يعرف بانقلاب السادس من أكتوبر سجل نهاية المسار السياسي الإصلاحي بشكل نهائي، وعودة السلطوية بشكل قوي. بالتوازي مع هذا المسار، ظهرت حركات اجتماعية نوعية من حيث إصرارها وحدّتها وكثافة المشاركة فيها، عبرت عن تفاقم الوضع الاجتماعي والاقتصادي، بدءا باحتجاجات طنجة ضد ارتفاع فواتير الكهرباء، وبعدها حراك الريف، ثم جرادة وزاكورة، دون أن ننسى حركات أخرى أجهضتها الشرطة في مهدها باعتقال زعاماتها، كما حدث في بويزاكارن، وصولا إلى حملة «مقاطعون» التي تحتج منذ أشهر على ارتفاع الأسعار، وعلى المزج بين السلطة والمال الذي يجسد شكلا من أخطر أشكال الفساد. هكذا صارت المبادرة بيد الاحتجاجات ذات المطالب الاجتماعية الصرفة، والشباب المعطل، بعدما كانت في 2011 بيد المجتمع المدني والسياسي، الممأسس وغير الممأسس، أو لنقل الطبقة الوسطى بشكل أدق. واللافت للانتباه في الآونة الأخيرة هو دخول الجماهير الكروية على خط الاحتجاج الاجتماعي في العديد من المدن، وهي التي كانت غائبة تماما عن كل الحركات الاحتجاجية السابقة. في 2011، قدمت الدولة جوابا سياسيا، وخلال حراك الريف اختارت القمع والاعتقالات. بماذا ستجيب الموجة المقبلة؟ في غياب إرادة سياسية حقيقية لإجراء إصلاحات تؤسس عقدا اجتماعيا يمكن الشعب من اختيار حكامه ومحاسبتهم، ويوفر له العدالة الاجتماعية والحقوق الأساسية، فإن القمع والاعتقالات هي الخيار الذي ستتعامل به الدولة مع الموجة الآتية، رغم أن هذا الخيار أثبت محدوديته في إخماد الاحتجاجات. لقد رأينا في الريف، مثلا، أن القمع أتى عكس مفعوله عندما اصطدم بالهوية المحلية ذات الخصوصية التاريخية المعروفة، فوفّر للاحتجاجات حاضنة اجتماعية عصية على الردع والتفرقة. كما أن الأحكام التي صدرت في حق النشطاء في حراك الريف أثارت موجة استنكار غير مسبوقة من جميع الأطياف المجتمعية، بما فيها أوساط موالية للسلطوية، اعتبرتها استفزازا خطيراً، ما دفع المؤسسة الملكية إلى الإفراج عما يناهز 200 منهم. الدولة، في خطواتها الحالية، تعطي للعالم انطباعاً مفاده بأن القمع ليس خيارها الوحيد، إذ تقوم، في المقابل، بإنجاز الإصلاحات التي تباشرها تفاعلا مع هذه الاحتجاجات، كالسجل الاجتماعي، والنموذج التنموي الجديد الذي أعلن الملك أنه قيد التحضير. لكن السجل الاجتماعي أثار الجدل من حيث إمكانية تطبيقه، والمعايير التي يعتمدها، والفئات الأكثر استحقاقا، ومدى جدواه بالتالي. أما بالنسبة إلى النموذج التنموي، فإن ما تسرب، إلى حدود الساعة، يفيد بأننا بصدد استمرارية الخيارات السابقة ومبادرة للتنمية البشرية في صيغة جديدة، وبالتالي، فإنه من المرجح جداً أن نكرر الخطأ نفسه. في هذا الصدد نذكر أن حملة «مقاطعون» تطالب منذ أشهر بتفعيل مجلس المنافسة الذي جُمِّد منذ ثلاث سنوات. فلماذا لا يفعَّل رغم أن الداودي قال قبل خمسة أشهر إنه قيد التشكيل؟ هذا دليل واضح على غياب الإرادة السياسية لتفادي الأسوأ، وبالتالي، يستبعد تدبير الموجة الآتية من الاحتجاجات بخيار آخر غير القمع، الذي لن يحل المشكلة بقدر ما سيؤجج الوضع. إذا أرادت الدولة تجنب أي صدام جديد بالشارع، ما المطلوب منها القيام به؟ المطلوب من الدولة لتجنب أي صدام جديد أن تبدي إرادة سياسية حقيقية للإصلاح، كما أسلفت. وأول خطوة من شأنها إرسال إشارات قوية في هذا الاتجاه هي تدشين مصالحة وطنية جديدة. لقد رأينا كيف تفاعل المغاربة بإيجابية مع موجة العفو الملكي الأخيرة، وكذلك سيكون، أو بشكل أكبر، لو جرى الإفراج عن المعتقلين السياسيين جميعا، وإطلاق سراح الصحافيين. ثاني خطوة في هذا الاتجاه هي تفعيل مجلس المنافسة، الذي ينظر إلى تجميده باعتباره تساهلا مع الجشع الاقتصادي والافتراس، ما ألحق ضررا جسيما بحبل الثقة بين الدولة والمواطنين. وثالث خطوة، برأيي، هي إعادة الحياة إلى المنظومة السياسية حتى تتمكن من الاضطلاع بدورها في التمثيل والتأطير والوساطة على نحو أفضل. من المؤكد أن قرار الملك رفع الدعم الذي تقدمه الدولة للأحزاب يصب في هذا الاتجاه، لكن الإمكانيات المادية وحدها غير كافية في غياب إطار قانوني يعيد للأحزاب كرامتها وشرعيتها، وهو ما لن يتأتى لها في غياب إصلاح دستوري جديد.