تمر البشرية، بين الحين والآخر، بمنعطفات حاسمة في تاريخها، تنقلها من مرحلة إلى أخرى، بمعنى التقدم حينا والتخلف في حين آخر. اليوم ونحن نقرأ خريطة الأحداث المحيطة بنا، القريبة منها والبعيدة، نستطيع أن نخلص، دون كثير تردد، إلى دنو لحظة جديدة من لحظات التدمير الذاتي التي تصل إليها البشرية كلما أكملت إحدى دوراتها التاريخية. دون المجازفة بسلوك درب التوقعات والتخمينات، والجزم هل سنعيش قريبا حربا كونية جديدة أم لا؛ يكفي أن نسجّل الانكماش المتسارع لرقعة الديمقراطية في العالم. لنبدأ من أنفسنا أولا، ولنعترف بأن الشعوب العربية قد تدخل التاريخ من باب تسجيل أسرع دورة تاريخية عرفتها البشرية، حيث كانت عشر سنوات كافية لننتقل من حلم جماعي بثورات التحرر ودخول نادي الديمقراطيات، إلى انخراط شبه جماعي في بعث مومياءات الاستبداد من «قبورها». لنتذكر كيف أننا بشّرنا العالم قبل أقل من عقد من الزمن بالموجة الرابعة من الديمقراطية، وورّطنا مؤسسات بحثية وأكاديمية عريقة وذات مصداقية كبيرة في التنظير لدخول شعوب المنطقة العربية أخيرا عصر الديمقراطية بعد قرون من السبات. ما من شك أن واقع المنطقة العربية لا يقاس عليه وضع العالم، لكن، لسوء حظ جيل الربيع العربي، أن انكسار أحلامه صادف خريفا يعصف برياحه القوية بما ظل يسمى «العالم الحر»، أي تلك الرقعة من العالم التي انتصرت في الحرب العالمية الثانية، وحوّلت انتصارها إلى قطيعة مع ماضي الاستبداد واستعباد الإنسان. مسح سريع لأوربا الغربية يكشف أن هذا الخريف دشن زحفه من دول الواجهة المتوسطية، عبر أزمات اقتصادية وصعود قوي لتيارات اليمين المتطرف والعنصري، ثم لنتابع هذه الحيرة التي تسكن فرنسا منذ شهور في ظل ثورة «السترات الصفراء»، ولنكمل المشهد بهذا التيه الذي دخلته الديمقراطية البريطانية، وتخبطها بين استفتاء الانسحاب من أوربا، وتصويت البرلمان ضد اتفاق الحكومة مع الاتحاد الأوربي. وحتى ألمانيا القوية بمناعة اقتصادية لم تنجُ من هذا الخريف، والدليل صعود حزب يميني متطرف بقوة في البرلمان الحالي. حتى هذه الشبكات الاجتماعية التي خرجت في حقبة سابقة كمارد من القمقم في وجه الحكام العرب، تحوّلت إلى «هراوة» جديدة في يد الأقوياء، عندنا كما عند «العالم الحر». هنا جرى تقييدها بالقوانين والرقابة الأمنية واختراقها بالذباب الإلكتروني، وهناك جرى تسخيرها لخدمة الشركات الكبرى، وتحويل الإنسان إلى ما سماه كاتبان فرنسيان «الإنسان العاري» الخاضع «لدكتاتورية خفية في العالم الرقمي». الشبكات الاجتماعية ليست بالضرورة أداة تحرير وتمكين للمواطن، بل بات يتأكد تدريجيا أنها أداة توجيه وإخضاع وصعود الشعبوية، وفي أخطر الحالات، وسيلة لتدخل خارجي منفلت من السيادة الوطنية، والشكوك حول التدخلات الروسية في الانتخابات الأمريكية والفرنسية باتت تقترب من اليقين. هذا الغرب الذي اضطر، غداة الحرب العالمية الثانية، إلى ترجمة نفوذه في مستعمراته السابقة إلى ضغط على الأنظمة لتوسيع الحريات، والالتزام بحد أدنى من الديمقراطية، ولو في الواجهة، ينسحب اليوم مفضلا التفاوض مع الدب الروسي حول حد أدنى من اقتسام النفوذ. لنتابع فقط ما يجري فوق رؤوس السوريين من مساومات، وما تعيشه فنزويلا هذه الأيام من معركة قذرة قد تتحول في أي لحظة إلى مستنقع دموي، والأمثلة كثيرة. مؤسسة «ذي إيكونومست» البريطانية نشرت، قبل أيام، تقريرها السنوي حول حالة الديمقراطية في العالم، والخلاصة جاءت مريرة. الانحسار يتواصل بل يتسارع، ووحدهم 4.5 في المائة من سكان العالم ينعمون بالديمقراطية الكاملة، حسب معطيات 2018، فيما يرزح ثلث البشرية تحت سلطة ديكتاتوريات مطلقة. المؤسسة، التي تبيع تقارير مفصلة حول كل دولة على حدة، بنت سياستها التسويقية هذا العام على ترويج تقارير خاصة بما وصفته أكبر الدكتاتوريات الحالية في العالم، ديكتاتوريات فعلية أو صاعدة، تتقدمها الصين وروسيا والبرازيل والمملكة العربية السعودية وتركيا والفلبين… ليست الخطوة متاجرة بالمأساة الجماعية للبشرية، بقدر ما هي احتكام إلى منطق السوق والتجارة، ذلك أن ذوي المصالح عبر العالم باتوا مطالبين رسميا بوضع مخططاتهم وسياساتهم بناء على هذا الصعود الزاحف للدكتاتورية وانحسار الديمقراطية في العالم. لكن أخطر ما نعيشه في هذا التحول السريع الذي يشهده العالم، هو أن القارة الإفريقية، التي ظلت على هامش التاريخ الحديث، يستدرجها «القدر» لتصبح محورا لأكبر التقاطبات الكونية. فإذا كانت آسيا قد منّعت نفسها منذ الحرب العالمية الثانية بتنيناتها الاقتصادية، وأوربا متأهبة لنقل وحدتها السياسية إلى طابق أعلى من الاندماج لتعويض المظلة الأمريكية الآخذة في الانسحاب؛ وهي في جميع الأحوال مسلحة بتجربتها التاريخية التي ستمنعها حتما من تكرار مآسي القرن العشرين؛ فإننا، نحن الأفارقة، مدعوون إلى استقبال القوى الدولية الساعية إلى تصفية حساباتها عندنا. إن استراتيجية الإدارة الأمريكية التي أعلنها مستشار الأمن القومي، جون بولتون، أخيرا، والرامية إلى «تحرير» السوق الإفريقية لفائدة رؤوس الأموال الأمريكية، والطموحات المتعاظمة للدب الروسي، الذي استقبلنا وزير خارجيته في الرباط قبل يومين؛ وبينهما التنين الصيني الممسك بكثير من المفاصل الإفريقية؛ كل ذلك يجعلنا على أبواب كسوف ديمقراطي واستباحة جديدة لدماء وثروات آخر قارات العالم استضعافا. من تابع إحدى جلسات منتدى دافوس الاقتصادي العالمي الأسبوع الماضي، والتي أبهر فيها الرئيس الرواندي، بول كاغامي، العالم، بقيادته المعجزة التي يقود بلاده نحوها، جامعا بين الديمقراطية والتنمية المبنية على تمكين الإنسان؛ سيقتنع حتما بأن التاريخ حتى وهو يقوم بردّته الكبيرة، يحفظ للمنتصرين للإنسان مكانتهم. وسواء جرت تصفية حسابات الأقوياء، المتداعين إلى لقاء وشيك في إفريقيا، بمنطق الصفقات أو لغة السلاح، فإن المنتصرين للإنسان وحدهم سيجلسون لاحقا إلى طاولة توزيع الأدوار في عالم ما بعد الردة الحالية. فالكسوف، مهما خيّم ظلامه، تليه ولادة قمر جديد.