بعض الأشخاص لا يخفون فرحتهم باندلاع النيران كأي «مجوسيين» محترمين، إذا لم يتسببوا في إشعالها طبعا. الحريق، الذي شب في أحد أروقة معرض الكتاب والنشر في الدارالبيضاء، يكشف أن كثيرا من الناس يعشقون النار حقيقة، لا مجازا. المشهد يستدعي التأمل: اللهب كان يأكل المنشورات، وبدل أن يصنع شيئا من أجل إيقاف الكارثة، كان «كحل الراس» يلتقط الصور ب»البورتابل»، في انتظار أن يأتي الحريق على الرواق، وربما المعرض بأكمله، المهم أن يخلّد اللحظة الملتهبة بهاتفه الحقير. التلفون ذكي والموقف في منتهى الغباء. الحمد لله أن رجال المطافئ كانوا في الموعد، وإلا كنا نظمنا معرضا آخر لصور الكتب وقد تحولت إلى رماد، مع أجساد متفحمة لا قدر الله، مادام عشرات «الفنانين الفوتوغرافيين» تركوا كل شيء وتجوقوا حول «العافية»، شاهرين هواتفهم، ولم تفلت من عدستهم أي شرارة. كأنه نوع من التسلي أو التشفي أو التقصي عن أشياء تثير الدهشة والفضول. المغربي «برگاگ» بطبعه. منذ أن أصبحت التكنولوجيا توفر للإنسان آلة تصوير سهلة الاستعمال، بات شغل الكثيرين هو التقاط صور للحياة بدل عيشها، والتفرج على العالم بدل المشاركة في إحداثه، وتحويل كل شيء إلى فرجة. البعض يذهب بعيدا، وينشر صور أشخاص مريضين أو في حالة قصوى من الوهن على وسائل التواصل الاجتماعي، طالبا من سكان الكوكب الافتراضي أن «يدعيو معه»، وهو في الحقيقة يستحق أن «يدعيو عليه» أو «يدعيوه» أمام المحاكم. بكل بساطة، لأنه يقوم بانتهاك صارخ لكرامة شخص في حالة ضعف. للإنسان حرمة، والأعراف تقضي أن نصون كرامة المريض، لا أن نجعل من شخص في المستشفى أو على سرير الموت فرجة… كيف تتجرأ على التشهير بوالديك في «فيسبوك» و»أنستغرام» يا «مسخوط الوالدين»! هؤلاء الذين لا تهمهم إلا الصور، كيفما كان الحدث أو الموقف، ويسيئون أحيانا إلى أقربائهم، يضيّعون اللب ويمسكون بالقشور. ولو فحصنا مساراتهم سنجد أن معظمهم يعاني من مشاكل نفسية واجتماعية عويصة. يخبئون فشلهم في الحياة وراء نجاحات وهمية على وسائل التواصل الاجتماعي. يخفون تعاستهم باختراع سعادة افتراضية مزيفة. كلما كانت «الديبريسيون» عميقة، كلما كانت الابتسامة عريضة على «فيسبوك» و»أنستغرام». هؤلاء هم من كانوا يصورون الحريق بدل إطفائه في معرض الكتاب. ومثلما هم أساتذة في «التشهير»، المغاربة عموما فرسان في «الكريتيك». لا شيء يعجبهم، لذلك على الأرجح اشتهرت عندنا قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني» أكثر من أي نص آخر. لا شيء يعجب في بلد الثلاثين مليون «ناقد». المشكلة أن النقد مجرد حقد مجاني على الآخرين، في غالب الأحيان، يتراكم لأسباب نفسية معقدة. المشاكل التي يتخبط فيها عدد كبير من الناس، تجعل العدوانية واجبا وطنيا و»الكريتيك» رياضة شعبية. حتى المليارديرة التي تبرعت بمليار ومائتي مليون لتشييد وترميم مؤسسات تعليمية في سطات لم تسلم من ألسنتنا الطويلة. البعض استنكر أن تقوم نجية نظير ببناء مدارس بدل أن تبني دورا للعبادة، رغم أن منهم من لم يسبق له أن حط جبهته العريضة على الأرض. والبعض تساءل عن جدوى البناية إذا كانت المناهج التربوية مفلسة، كأن تدني محتوى التعليم يبرر حشد الأطفال في أقسام آيلة للسقوط، وآخرون تركوا جميع أغنياء البلد الذين يراكمون الثروة دون أن يفكروا لحظة في مساعدة الآخرين، ووجدوا أن أنسب سؤال يُطرح على «فاعلة الخير»، هنا والآن، هو: من أين لكِ هذا؟ في الولاياتالمتحدةالأمريكية، وفي كل الدول التي تحترم نفسها، يوزع الأغنياء جزءا من ثروتهم على الأعمال الخيرية والمشاريع الاجتماعية، وعندنا يكتفون بمراكمة الأموال دون حسيب أو رقيب. هناك أغنياء كثر في المغرب، بعضهم راكم ثروته بشكل نظيف، وكثيرون بطرق قذرة، ولا أحد منهم يساهم في مبادرة لفائدة بلاده التي منحته كل شيء. يواصلون حلب البقرة دون أن يرف لهم جفن. وعندما تقرر واحدة منهم اقتسام ثروتها مع سكان منطقتها تجابه ب»الكريتيك». تستحق سيدة الأعمال السطاتية أن نقف لها إجلالا واحتراما وأن نصفق عليها عاليا وبحرارة، لأنها امرأة بألف رجل، ولأنها منحت هبتها للتعليم، المختبر الذي يُصنع فيه مستقبل البلاد. «الكريتيك مزيان يا وجه الطارو»، لكن يجب أن يوجه للشخص المناسب في الوقت المناسب. بدل التشكيك في مبادرة سيدة الأعمال المحترمة، يجدر بك أن تسأل أين أولئك الذين يسيطرون على ثروات البلاد وخيراتها؟ لماذا لا يصرفون درهما واحدا في المشاريع الخيرية؟ ولاّ «»مادّير خير ما يطرا باس»!