بشر الخطاب الملكي بمناسبة عيد العرش بأن المغرب يستعد لدخول «مرحلة جديدة»، تقتضي «انخراط جميع المؤسسات والفعاليات الوطنية المعنية في إعطاء نفس جديد لعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية ببلادنا»، ودعا إلى «التعبئة الجماعية» لتحقيق هذا الغرض. وهي دعوة جاءت في سياق تشخيص موضوعي مفاده أن المغرب حقق تقدما في عدة مستويات، مثل البنيات التحتية والموانئ والمطارات والنهوض بالحواضر… لكن ثمار النمو لم تشمل عدة فئات اجتماعية، أي أن المغرب مهدد بقنبلة اجتماعية إذا لم يسارع إلى معالجة مشكل الفوارق، وإعادة توزيع الثروة، وضمان العدالة الاجتماعية، خاصة أن المحيط الإقليمي للمغرب يزداد توترا، ويفرض اعتماد إصلاحات سياسية ديمقراطية وحقوقية تعزز هذا التوجه. وبإلقاء نظرة سريعة على التحولات الجارية في المحيط المغاربي، يمكن استشعار هذه التحديات. ولنبدأ بالجارة الجزائر، حيث لاتزال تفاعلات الحراك مستمرة منذ حوالي ستة أشهر من انطلاقه. فقد حقق الحراك عدة تغييرات، باستقالة الرئيس السابق، عبد العزيز بوتفليقة، واعتقال شقيقه ومقربيه، وإبعاد عدد من رموز النظام، وتأجيل الانتخابات الرئاسية المتحكم فيها، لكن الصراع مازال محتدما بين المؤسسة العسكرية القوية الماسكة بدواليب الأمور وبين قادة الحراك حول مستقبل الديمقراطية في هذا البلد الجار. وجرى حديثا تشكيل لجنة للحوار الوطني، لكن سرعان ما عرفت انسحابات وتعثرات بسبب رفض قائد الجيش، القايد صالح، اتخاذ إجراءات الثقة للتهدئة، من قبيل إطلاق سراح شباب الحراك المعتقلين بسبب مشاركتهم في المسيرات، وتخفيف الضغط الأمني عن المسيرات في المدن، وإبعاد حكومة نور الدين بدوي. يريد رئيس الأركان حوارا وطنيا دون شروط مسبقة، لكن ذلك لا يرضي الحراك الذي يطالب العسكر بإظهار نواياه الحسنة، وقد تطور الأمر إلى درجة الدعوة إلى عصيان مدني للمرة الأولى خلال مسيرة الجمعة الرابعة والعشرين، وهو منعطف لا تخفى خطورته، ما يعني أن التغييرات العميقة المقبلة في الجزائر لن تبقى حبيسة هذا البلد، بل ستؤثر، لا محالة، على المغرب عاجلا أم آجلا. أما تونس، فتواصل مسارها الديمقراطي رغم التحديات والصعوبات السياسية والأمنية، فبعد وفاة رئيسها، الباجي قايد السبسي، عن عمر يناهز 92 عاما، قبل بضعة أشهر من انتهاء ولايته، قررت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات إجراء الانتخابات الرئاسية في 15 شتنبر المقبل، وقدمت العديد من الشخصيات ترشحها لهذا المنصب. هذه الانتخابات كانت مقررة في 17 نونبر من هذا العام، لكن جرى تعجيل موعد إجرائها بعد وفاة الرئيس، وستزامن هذه المحطة الديمقراطية حملة انتخابات البرلمان، المقررة في 6 أكتوبر من السنة نفسها، أي أن تونس ستشهد في ظرف21 يوما محطتين انتخابيتين حاسمتين؛ الأولى رئاسية والثانية تشريعية. وبغض النظر عن الجدل السياسي الحاد الذي تعرفه البلاد بشأن تزامن هذين الاستحقاقين، وتأثير الحملات الدعائية الممهدة للانتخابات الرئاسية في حملات التنافس الانتخابي نحو البرلمان، فإن المشهد السياسي لهذا البلد المغاربي سيعرف، في كل الأحوال، تغييرات كبيرة ومؤثرة خلال الشهور المقبلة. يبقى الوضع في ليبيا هو الأخطر، حيث يشكل تحديا كبيرا في شمال إفريقيا، بسبب الصراع الدولي على هذا البلد الغني بالنفط والغاز، فمنذ إسقاط نظام القذافي في 2011، واندلاع حرب الميليشيات، نجح المغرب في احتضان حوار بين الفرقاء الليبيين، وجرى توقيع اتفاق الصخيرات في 2015، وشُكلت حكومة الوفاق الوطني، وكان يفترض إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية هذا العام، قبل أن يقود اللواء المتقاعد، خليفة حفتر، هجوما مفاجئا على طرابلس بدعم من دول غربية وخليجية، في معركة لاتزال متواصلة منذ ثلاثة أشهر، مخلفة العديد من الضحايا، ومن شأنها أن تفتح باب الفوضى وعدم الاستقرار في هذا البلد الذي بات محط أطماع دولية. أما موريتانيا، فقد دخلت، هي الأخرى، مرحلة «تغيير انتخابي» في ظل الاستمرارية، بتنصيب الرئيس الجديد، محمد ولد الغزواني، والشروع، منذ بداية هذا الأسبوع، في تشكيل حكومة جديدة يرأسها إسماعيل ابده الشيخ سيديا، وهو وزير سابق في عهد الرئيس السابق، محمد ولد عبد العزيز، ما يعني أن التغيير يجري في إطار النظام نفسه، لكن المهم أن المغرب طوى مرحلة الجمود التي خيمت على العلاقة مع موريتانيا في عهد ولد عبد العزيز. كل هذه التحولات في المحيط المغاربي، خاصة في الجزائروتونس وليبيا، لاشك ستكون حاضرة بثقلها خلال تهييء «المرحلة الجديدة» التي بشر بها الخطاب الملكي، والتي ستواكبها تغييرات في الحكومة والإدارة، لكن أي تغيير من هذا الحجم يضع ضمن أولوياته القضايا التنموية والاجتماعية، ستكون له متطلبات سياسية، على رأسها استعادة الثقة في العمل السياسي والحزبي، وتعزيز الديمقراطية، وتصفية الأجواء الحقوقية.. دون ذلك لن ندخل مرحلة جديدة.