لماذا وصل الأمر بمجلس النواب إلى حد احتجاز مشروع القانون الجنائي، حوالي أربع سنوات، بسبب خلاف حول مادة واحدة تتعلق بتجريم «الإثراء غير المشروع»، رغم أن عدد مواد المشروع يصل إلى 80 مادة ليس حول معظمها أي خلاف، وتكتسي أهمية كبيرة. من حق وزير العدل، محمد بنعبد القادر، الذي عين في أكتوبر الماضي خلفا لمحمد أوجار، أن يطلب مهلة لمناقشة النص مع الحكومة، واتخاذ موقف موحد بشأنه، فقد عين في وقت انتهى فيه النقاش داخل اللجنة البرلمانية حول المشروع، كما كان من حقه سحبه من البرلمان، في إطار مسطرة معمول بها لإعادة مناقشته داخل الحكومة الجديدة، لكنه لم يفعل شيئا من ذلك، بل أطلق تصريحات تفيد بأنه غير مستعد لمناقشة التعديلات والشروع في المصادقة على النص، وتحدث عن ضرورة التوافق حول فلسفة المشروع. أما فرق الأغلبية البرلمانية، التي وضعت تعديلاتها على المشروع في 10 يناير، فقد طفا الخلاف بينها حول «الإثراء غير المشروع» على السطح، خاصة بين البيجيدي، الذي يريد الحفاظ على نص الجريمة كما جاءت به الحكومة، وبين بقية حلفائه الذين اقترحوا تقييد تطبيق الجريمة بشروط أبرزها عدم متابعة الموظف خلال ممارسة مهامه، أي يجب انتظار إحالته على التقاعد، وعدم إمكانية تحريك المتابعة إلا بأمر من المجلس الأعلى للحسابات. شخصيا، تابعت النقاش الذي جرى حول هذه المادة المثيرة للجدل في لجنة العدل والتشريع بمجلس النواب، ويمكن تلخيص أبرز التحفظات بشأنها في ثلاثة؛ الخوف من استعمال هذه الجريمة لتصفية الحسابات، وعدم وضوح أركانها، والخوف من تطبيقها بشكل انتقائي من لدن القضاة. أي أن هناك خوفا حقيقيا من تطبيق هذه المادة، وهذا أمر ممكن حدوثه حتى في جرائم أخرى، قد يقع تعسف في تطبيق المواد المتعلقة بها دون أن يعني ذلك أنه يجب إلغاؤها. ربما الجديد بالنسبة إلى المادة المتعلقة بجريمة الإثراء غير المشروع أنها لأول مرة تدخل مشروع القانون الجنائي، وتسمح بفحص ثروات الموظفين الخاضعين لنظام التصريح بالممتلكات، أي حوالي 100 ألف موظف، سيكون من حق النيابة العامة أن تخضع ممتلكاتهم وممتلكات أبنائهم القاصرين للمساءلة تطبيقا لمبدأ «من أين لك هذا؟». أي أن الموظف ذا الدخل المحدود، الذي يراكم عقارات وسيارات فخمة وحسابات بنكية دون أن يبرر مصادر ممتلكاته، سيحاكم بجريمة الإثراء غير المشروع، وستصادر أمواله، ويمنع من ممارسة الوظائف العمومية، لكن دون أن يدخل السجن. وهذه مفارقة، فكيف يُسجن مواطن من أجل السرقة الموصوفة، ولا يُعتقل موظف راكم أموالا طائلة من ممارسات مشبوهة، ونطالبه فقط بغرامة ما بين 10 ملايين و100 مليون سنتيم، ومصادرة ممتلكاته؟ نعرف أن النص الأصلي كان يتضمن عقوبة تصل إلى 5 سنوات سجنا، لكن النقاش الذي جرى داخل الحكومة السابقة عكس مخاوف من متابعة النيابة العامة موظفين في حالة اعتقال، مخافة أن يتبين فيما بعد أنهم أبرياء، مع ما يمكن أن يبثه اعتقالهم من ذعر في الوظيفة العمومية، لذلك، قبل وزير العدل السابق حذف العقوبة الحبسية، رغم أنه كان ممكنا الإبقاء عليها، مع إمكانية المتابعة في حالة سراح إلى حين صدور الحكم. لكن، كيف يُحتجز مشروع القانون الجنائي بسبب خلاف حول مادة واحدة؟ وهل من الضروري حصول توافق داخل الأغلبية حولها، أم يمكن اللجوء إلى التصويت في اللجنة، وليتحمل كل طرف مسؤوليته؟ لا بد من أن نذكر ببعض المواد المهمة في هذا النص، والتي غطى عليها الجدل حول الإثراء غير المشروع، مثل إباحة إجهاض الحامل في حالات محددة، والعقوبات البديلة، وتجريم الاختفاء القسري، وتجريم تهريب المهاجرين، وإدراج جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، وتشديد عقوبات الاعتداء الجنسي ضد الأطفال، والحد من تطبيق عقوبة الإعدام في بعض الجرائم. مثلا، بخصوص العقوبات البديلة، فإن من شأن المصادقة عليها الإسهام في الحد من ظاهرة المعتقلين احتياطيا الذين يشكلون حوالي نصف سكان السجون. وهي عقوبات تعوض العقوبات السالبة للحرية في الجنح، والتي لا تتجاوز مددها سنتين، من خلال الحكم بالعمل من أجل المنفعة العامة، أو أداء غرامة عن كل يوم اعتقال، وتقييد بعض الحقوق، أو فرض تدابير رقابية علاجية أو تأهيلية. أليست هذه المقتضيات على درجة كبيرة من الأهمية التي تتطلب تجند البرلمانيين لإخراجها بسرعة إلى حيز الوجود، أم إن الخلاف العبثي حول «الإثراء غير المشروع» بات مبررا لاحتجاز المشروع برمته؟