ما الذي يجعل الوضع الليبي يحظى بأهمية لدى المغرب؟ ثمة اعتبارات متعدّدة بشأن ديناميات الجغرافيا السياسية وتحرك بعض القوى الإقليمية كتركيا والإمارات ومصر، من أجل تعزيز كفة الميزان لصالح معسكر طرابلس أو معسكر طبرق، وتقاطع مصالح هذه الدول أو تعارضها مع الاستراتيجية الأوروبية، خاصة الروسية والفرنسية والأمريكية في شمال إفريقيا. منذ 2017، أصبحت ليبيا حلبة يتزايد فيها التنافس السياسي والعسكري المباشر بين تركيا التي تعتد بنفسها "وصيّة" على حكومة طرابلس، والإمارات التي نصّبت نفسها "راعية" لطموحات طبرق وحملة الجنرال خليفة حفتر، ما ينعش شهية تلك الدولتين لتكريس مساعيهما للتأثير أكثر فأكثر على مستقبل المغرب الكبير. وكلما تعمق هذا الدور الخارجي، تقلصت قدرة العواصم المغاربية على إدارة ملفاتها وأزماتها بشكل مستقل. تمثل ليبيا، أيضا، دلالة رمزية بالنسبة إلى الدبلوماسية المغربية في استضافة اتفاق الصخيرات، وما نشهده حاليا من المؤتمرات المتتالية في برلين، وقبلها موسكو وباليرمو وباريس وأبو ظبي خلال العامين الماضيين، يعكس المحاولات بنوايا مبيتة لإقبار اتفاق الصخيرات، الذي يظل الاتفاق السياسي الشرعي الوحيد بين الليبيين بتزكية الأممالمتحدة. أين تتجلى مصلحة المغرب في ليبيا استراتيجيا وجيوسياسيا؟ تستدعي الحكمة السياسية أن تتمسك الرباط باستدامة اتفاق الصخيرات، والدفاع عن مركزيته في أي تسوية للأزمة الليبية، ليس بحكم شرف استضافته فحسب، بل، وأيضا، بحكم الجوار الجغرافي في جنوب المتوسط وغرب العالم العربي وشرعية الاتفاق. أنا أعتبر التنافس الراهن بين تركيا والإمارات نذير شؤم سياسي حتى لا يخرج المغرب وبقية المنطقة من النفوذ الفرنسي المتآكل من ذاته، ليسقط في شرك أطماع "إمبراطورية" بثوب عثماني وشعار حداثة الإسلام السياسي، أو بعِقَال وطرْحة خليجية وحداثة مكافحة الإسلام السياسي. وكما نبهتُ في محاضرتي في وزارة الخارجية في الرباط أواخر فبراير الماضي، خطّطت القيادة التركية لطموحات دولية باتّباع سياسة استعراض العضلات في سوريا والعراق وليبيا والبحر المتوسط، واللعب على مختلف الحبال بالتعاون مع حلف شمال الأطلسي وروسيا وإيران، والخصام تارة، والمصالحة تارة أخرى، مع البيت الأبيض، والتواصل مع ماليزيا وباكستان، والتحالف مع قطر، وعلاقات الانفتاح على حماس وفعالية القوة الناعمة، فضلا على الانفتاح على التعاون السياسي مع تونس، والعسكري، أيضا، مع الجزائر. من المرتقب أن تنشر البحرية التركية أول ناقلة طائرات هليكوبتر والجنود، تسمى TCG Anadolu، في البحر المتوسط هذا العام أو العام المقبل. وبالنظر إلى تنامي الدور العسكري التركي في شرق المتوسط والمنطقة العربية، يقول كريس كول، مدير برنامج "حروب الطائرات بلا طيار- بريطانيا" Drone Wars UK: إن تركيا أصبحت لاعبا رئيسا في استخدام الطائرات بلا طيار، ما يجعلها، على غرار الولاياتالمتحدة، قادرة على ضرب أهداف قتالية محدّدة خارج حدودها. هكذا ينبغي أن نفهم كيف تبلور تركيا نسقها الخاص لتوازن القوة في البحر والأرض حول الدول العربية. ويمكن اعتبارها القوة الإقليمية الأكثر برغماتية في الاستفادة من التقلبات الراهنة بين الخليج والمحيط. وأتمسك بالقول إن تركيا القوة الإقليمية الأكثر استفادة من تأرجح موازين القوى الإقليمية والدولية، أكثر من روسيا أو الصين، لكونها تكرس أربعة مسارات للقوة المعاصرة في آن واحد: القوة الصلبة Hard power، والقوة الناعمة Soft power، والقوة اللزجة Sticky power، والقوة الذكية Smartpower. كيف تنظر إلى المقاربة المغربية للنزاع الليبي؟ وهل يملك المغرب أدوات التأثير؟ ما يحدث في ليبيا لن يبقى رهين الجغرافيا الليبية، فحسب، بل سيؤثر على الخارطة الاستراتيجية بأكملها في المغرب الكبير وغرب المتوسط. وهذا ما أسميه "الاستراتيجية المطاطية" أو "المرنة" لدى المسؤولين في أنقرة، الذين يجدون في التاريخ والجغرافيا والتراث الإسلامي ومضاعفات ما سمي "الربيع العربي" منذ عشر سنوات، كل التبرير والتحفيز لهم لإعادة تركيب المنطقة من الخليج إلى المحيط. تمثل ليبيا أول الخطوات في هذا الاتجاه. لا أعتقد أن موقف المغرب واعتباره "محايدا" أو أنه، كما قيل، "يمسك العصا من الوسط" إزاء الأزمة الليبية، موقف مُجدٍ أو مؤثر خارج الأهمية الإعلامية وخطاب الدبلوماسية المغربية. وحتى ميزان القوة في العلاقات الدولية المعاصرة لا يتماشى مع الدبلوماسية الجامدة passive، بل يستدعي دبلوماسية استباقية pro-active. ثمة أكثر من سؤال ينبغي التمحيص فيه: هل أخذت الرباط العبرة من استبعادها من حضور مؤتمر برلين حول الأزمة الليبية؟ وهل تستوعب حقيقة تقلبات ميزان القوة ومساعي عدة عواصم لتجاوز اتفاق الصخيرات وحتى وساطة الأممالمتحدة؟ المغرب جزء من مغرب كبير، وليبيا أحد الأضلاع الخمسة لأي وحدة مغاربية تحضر خسائرها وتغيب مكاسبها منذ توقيع اتفاقية مراكش عام 1989. وأتمنى أن يكون هناك وعي حقيقي في الرباط كما في الجزائر العاصمة، بأن ما قد يخرج من مختبر التجارب السياسية في ليبيا، حاليا، قد يكون معادلة صفرية جديدة لصالح القوى الإقليمية، وهذا قد يؤرق حكومات المنطقة خاصة المغاربة والجزائريين لعقود طويلة. كيف ينعكس الوضع في ليبيا على المغرب؟ هذا يتوقف على مآل التنافس الراهن بين القوى الإقليمية والدولية، وهل ستكون الغلبة لمعسكر طبرق أم لمعسكر طرابلس ومن يقف خلفهما. بالمناسبة، ثمة مفارقة مثيرة تتمثل في أن الأزمة الليبية، أكثر من الأزمة السورية، تجسد مدى فعالية بعض القوى الإقليمية كتركيا أكثر من القوى العظمى كروسيا أو الولاياتالمتحدة. وقد يتفوق النفوذ التركي على نظيره الروسي في غرب ليبيا. ينبغي أن نستحضر، أيضا، أن علاقات المغرب مع كل من تركيا والإمارات ليست في أفضل مراحلها. وإذا تحقق لتركيا ما تريد في ليبيا، فقد يتشكل محور رباعي جديد بين تركيا وليبيا وتونس والجزائر، فيما تتمسك الإمارات بنفوذها في موريتانيا التي تغريها بمشروع الميناء ومشاريع أخرى للبنية الأساسية، ما سيجعل المغرب بين الرحى والعصا، بين محوري أنقرة وأبوظبي. وهذا ليس في صالح المغرب لا سياسيا ولا اقتصاديا ولا استراتيجيا. ما مصير المبادرة المغربية لحل النزاع الليبي بعد دخول قوى جديدة؟ هو مصير رهين بأي ميزان سياسي نقيس به أهمية المبادرة المغربية ومدى حظوظ تطبيقها في المستقبل. هناك فرق شاسع في العلاقات الدولية بين الطرح المعياري الذي يناشد بعض القيم السياسية والأعراف الدبلوماسية، والطرح الواقعي البرغماتي الذي يتوخى إيجاد زخم سياسي جديد والبناء عليه. لا خلاف على أن المبادرة المغربية تستند إلى قيمة معيارية عندما دعت إلى إيجاد حل عربي للأزمة الليبية، يقوم على تشكيل فريق مصغر من دول عربية معنية بالملف الليبي، يتولى وضع تصور استراتيجي للتحرك العربي الجماعي للإسهام في التسوية بليبيا. هذا الخطاب يجاري، كذلك، المنطق الغالب داخل أورقة جامعة الدول العربية، ويغازل، أيضا، أدبيات الأممالمتحدة في نيويورك. لكنه يُسقط من الحساب أنّ الواقعية السياسية واستراتيجية القوة والمصلحة لدى بعض الدول، التي استثمرت في الأزمة الليبية منذ انتخابات 2014، وراهنت على البديل السياسي الذي تجسد في مجلس النواب في طبرق أو في معسكر طرابلس قبل وبعد اتفاق الصخيرات، لن تسمح بما تتوخاه الرباط أو الأمانة العامة للجامعة العربية، بالمساهمة في "وضع تصور استراتيجي للتحرك العربي الجماعي". وهذا ما اتضح، أيضا، في مؤتمرات باريس وباليرمو وموسكو وبرلين. قد تدعو المرحلة إلى القيام بحملة دولية للدفاع عن اتفاق الصخيرات والتمسك به كوثيقة باسم إرادة المجتمع الدولي، ثم المضي نحو المفاوضات على أيّ تعديلات تقبلها الأطراف باتجاه توحيد المواقف، حتى وإن اقتضى الأمر استضافة "اتفاق الصخيرات 2".