تبدو فكرة تقليص حزب العدالة والتنمية لمشاركته في الانتخابات المقبلة غريبة ومثيرة للعديد من التساؤلات. فوظيفة الأحزاب في الحياة السياسية الديمقراطية هي المشاركة في الانتخابات من أجل الفوز، وليس تقليص المشاركة من أجل عدم الفوز، خاصة إذا كان الحزب قائدا للحكومة لولايتين. فهل تعب الحزب من قيادة الحكومة، أم أنه يواجه ضغوطا خارجية لتقليص مشاركته، أم أنه يعيش أزمة مشروع سياسي؟ صحيح أن فكرة التقليص الذاتي لم تناقش بعد داخل مؤسسات الحزب، لكنها طرحت في دوائر ضيقة بين قيادات بارزة. وحسب ما يرويه أعضاء في الحزب، فإن مصطفى الرميد فاتح الأمين العام سعد الدين العثماني في الأمر، ودعاه إلى التفاوض مع الدولة على التقليص الذاتي لتفادي دفع السلطة للقيام بممارسات شبيهة بما وقع في انتخابات 2016، ولكن العثماني أبدى تحفظه، وهناك من طرح فكرة عقد مؤتمر استثنائي للحزب لطرح الفكرة. فهل يمكن للبيجيدي أن يقلص مشاركته بدعوى تفادي الصدام مع السلطة؟ من المعروف أن علاقة السلطة بالإسلاميين كانت تاريخيا مشوبة بالشك لأسباب عدة، منها ما يتصل بالمشروعية الدينية، ومنها ما يتعلق بالتأثير الخارجي، خاصة بعد ثورة الخميني على شاه إيران، أو الخوف من الارتباطات الخارجية والنزوعات للعنف لدى هذه التيارات، والتشكيك في إيمانهم بالديمقراطية. ولهذا عندما فكر الإسلاميون المغاربة في خوض الانتخابات لأول مرة في بداية التسعينيات أرسل الملك الراحل الحسن الثاني مستشاره أحمد بنسودة إلى عبدالإله بنكيران، رئيس حركة الإصلاح والتجديد آنذاك، ليحذره من مغبة المشاركة ولو تحت جناح حزب الخطيب، قائلا: "إذا شاركتم في الانتخابات فاستعدوا للمواجهة". استدعى بنكيران أعضاء مجلس الشورى الحركة فصوتوا على عدم المشاركة، وفعلا لم يتم تقديم أي مرشح. ولما جاءت انتخابات 1997، كان حزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية، برئاسة الخطيب قد عقد مؤتمرا استثنائيا سنة 1996 معلنا انتماء إسلاميي التوحيد والإصلاح إليه، فقرروا المشاركة في الانتخابات الجماعية في يونيو 1997، لكن بالنظر إلى استحضار تداعيات مشاركة جبهة الإنقاذ الإسلامية في الجزائر، و"نصائح بنسودة" في 1992، لجأ الإسلاميون إلى التقليص الذاتي لكن الخطيب رفض، فلجأ حلفاؤه الإسلاميون إلى الترشيحات المستقلة ففاز منهم نحو 100 مرشح في عدد من الجماعات الترابية. ولما جاءت الانتخابات التشريعية في نونبر 1997، التي ستفرز تجربة التناوب التوافقي برئاسة الراحل عبدالرحمان اليوسفي، قرر الإسلاميون المشاركة المقلصة، مكتفين بتغطية نحو 145 دائرة فقط، من أصل 325، وكانت تلك أول مرة يشاركون فيها في الانتخابات البرلمانية، وأول مرة يفوز فيها 9 برلمانيين إسلاميين في تلك الانتخابات. تقبلت السلطة مشاركة محدودة للإسلاميين، في سياق التلويح بورقة "البعبع" الإسلامي، في مواجهة اليسار الاتحادي الذي كان يستعد لتشكيل الحكومة. ولما جاءت انتخابات 2002 التشريعية، كان الحزب قد اكتسب تجربة في البرلمان، فبدأت المخاوف من مضاعفته لمقاعده، فاستبق بنكيران هذه المحطة الانتخابية بسنة، ليصرح لجريدة "ليكونوميست"، بأن حزبه سيقلص مشاركته في تلك الانتخابات. وقبيل الموعد الانتخابي استدعى إدريس جطو، وزير الداخلية آنذاك، مجموعة من قيادات الحزب وقال لهم: "إن مركب حزبكم تدفعه الرياح، فلا داعي للتجديف"، وفعلًا قلص الحزب مشاركته في تلك الانتخابات، ومع ذلك فاز ب42 مقعدا، وكانت تلك نتيجة مفاجئة. الأمر عينه حصل في الانتخابات الجماعية في شتنبر 2003، التي جاءت في سياق اتسم بتفجيرات 16 ماي الإرهابية التي ضربت الدارالبيضاء. حينها بدأت أطرف سياسية وإعلامية تنادي بحل حزب العدالة والتنمية وتحمله المسؤولية المعنوية عن تلك الأحداث، وبدا كأن تلك فرصة سانحة للتخلص من "صداع" هذا الحزب. حينها استدعى فؤاد عالي الهمة، الذي كان وزيرا منتدبا مكلفا بالداخلية قيادة الحزب، وجرى الحديث عن ضغوط لتقليص الحزب مشاركته، وهو ما جرى فعلا. لكن بعد هذه المحطات الانتخابية، لم يقع أي تقليص لمشاركة الحزب في المحطات الانتخابية المتتالية، ولم تتدخل السلطة للضغط عليه، بدءا من الانتخابات التشريعية لسنة 2007، التي حصل فيها الحزب على 46 مقعدا، ثم الانتخابات الجماعية في 2009. أما الانتخابات التشريعية في 2011، التي أتت بعد أحداث الربيع العربي، وبعد وضع دستور جديد، فقد أظهرت أن الحزب لم يركب موجة التظاهرات، بل ساهم في التهدئة، ولكن جنى ثمار الربيع بحصوله على107 مقاعد، ما مكنه من قيادة الحكومة لأول مرة برئاسة عبدالإله بنكيران. ثم جاءت انتخابات 2016، التي حصد فيها الحزب 125 مقعدا، ولكن جرت إقالة عبدالإله بنكيران من رئاسة الحكومة، بعدما واجه بلوكاج لمدة 6 أشهر، وعين الملك مكانه سعد الدين العثماني. هذا المسار يظهر أن البيجيدي عاش مرحلتين، الأولى مرحلة "التوجس"، وكانت قبل 2007، واتسمت بالتقليص، لكن بعد هذه السنة، أصبح في مرحلة "تطبيع"، وتحول لعامل توازن واستقرار، بل إنه قاد الحكومة وأصبح جزءا من الدولة، واستأنست نخبه مع الحكم، بل أصبحت له قابلية لتنفيذ التعليمات والتكيف مع المعطيات، والدفاع عن توجهات الدولة. وفي عهده اتخذت الإصلاحات اللاشعبية، من "مقاصة" و"تقاعد"، فما الذي يجعل بعض قيادييه يعتقدون أنه حزب منبوذ ويفكرون بالعودة به إلى الوراء. صحيح أن هناك ضغوطا يتعرض لها الحزب، وهناك خوف من هيمنته على الحياة السياسية، بسبب ضعف الأحزاب المنافسة، لكن هل تقليصه سيقوي منافسيه، أم سيؤدي إلى خطر الفراغ؟ ثم ما هي الرسالة التي سيبعثها الحزب لناخبيه؟ هل يقول لهم لا تصوتوا علي لأنني لا أريد الفوز؟ إذا كان المشكل هو الولاية الثالثة، فإنه لا أحد يمكنه التكهن بالنتائج في ظل الأوضاع الحالية وطريقة تدبير الحكومة، وحتى لو تحقق ذلك، فإن الدستور يوفر الحلول الملائمة في حالة فشل الحزب الأول في تشكيل الحكومة..