يستأثر الحوار الاجتماعي هذه السنة باهتمام شديد ليس فقط، لأن الشغيلة تنتظر مُخرجاته لتحسين مستوى معيشتها، ولكن لأن المسألة الاجتماعية تأخذ في هذا اللحظة الدقيقة بعدا سياسيا وانتخابيا حاسما، بحكم تواطؤ مختلف الإرادات السياسية على إعطائها حجما مؤثرا في وسم الولاية الانتخابية لهذه الحكومة. الدولة في تعاطيها مع هذا الملف، يهمها بدرجة عدم المساس بالتوازنات المالية الكبرى، وتأمين السلم الاجتماعي، أما ما عدا ذلك مما يرتبط بكيفية تحقيق هذه المعادلة، فمجرد تفاصيل تتحمل الحكومة مسؤوليتها. رؤية الحكومة لا تبتعد كثيرا عن منطق الدولة، بحكم أنها مؤتمنة على الحفاظ على مصالحها العليا، لكن نقطة تمايزها معها أنها تضع المسألة الاجتماعية ضمن رهاناتها السياسية والانتخابية، بحكم أنها تدخل ضمن منجزاتها التي تكافأ أو تعاقب على حسن أو سوء التعاطي معها. المركزيات النقابية لها منطق آخر، إذ لا تكترث بأطروحة التوازنات المالية الكبرى للدولة، بل تعتبرها إيديولوجية توظف لتحصين مصالح اللوبيات المستفيدة والإجهاز على مصالح الشغيلة. بين هذه الأطروحات الثلاث، هناك أطروحة الباطرونا التي تضع التوازنات المالية والسلم الاجتماعي لحسابها الخاص، أي تنظر إلى توازناتها المالية باعتبارها شركة قطاع خاص، وتزيد إلى ذلك مقولة التنافسية، وأنه في حالة الإغداق على العمال، فإن الشركات الوطنية ستنهار تنافسيتها في مواجهة الشركات الأجنبية المنافسة. من حيث أصل الطبيعة، أي طبيعة كل مكون من هذه المكونات الأربعة، فهذه هي الرؤى المطروحة، لكن، من في الديناميات السياسية، فإن الأمر يرتبط بالتحالفات التي تقع بين هذه المكونات، وبين مكونات أخرى لا تنتمي إلى حقل الحوار الاجتماعي، إن جاز أن نستعير مفاهيم بيير بورديو. تبدو الديناميات في الظاهر بين مكونات الحقل من خلال الآليات التقنية المعتمدة في الحوار بين الأطراف الثلاثة: الحكومة، والباطرونا والمركزيات النقابية، لكن صيرورة التفاعلات تظهر في العمق في المواقف النهائية، أي في شكل تعاطي الحكومة مع مطالب النقابات، والنقابات مع العرض الحكومي. لحد الآن، لا يمكن أن نحكم على مخرجات الحوار الاجتماعي، لكن، ثمة مؤشرات على أن العرض الحكومي كان إيجابيا في عمومه، وينطلق من الرؤية الاجتماعية ذاتها التي تبنتها، أي تجنب الزيادة المباشرة في الأجور بحكم أن ذلك يوسع الكتلة الأجرية ويضر بالتوازنات المالية الكبرى للدولة، واقتراح زيادة غير مباشرة في التعويضات العائلية، مع البدء في التجاوب الحكومي مع مطلب الدرجة الجديدة بالفئات الأكثر هشاشة، لكن بالنسبة إلى المركزيات النقابية، فالديناميات لم تفرز بشكل دقيق الأولويات التي جعلتها في موقع الثوابت والقضايا التي جعلتها فقط، تكتيكات لتحسين موقعها التفاوضي، فلغة النقابات في عمومها بقيت محتفظة بسلة المطالب كلها دون إظهار أي مرونة في التعاطي. ديناميات التفاوض إن كانت تتم من داخل الحقل (أي باستحضار مكوناته الأساسية فقط)، كان لابد أن تنتهي إلى حصر مادة التفاوض من خلال ثوابت العرضين الحكومي والنقابي، واستبعاد ما عداها. الواقع يؤكد بأن هذا الحصر لم يتم، وأن الذي حصل هو الدراسة التقنية لمشمول العرضين والانتهاء بسرعة إلى ما يشبه القطيعة. توصيف الحال، يدل على أن الحوار الاجتماعي لم يتم كله داخل الحقل، وإنما تم خارجه، أي داخل الحقل السياسي العام، الذي تدخل فيه مكونات أخرى تعتبر النجاح في الحوار الاجتماعي مكسبا انتخابيا للحكومة تضيفه إلى رصيدها. لا ندري بالضبط، هل تتجه الحكومة إلى تنفيذ عرضها بعيدا عن النقابات، أم ستتجه لتوفير شروط أخرى لاستئناف الحوار الاجتماعي، لكن، مهما يكن الحال، فالظرفية السياسية الدقيقة تقتضي تحقيق كسب اجتماعي يعود على الشغيلة سواء من خلال الحوار أو من دونه في حالة فشل مُخرجاته.