نحن أيضا كنا نعشق كرة القدم، في التلفزيون وعلى الملاعب، نحن جيل "ميكسيكو 86″، أفرحَنا عبدالرزاق خيري وحطم أحلامنا لوثار ماتيوس وانتقم لنا دييگو مارادونا، ومازال بعضنا لا يخالجه شك في انتصار المغرب على ألمانيا في ذلك المساء العصيب، لو أن مصطفى البياز كان ضمن تشكيلة الفريق، "لكن الإصابة أرغمت قلب الدفاع على الجلوس في كرسي الاحتياط"، كما يقول المعلقون الرياضيون، وجرى ما جرى في الدقيقة 88… ابكِ على "الأطلال" "ولا تقل شئنا فإن الحظ شاء". وكي تعرف أنك عشت في حقبة ما قبل التاريخ، يكفي أن تتذكر أن الفريق الذي هزم المغرب اسمه "ألمانيا الغربية"، والحكَم الذي أدار اللقاء كان "يوغسلافيا"، وروسيا التي تأهل إليها المنتخب الأحد الماضي، كانت تسمى "الاتحاد السوفياتي"، وقد سحقت بالمناسبة هنغاريا، وقتها، بستة أهداف لصفر. نحن أيضا كنا نشاهد المباريات بكثير من الحماس ونترقب "العالم الرياضي" كي نستمع إلى تحليلات سعيد زدوق وضيوفه الكرام، وإلى ذلك اللاعب الذي يربي "شعكوكة" ويردد كل أسبوع: "لولا العارضة لأمطرنا شباك الخصم"… وصباح الاثنين ننصت في خشوع إلى "موسيقى ورياضة" على أمواج الإذاعة الوطنية. المحطة التي كانت تستأثر بأكبر نسبة استماع عشية الأحد، بفضل برنامجها الأسطوري "الأحد الرياضي" في نسخته الأصلية. كان محمد العزاوي مايسترو الفريق، يوزع الكلام بالتساوي على المراسلين، وكان هؤلاء يتنافسون في شد أنفاس المستمعين بوصف حماسي لما يجري في الملاعب، كان تفاعلهم مع المباريات صادقا وعفويا يدخل إلى القلب بلا استئذان، بخلاف نبرة التصنع التي باتت تهيمن على المعلقين، في زمن "البين سپور"، ويبدو أن في الرياضة أيضا كلما ارتفعت "الكلفة" زاد "التكلف" وتحول الهتاف إلى سعار والحماس إلى هستيريا، حتى بات الكثيرون يفضلون مشاهدة المباريات دون صوت… أما تعليقات الزمن الجميل فمازالت ترن في أذن جيل كامل من المغاربة: "ننتاقلو لفاس، النتيجة والتوقيت"، "هدف في مكناس، الأخ شرايبي"… وينطلق عاشق "الكوديم" بصوت تلقائي، مخنوق بالفرحة، يصف كيف راوغ عزيز الدايدي دفاع الخصم و"خدع الحارس حميّد ليهز شباك الفريق العسكري"، فيما خيي بابا يطلب الكلمة باستماتة: "هناك جديد في المحمدية هناك جديد"… رحم الله من مات وأطال في عمر من مازال على قيد الحياة. في الحي، كان المرمى عبارة عن قطعتي حجر والملعب مليء بالتراب، أما الكرة فبلاستيكية بألوان مختلفة وثمن واحد: ثلاثة دراهم. نشتريها عند البقال، الذي يبيع كل شيء، تراها معلقة على حبل جنب عناقيد التمر والمكانس ومقررات الابتدائي… كي نوفر ثمنها كان علينا أن نقوم باكتتاب سريع يشارك فيه كل أولاد الدرب. عدد اللاعبين كبير، لذلك كانت عشرين أو ثلاثين سنتيما للواحد تكفي كي نصل إلى المبلغ المطلوب. قبل بدء المباريات، لا بد أن تثقب الكرة بإبرة كي يتسرب منها قليل من الهواء، وإلا ستنفجر لدى ارتطامها بأول مسمار أو قطعة زجاج، وتترك لك غصة في الحلق. كان عددنا كبيرا لا تستوعبه الأرضيّة المتربة جنب المقبرة، التي يجعل منها الكبار مصلى أيام الأعياد ونحولها إلى ملعب بقية السنة. كنا نتوزع إلى عدة فرق. الكبار في الهجوم والمتوسطون في الدفاع والصغار يحرسون المرمى أو يقفون في الاحتياط. نسجل عشرات الأهداف، ونرتكب عشرات المخالفات، ونحول النهار إلى ساعات مليئة بالصياح والشتائم. شتائم سوقية لا يمكن ان تستقيم مباراة كرة القدم من دونها. نسقط وننهض، نراوغ ونسجل، نتشاجر ونتصالح، ولا نفكر أبدا في العودة إلى البيت. لا يجبرنا على ذلك إلا الظلام، حين تغرب الشمس وتصبح الكرة غير مرئية بالعين المجردة. الكرة الأرضيّة لا يمكن أن تدور إذا لم تدر الكرة السحرية، لم نتصور يوما أن الحياة يمكن أن تستقيم بلا كرة، ولم نكن نمل من اللعب والتفرج وتتبع أخبار اللاعبين، على حساب الدروس في كثير من الأحيان، كان الكبار يوبخوننا باستمرار: "بقا تابع الكورة حتى تخرج على قرايتك"… عندما يقترب المونديال نشرع في جمع صور النجوم ونلصقها على دفاتر الدروس أو على ذلك الكراس الشهير الذي كنا نسميه "دفتر الذكريات"، ومن كان يملك غرفة لوحده لا يتردد في تزيين جدرانها ب"پوستيرات" كبيرة لمارادونا وپلاتيني وپاولو روسي… وغيرهم ممن صنعوا فرحة الملايين في مونديال إسبانيا 82 وميكسيكو 86. كانت الكرة أجمل. ولم يكن المغاربة مجبرين على الذهاب إلى المقاهي وقرصنة القنوات المشفرة كي يتمتعوا ب"الماتش". كل المباريات تنقل على التلفزيون. لم يكن المال قد فعل فعلته… ربما كنت رجعيا، لكن الكرة بالنسبة إليّ فسدت منذ ظهرت "الجزيرة الرياضية" واستحوذت على حقوق بث كل المباريات، وأصبح المعلقون المتصنعون يسمونها "المستديرة الساحرة"، وقسّمت المغاربة إلى معسكرين: "الريال" و"البارصا"!