1. الرئيسية 2. بورتريه رحيل البابا فرنسيس.. "القديس الأخير للمسيحيين" الذي صَلّى في الرباط من أجل القدس وترك المغرب في قلب وصاياه الروحية الصحيفة - خولة اجعيفري الأثنين 21 أبريل 2025 - 11:49 نحن لسنا خصوما، لسنا غرباء، نحن إخوة في الإنسانية، خلقنا الله مختلفين، لكنه لم يخلقنا لنتقاتل." في زمنٍ تتشابك فيه الأزمات وتتقاطع فيه الحروب باسم الدين، رحل عن العالم صوت استثنائي، نادر ونبيل، ترجّل عن صهوة الحياة; إنه البابا فرنسيس عن عمر ناهز 88 عاما، تاركًا خلفه إرثا من التواضع والحكمة، ومسيرة طبعت الكرسي الرسولي بأثر لا يُمحى. هو البابا الذي رفض السكن في القصور، وفضّل أن يَدخل قلوب الناس بدل أن يُغلق عليه أبواب الفاتيكان; لكنه أيضا البابا الذي حمل المغرب في قلبه، وزاره "حاجًّا للسلام"، مُعلنًا من الرباط ميلاد لحظات إنسانية فارقة. بين روماوالرباط.. رحلة الروح إلى أرض التعدد ومرورا عبر القدس المؤكد أن تاريخ 30 مارس 2019، سيبقى خالدا في ذاكرة المغاربة، حيث حطّ البابا فرنسيس قدميه على أرض المملكة، في زيارة رسمية وراعوية، بدعوة من الملك محمد السادس امتدت ليومين، ولم تكن بروتوكولا أو مجاملة دبلوماسية، بل كانت فعل إيمان، فبابا الفاتيكان زار المغرب لا كحَبر أعظم فقط، بل كرسول للسلام، وكشاهد على إمكانية اللقاء والتعايش بين الأديان، في زمن بات يتآكل فيه الحوار وتتعالى فيه الأسوار بين الدول والأديان. البابا فرنسيس، قالها حينها بوضوح في خطابه الشهير أمام آلاف الحاضرين في ساحة مسجد حسان: "أتيت حاجًّا للسلام والأخوّة، في أرضٍ عُرفت عبر التاريخ بكونها جسرا بين إفريقيا وأوروبا، بين الشرق والغرب." وبالفعل، كانت الرباط يومها، تتزين بألوان روحية وأمام الملك محمد السادس، أمير المؤمنين، ارتفع نداء مشترك باسم القدس، وباسم البشرية. خلال الاستقبال الرسمي في القصر الملكي، وقع الملك محمد السادس والبابا فرنسيس نداءً مشتركًا حول القدس الشريف، دعا إلى الحفاظ على طابعها المتعدد الديني والثقافي، واحترام قدسيتها كمكان للسلام والحوار والعيش المشترك. هذا النداء، لم يكن وثيقة عابرة، لقد دخل في صلب التفاعل الدبلوماسي الدولي بشأن المدينة المقدسة، وحرّك مياهاً راكدة في ملف يُستخدم غالبًا لتأجيج الصراعات لا لإطفائها، وقد جاء من زعيمين روحيين لهما تأثير يتجاوز حدود بلديهما، ملك يُوصف ب"أمير المؤمنين"، وبابا يحمل لقب "خادم خدام الله". بهذا التوقيع، رسّخ المغرب موقعه كوسيطٍ حضاري وروحي، بينما عبّر الفاتيكان، بلسان فرنسيس، عن تقدير عميق للدور الذي يلعبه المغرب في تعزيز ثقافة التسامح وحرية المعتقد. البابا فرنسيس والمغرب: إعجاب متبادل لم يُخفِ البابا فرنسيس، إعجابه العميق بتجربة المغرب الدينية فقد ألقى خطابا مؤثرا حينها، على هامش زيارته لمعهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات، الذي وصفه ب"صرحٍ للنهوض بإسلام معتدل منفتح ومستنير". وفي كلمته، قال البابا: "التكوين الذي يتلقاه الأئمة هنا، هو نموذج لما يحتاجه العالم الإسلامي اليوم، لأن التطرف لا يُواجه إلا بالمعرفة، والجهل لا يُهزم إلا بالحوار." وقد أثنى على السياسة الدينية للمملكة، بقيادة الملك محمد السادس، مشيرًا إلى أنها تستحق التقدير في زمن يعاني من "أمية دينية تولّد التطرف"، ورأى في المغرب بلدًا استثنائيًا، استطاع أن يدمج بين الهوية الإسلامية واحترام الآخر، في مناخ من التعدد والتعايش. وخلال القدّاس الذي ترأسه البابا في مجمّع مولاي عبد الله بالرباط، والذي حضره آلاف المسيحيين المقيمين في المغرب، وقف في خطابه مخاطبا المسلمين والمسيحيين معًا: "نحن لسنا خصوما، لسنا غرباء، نحن إخوة في الإنسانية، خلقنا الله مختلفين، لكنه لم يخلقنا لنتقاتل." كانت تلك اللحظة امتدادًا لصلاة الأخوّة التي بادر بها البابا في أبوظبي حين وقّع وثيقة "الأخوّة الإنسانية"، لكنه في الرباط وجد هذه الوثيقة مجسدة في الممارسة. زيارة غيرت قواعد الحوار سياسيًا وروحيا، كانت زيارة البابا فرنسيس إلى المغرب منعرجًا حاسمًا في تاريخ العلاقة بين المملكة والكرسي الرسولي، فقد أعادت الزخم للعلاقات الدبلوماسية بين الرباطوالفاتيكان، ورفعت المغرب إلى مصافّ الدول ذات الرمزية العالمية في قضايا الحوار الديني. وقد صرّح مسؤول في الفاتيكان لاحقًا أن "زيارة فرنسيس إلى المغرب كانت من أقوى لحظات حبريته خارج أوروبا"، مضيفًا أن "الرباط قدّمت نموذجًا نادرًا لاحتضان الآخر". من جهته، حافظ المغرب على قناة تواصل دائمة مع الفاتيكان، مدعومة بتراث ديني عريق، وبحضور مسيحي مغربي يحظى باحترام الدولة، دون انتقاص أو تهميش. فرانسيس في أعين الصحافة المغربية حين وطأت قدماه أرض الرباط، لم تكن وسائل الإعلام المغربية على الحياد، فقد كانت بالفعل لحظة استثنائية بكل المقاييس، وجدت الصحافة نفسها أمام حدثٍ نادر يستدعي أكثر من التغطية "التأمل والتحليل". صحيفة "أخبار اليوم" الموؤودة، وصفت الحدث ب"زيارة التسامح"، معتبرة أن البابا اختار المغرب لأنه "يعرف رمزيته الروحية والدينية في شمال إفريقيا"، ولأنه "يدرك أن رسالة التعايش لا يمكن أن تُولد إلا من أرضٍ احتضنت اليهود والمسيحيين والمسلمين لقرون". أما "الاتحاد الاشتراكي"، فقد اعتبرت أن نداء القدس المشترك الذي وقعه البابا والملك "وثيقة دولية تزن أكثر من أي خطاب دبلوماسي"، بل وذهب كُتابها إلى القول إن هذه الوثيقة تُعدّ "أقوى موقف رمزي في وجه القرارات الأحادية بشأن المدينة المقدسة". أما جريدة "الصباح"، فسلطت الضوء حينها على ما اعتبرته "الرهان المغربي الذكي على البُعد الديني في السياسة الخارجية"، معتبرة أن استقبال البابا لم يكن فقط احتفاء دينيا، بل أيضا "رسالة إلى أوروبا بأن المغرب شريك في المعركة ضد التطرف، ليس فقط أمنيًا، بل روحيا وثقافيا". أما القنوات الرسمية، كالقناة الأولى والثانية ''دوزيم"، فقد نقلت كل تفاصيل الزيارة بلقطات عالية الرمزية، لحظة تقبيل البابا ليد الملك، توقيع نداء القدس، زيارته لمعهد تكوين الأئمة، ولقائه بمسيحيي المغرب... وكلها صور بُني عليها خطاب إعلامي وطني يحتفي بالمغرب باعتباره "أرضًا حوارية بامتياز". وفي العالم الرقمي، كانت الزيارة حديث مواقع التواصل الاجتماعي، حيث انتشرت صور البابا في شوارع الرباط، وهو يحيي الحشود، مرفوقة بتعليقات كثيرة أبرزها: "البابا هنا.. والمغرب بلد الاستثناء الحقيقي." ما ميّز التغطية الإعلامية المغربية آنذاك، هو الإجماع الوطني حول رمزية الحدث، إذ لم يكن هناك انقسام في التقييم، بل احتفاء شبه تام برجل الدين القادم من الفاتيكان، وبالطريقة التي أحسن بها المغرب إدارة الزيارة دينيًا وبروتوكوليا، وحتى الصحف الناطقة بالفرنسية مثل "L'Economiste" و"TelQuel"، ركزت على البعد الجيوسياسي للزيارة، وتحدثت عن "نجاح المغرب في فرض نفسه كفاعل ديني ودبلوماسي موثوق في محيط معقد". فرنسيس في مرآة التاريخ المغربي لقد أصبح فرنسيس، في الذاكرة المغربية، ليس فقط بابا، بل علامة إنسانية، رجلٌ جلب معه إلى المغرب ليس صليبا ولا سلطة كنسية، بل حكمة وتواضعًا، جاء لا ليملي، بل لينصت، لا ليفرض، بل ليشارك. وإذا كان المغاربة قد ودعوه اليوم من بعيد، فإن صوره ما تزال معلّقة في الذاكرة، إلى جانب صور محمد السادس، في تلك اللحظة النادرة التي خاطب فيها الإسلام والمسيحية العالم من على منبرٍ واحد. ومع رحيل فرنسيس، يُطوى فصل نادر في تاريخ الكنيسة، بابا لم يكن فقط رأسا روحانيا، بل ضميرا حيا في عالم منهك، لكن في الرباط، كما في فاس والدار البيضاء، سيظل اسمه مقرونًا بزيارةٍ غيّرت شكل الحوار بين الضفتين، وأعادت للأديان دورها الأصيل: رعاية الإنسان، لا التناحر عليه. فرانسيس، ذلك "القديس الأخير في زمن الميديا"، رحل.. لكن ملامحه ستظل محفورة في الذاكرة المغربية، كواحدٍ ممن جعلوا من الكلمة جسراً، ومن الاختلاف نغمة انسجام.