سجلت تقارير التنمية الإنسانية العربية وجود تقدم في بعض مجالات التنمية في العقود الأخيرة، إلا أنها أكدت على وجود عطب بنيوي في هذه التنمية، شخصته في هيمنة الهياكل التقليدية للدولة التي تمنع الأفراد من المساهمة في التنمية ومن اقتسام ثمراتها. ولئن كانت التقارير الخمس التي شغلت المرحلة ما بين 2002 و2009، قد اهتمت بتشخيص واقع التنمية على مستوى خلق الفرص والمعرفة والحرية والنهوض بالمرأة وأمن الإنسان، فإن أهمية التقرير الأخير الشعب يريد التمكين أنه حاول الإجابة عن سؤال التمكين للتنمية، وذلك بالتركيز على ثلاثة محاور أساسية: 1 تغيير منظومات الحكم والانتقال بها إلى منظومات أكثر فعالية تخضع للمساءلة. 2 الدفع بعملية التنمية على نحو تكون فيه خادمة للمجتمع، وذلك بجعل ثمرتها تمس الجميع ولا تعود فقط على دائرة ضيقة. 3 بذل الجهود لتجسيد التلاحم المجتمعي وتحقيق معادلة التعددية في إطار الإجماع. واضح من خلال التوجهات الثلاثة التي اشتغل عليها هذا التقرير، أن موجة التغيير التي عرفها العالم العربي أحدثت أثرها في الإشكاليات المطروحة وطريقة صياغة الإجابات عنها، لكن يبقى السؤال المحوري هو نوع المقاربة والخيارات المطروحة أمام العالم العربي لتحقيق هدف التمكين للمجتمعات العربية وتحقيق التنمية الإنسانية العربية المتعثرة. هناك ثلاثة خيارات مطروحة اليوم في الساحة لمقاربة ظاهرة التمكين للتنمية في الوطن العربي: ❐ مقاربة أنظمة ما قبل الربيع العربي: والتي كانت تطرح خيار التنمية من غير لازمتها السياسية المتمثلة في الديمقراطية، وهو الخيار الذي انتهى إلى إنتاج رؤيته السياسية القائمة على الاستبداد واختلاق خصم إيديولوجي هو الإسلاميون، للإيهام بوجود خطر على مشاريع التنمية التي تقوم بها السلطة السياسية القائمة، بل بوجود خطر يهدد الاستقرار والأمن الاجتماعي. ولئن استطاع هذا النموذج في المراحل الأولى من تسويقه أن يكتسب بعض الوهج، وأن يحظى بدعم غربي بسبب التوظيف السياسوي لموضوع الإسلاميين وقضايا الأمن والإرهاب، إلا أنه كشف عن حقيقته الاستبدادية وتحول إلى ما يشبه المافيا المالية المسنودة بالاستبداد السياسي، فكان من نتائج الربيع العربي وثمراته أن أطاح به بشكل كامل. ❐ مقاربة مستودعات التفكير الغربية: وهي التي كانت تنتقد النموذج السابق لتجرده من لازمته الديمقراطية، غير أنها ظلت تطرح قضية الإصلاح السياسي بمنطق صراعي صدامي، إذ تفترض في الحالة المغربية مثلا، أنه لا تنمية إلا بالقطع مع منطق الهيمنة الاقتصادية، وأن ذلك لا يمكن أن يتحقق إلا بممارسة الضغوط السياسية على المغرب وإجباره على الانخراط في الإصلاح، وضمن هذه المقاربة، يمكن أن ندرج كثيرا من الأوراق الاستراتيجية التي تصدر عن معهد كارنيجي وبروكينز وغيرهما، بالإضافة إلى المقالات التي تصدر بمجلة «السياسية الخارجية» الأمريكية. غير أن عطب هذه المقاربة، أنها على وعيها بالتفاعلات القائمة بين مكونات الفعل السياسي، واستحضارها لنمط الديناميات الحاصلة، فإنها تغيب من حسابها المعطيات الثقافية والسوسيولوجية التي تجعل من عملية التنمية أمرا غير ممكن في غياب دور مركزي للمؤسسة الملكية، بل وتغيب من اعتبارها أيضا إمكانية كبيرة لتجدد النسق السياسي، ليس فقط على مستوى طرق اشتغاله، ولكن أيضا على مستوى أسلوب وفلسفة الحكم، ذلك التجدد الذي لا تمليه فقط الدينامية السياسية التي ساهم في الرفع من فاعليتها ربيع الشعوب، ولكن أيضا التقدير الاستراتيجي للأمن والاستقرار المجتمعي. ❐ مقاربة الحركة الإسلامية الصاعدة: وهي التي ظلت تؤكد على استحالة تحقيق التنمية من غير لازمتها الديمقراطية، لكنها في المقابل، كانت تؤكد على ضرورة ألا يكون التعدد أداة لانخرام قاعدة الإجماع والتوافق، وهي المقاربة التي ساعدتها على إنتاج رؤية متوازنة في شكل التعاطي مع السلطة القائمة، إذ أكدت في كل الدول التي صعدت فيها إلى الحكم على منطق الشراكة وعدم الاستفراد بالحكم، وأكدت في الحالة المغربية على معادلتين متلازمتين، تقوم الأولى على أن الإصلاح في ظل الاستقرار، وتقوم الثانية على أن شرط الإصلاح توافق الإرادتين الشعبية والملكية، وهو ما تحقق أولا عبر صناعة ربيع مغربي خاص، يقوم على ثورة صناديق الاقتراع، وتتحقق ثانية عبر المنهجية التي تقوم على التوافق مع الإرادة الملكية في إطلاق كل مشاريع الإصلاح. بكلمة، أمامنا ثلاثة خيارات، الأول، اختار الاقتران بالاستبداد وإقصاء القوى الحية، فحكم عليه الربيع العربي بالموت، والثاني، سيكون مآله الفشل لأنه ليس إلا محاولة لإعادة نموذج الصدام حول الحكم، الذي عرفه المغرب في الستينيات، وخيار ثالث، يتم اختباره اليوم، لا يفصل التنمية عن لازمتها الديمقراطية، لكنه يشترط أن يتم ذلك في إطار من الإجماع والتوافق.