الحلقة 1 شهدت عدة بلدان عربية طيلة الثلاثين سنة الأخيرة من القرن الماضي محاولات متعددة لإرساء تجارب للتحول الديمقراطي المتدرج، مع الحفاظ على الأنظمة القائمة، والعمل من خلال ما تتيحه من فضاءات محدودة، سعيًا لتوسيعها، والوصول شيئًا فشيئًا لترسيخ أهم أهداف الديمقراطية وهو التداول السلمي للسلطة. ورغم طول المدة التي استغرقها هذا التدرج فلم يتحقق في هذا السبيل شيء يذكر، بل على العكس من ذلك، شهدنا تراجعًا كبيرًا ونكسات متواصلة، مما أفضى إلى إفراغ معظم هذه التجارب من كل محتوى. وقد جاء زلزال احتلال العراق فلم يحرك الجمود السائد في المنطقة العربية التي أدرك الحكام فيها أن آخر ما ترجوه أمريكا هو إحلال ديمقراطية حقيقية, واحترام فعلي إرادة الشعوب....وكل ما أضافه التدخل الأمريكي هو مزيد من الحيرة والاختلاف لدى القوى الاجتماعية الطامحة للتغيير حول التعامل مع مشاريع بوش وإدارته ل( دعم ) الديمقراطية بين قابل دون تحفظ, ورافض بشدة, وراكب للموجة... والتساؤل الذي نطرحه هو لماذا لم تصل تجارب التغيير الديمقراطي المتدرج إلى إرساء تحول حقيقي يستجيب لمطامح الشعوب في هذا الصدد ؟؟ وفي البداية، نلمح إلى أن هذه الطريقة_ أي دعوى التدرج_ تبدو مغرية؛ نظرًا لأنها توهم بإمكانية إجراء تحولات ديمقراطية دون دفع أي ثمن في المقابل، وفيما يلي نتناول بالتحليل هذا النمط من تجارب التغيير السياسي، في محاولة لتحديد دوافعه وأسباب فشله. التجارب الديمقراطية كانت مجرد رد فعل وقتي فمما هو مجمع عليه، أن كافة هذه التجارب كانت - ودون استثناء - ردًّا على هبَّات شعبية عامة، في محاولة لامتصاص نقمة الشارع وغضبه، بإحداث نوع من تنفيس الضغط على المستوى السياسي؛ لتجنب تفاقم الأحداث. ويتم هذا التنفيس بفتح مجال العمل السياسي والاجتماعي، بشكل نسبي وانتقائي، لبعض القوى السياسية ذات الحضور الجماهيري. ونظرًا لخلفيته تلك، فإن حدود هذا التحول هي بالضبط حدود الامتداد الزماني للنقمة الشعبية، حيث يتناسب مقدار ما يتوفر من حريات مع المظاهر الملموسة، أو تلك المتوقعة للغضب الشعبي. وحالما تعود الأمور إلى الهدوء، وتنزاح نذر الغليان في الشارع، تضيق المساحات شيئًا فشيئًا، وتتقلص فضاءات التعبير الحر والممارسة المستقلة. الحكومات ترد "بالسياسة" على "الاقتصاد" والسبب في ذلك هو، من ناحية انعدام أي قناعة لدى جُلّ هذه الحكومات بجدوى التحول الديمقراطي وضرورته، ومن ناحية أخرى عدم تبلور وعي شعبي ضاغط في هذا الاتجاه. ذلك أن جميع الهبَّات الشعبية التي كانت الدافع المباشر وراء مثل هذه التحولات، إنما كانت حوافزها اقتصادية بحتة، ولم ترتقِ إلى مستوى رفع شعارات سياسية واضحة، تجمع عليها الفئات الشعبية المنتفضة، وترفعها في وجه الحكام. وتستمر في ضغطها الجماهيري إلى أن تتحقق تلك المطالب. وهذا لا يعني بحال من الأحوال أنه لم تكن تكمن وراء الأسباب الاقتصادية أسباب سياسية، بل هذا مؤكد؛ غير أنه لم يتبلور في شكل وعي عام، دافع وضاغط. وبالنتيجة، فإن الأنظمة تعمد إلى الرد على المطالب الاقتصادية للجماهير بحلول ذات طابع سياسي، وتفرغ الجانبين من محتواهما. والسبب في ذلك أنها - وبكل بساطة - عاجزة عن الرد الفعلي على المطالب الاقتصادية، فتقوم بعملية تحويل الانتباه، لعلمها بأن تفريغ شحنات الاحتقان في الشارع السياسي يؤدي إلى تخفيض مستوى الغضب في الشارع عمومًا، مما يكسبها - حسب ما تعتقد - مزيدًا من الوقت. والتساؤل الذي يُطرح بإلحاح هو هل استوعبت القوى الساعية للتغيير الدرس جيدا بحيث لا تلدغ من نفس الجحر مرتين؟ فبعض الأنظمة العربية على وشك أن تعيد لعب نفس الدور الذي أدته في القرن الماضي لإعطاء صورة ظاهرية أكثر قبولا لدى الحاكم بأمره ساكن البيت الأبيض الذي لا يستطيع إكمال اللعبة بأنظمة كالحة الصورة بهذا الشكل. فما هي الكيفية الأقل سوءا للتعامل مع مثل هذا الوضع، بالنسبة للقوى ذات المصلحة في التغيير الحقيقي؟. الخطأ الأساسي للقوى السياسية المعارضة إن النظر في هذه الإشكالية يقود إلى الاستنتاج بأن الخطأ الأساسي الذي وقعت فيه القوى السياسية التي انخرطت في هذا الخيار في القرن الماضي هو التصديق بأن الحرية والديمقراطية يمكن أن يتوصل إليهما بهذا الشكل. واعتبار أن التقدم نحوهما بهذه الطريقة سيكون قدمًا. وأن ما يتم تحقيقه لا يمكن التراجع عنه. وقد أثبتت التجربة أن هذا وهم كبير. ونتيجة هذا الخطأ هي الانغماس في العمل السياسي، وكأن الديمقراطية قد تحققت فعلاً. والاهتمام بالتأطير الحزبي والعمل كلٌّ على حدة؛ لتحقيق غاياته وأهدافه الخاصة، من تكثير الأنصار، وإعداد النفس للتمتع بمباهج هذه الانفتاحة الديمقراطية. وقد أثبتت الأنظمة الحاكمة أنها لا تُلقي بالاً، ولا تقيم وزنًا للتشكيلات الحزبية والجمعيات المستقلة، مهما بلغت قوتها النسبية، ومهما كان صداها الجماهيري. وعندما تحين ساعة الجد ويدق ناقوس الخطر، ينزل سيف القمع على القوى التي تمثل - أو يتوهم أنها تمثل - خطرًا أو بديلاً، فيتم تفكيكها بصور عدة، تتباين في ضراوتها من بلد لآخر. والنتيجة واحدة، وهي تهميشها، وإخراجها من الساحة تمامًا إن أمكن ذلك. أو تحجيمها والحد من طموحاتها، ومن ثَم استمرار الوضع على ما هو عليه، من إغلاق كامل وتام لباب التداول على الحكم بالأساليب السلمية، وهو جوهر الديمقراطية التي لا مغزى لها بدونه. فالمحذور بالنسبة لقوى التغيير هو مقايضة السعي إلى تحول حقيقي بالانخراط في تحول مزيف. والمساهمة في الحفاظ على وضع يراوح مكانه دون تقدم حقيقي، بدعوى الخوف على جملة من المكاسب المحدودة جدًّا والواقعة تحت سقف منخفض جدًّا، وغير القابلة للتطور. هذا هو المأزق الذي وقعت فيه قوى عديدة. الارتقاء بالوعي العام أهم من الانخراط في العمل الحزبي ما هو المخرج من هذا المأزق يا ترى؟.. هل هو نفضُ اليد نهائيًّا من هذه الأساليب، واعتبارها مجرد تمثيليات سخيفة لا تؤدي إلا إلى تأخير ساعة الحسم ؟ .. أم هو التعاطي معها بأساليب جديدة تساهم في التحول السلمي الديمقراطي المنشود؟ إذا استبعدنا الجواب الأول لأسباب لا تخفى على أحد، فإننا نعتقد أن المخرج من هذا المأزق يجب أن يقوم على الخلاصات التالية: 1 - أن التخلص من الاستبداد والديكتاتورية لا يكون دون ثمن. 2 - أن الأنظمة الديكتاتورية لا تتحول من تلقاء نفسها إلى أنظمة ديمقراطية، وأن هذا وهم لا يجب الاستسلام له. 3 - أنه لا مصلحة مطلقا للقوى المهيمنة دوليا في إحداث أي تغيير يتيح للشعوب حرية القرار والاختيار. 4 - أن الهبَّات الشعبية ذات المطالب المحدودة، والحوافز غير السياسية، والنفس القصير، لا تشكل دافعًا لتنازل الأنظمة الديكتاتورية عن منهجها القائم على الاحتكار والإقصاء. والناتج من هذه الخلاصات أنه على القوى صاحبة المصلحة في إحداث تغيير نوعي وحقيقي، استغلال المساحات المتوفرة من الحرية النسبية، ليس بالانخراط في عمل حزبي - سياسي، بالمعنى الضيق والمباشر، بل استغلال هذه الفترة - التي هي بطبيعتها محدودة مهما امتدت زمنيًّا - في العمل المشترك، الذي يضع نصب عينيه الارتقاء بالوعي الشعبي العام، نحو تبني مطالب سياسية واجتماعية ذات طابع جذري، تقطع مع أساليب الهيمنة والاحتكار والديكتاتورية، مما يؤهل الجماهير لأن ترفع في المستقبل هذا المطلب في هبَّات شعبية، تُصِرُّ عليه وتنتهي بفرضه، كما حدث في بلدان أوروبا الشرقية، وجنوب شرقي آسيا، وفي بلدان إفريقية ليست أكثر وعيًا ولا ثقافة ولا حرصًا على الحرية من شعوبنا العربية. العمل المشترك هو الأهم أما إنزال هذا الخيار عمليًّا على أرض الواقع، فيتم بأساليب متعددة: 1 - اتفاق القوى السياسية والاجتماعية ذات التأثير الحقيقي أو المفترض على أرضية عامة مشتركة، الغاية منها توحيد الجهود داخل أطر جماهيرية تكون محاضن حقيقية للإعداد للتغيير المنشود. 2 - بناء هذه الأطر الجماهيرية من منظمات وجمعيات تغطي مختلف المجالات الاجتماعية والسياسية والحقوقية، التي تستصحب في نشاطها مفهوم التوافق الديمقراطي الذي يؤطِّر الخلاف، ويوجه الجهود نحو بؤرة واحدة مشتركة، هدفها المعلن هو سد الطريق على قوى الردة. 3 - الحرص على القراءة السليمة للواقع الاجتماعي، وتحديد مكامن القوة والضعف لكل من قوى الدفع إلى الأمام، وقوى الجذب إلى الخلف، لحسن إدارة الصراع. 4 - تجنب التنافس الحزبي الضيق، وإثارة الخلافات إلى الحد الذي تصبح معه مانعًا من العمل المشترك. 5 - الحذر من التعويل على ما قد تُبْدِيه الأنظمة من مرونة نسبية، تجاه بعض الأطراف، وفي بعض الحالات، للقفز على المراحل، طالما لم يتوفر الوعي الشعبي العام، الضاغط والمانع لكل ردة أو نكسة. وبدون توفر هذا الوعي لدى القوى السياسية والاجتماعية التي تناضل، كلٌّ من موقعه، لإحداث هذه النقلة النوعية والضرورية في حياتنا السياسية، فسوف نظل إلى أمد بعيد نجني الخيبات تلو الخيبات نظير جرينا وراء ديمقراطية القطرة قطرة، بينما الماسك بالزجاجة يرى نهايته في نهايتها! باريس- د. نجيب عاشوري