تناولت في مقال "إنهم يريدون خلق جيل من الضباع !!"الصيحة المدوية التي أطلقها الراحل محمد جسوس رحمه الله ، عندما صرخ في مناظرة إيفران الثانية في صيف 1980 ، في وجه مهندسي السياسة العامة إزاء الشباب ، وقال بإيجاز شديد :إنهم يريدون خلق جيل من الضباع "، و أستطيع التأكيد أن عملية التضبيع تتم على أحسن وجه…وأن صناعها وتلامذتهم يستولون اليوم على مراكز القرار في مؤسسات التشريع والتنفيذ، ويحتلون مواقع القيادات في الأحزاب والنقابات… * أم المعارك وقال الراحل جسوس: "إن مستقبل المعارك التي ننادي بها هو مستقبل الشباب، و بالتالي مآلها هو ما يملكه هذا الشباب من إمكانات ومؤهلات على ضمان انفتاحه وازدهاره، أكثر ما يمكن، وفي هذه الحالة، يمكن لنا أن نطمئن أنفسنا على مصير معاركنا الكبرى من أجل مجتمع ديموقراطي متحرر، أما إذا حدث عكس ذلك، إذا كان شباب هذا البلد مهمشين، مقموعين، مكبوحين، مكبوتين، مطاردين في مختلف مرافق الحياة، فيمكننا من الآن أن نصلي صلاة الجنازة على هذه البلاد و على مستقبلها". * جيل "الضبوعة" وأضاف جسوس، لا خير يرجى من بلاد بأكملها ومن نظام سياسي واقتصادي واجتماعي بأكمله، إذا كان يعتمد على سياسة التجويع والتضييع ..، إذا كان شباب هذه البلاد يعاني من تخوف مستمر حول عيشه أولا وقبل كل شيء، ويعاني في مستوى ثان من سياسة على صعيد التعليم وعلى صعيد الثقافة وعلى صعيد التأطير الفكري والإيديولوجي، تحاول خلق جيل جديد لم نعرفه في المغرب، جيل «الضبوعة» جيل من البشر ليس له حتى الحد الأدنى من الوعي بحقوقه وبواجباته، ليس له حتى الحد الأدنى من الوعي بما يحدد مصيره ومصير اخواته ومصير اقاربه ومصير جيرانه لا خير يرجى من بلاد تعامل شبابها بمختلف اشكال القمع والإكراهات والتخويف والترهيب.... * ثورات أساسية وأرجع جسوس اشتداد الأزمة إلى غياب الجامعة المغربية من أي رهان جدير بتأسيس الدولة الوطنية وقال إن مكانة الجامعة تأتي "من كون ما حدث من ثورات في المجتمعات الصناعية هو تطور لم نعرف منه نحن شيئا، فالمجتمعات الصناعية المتطورة لكي تصبح كذلك مرت عبر أربع ثورات أساسية: ثورة سياسية ديمقراطية، وثورة تكنولوجية صناعية، وثورة اجتماعية قضت على بقايا الاقطاع والنظم القبلية ونظام الكنيسة، ومختلف اشكال التخلف، وثورة كذلك ثقافية وفكرية وايديولوجية، رسخت في هذه المجتمعات أفكار العقلانية والتقدم والحتمية والمادية والإيمان بالمستقبل (...) هذه الثورات الأربع حدثت في المجتمعات الصناعية عن طريق طبقة أساسية هي الطبقة البورجوازية، في ظروف كانت فيها الطبقة البورجوازية تمثل طليعة الثورة داخل هذه المجتمعات، قبل أن تتحول إلى طبقة لها امتيازات ولها مكانة تريد الحفاظ عليها، وبالتالي بدأت تنتقل من منطق ثوري الي منطق المحافظة والرجعية (...) فليس من الصدفة أن تاريخ الثورة الصناعية يقترن بتاريخ الجامعة، وأن تاريخ الثورة الصناعية هو الذي أدى إلى كل القوانين التي تسن إجبارية التعليم، هو الذي أدى الى جعل ضرورة توفر الجميع على حد أدنى من التمدرس قانونا تسنه الشعوب المتحضرة وتفرضه عل نفسها وعلى كافة الطبقات المتواجدة داخلها. وليس من الصدف أن بروز وانفتاح الجامعة ودورها قام بصفة عضوية ببروز الثورة العلمية والتكنولوجية..". ووجه جسوس انتقادات لاذعة إلى كل أشكال الإصلاحات الفوقية، لأنها، حسب ما جاء به العرض، "ستبقى فوقية ولن يدافع عنها الشعب، لن يعتبرها مكتسباته، لن يتحمس من أجل تطويرها إلا إذا كانت متوفرة على هذين المبدأين" وقال إن " الجامعة هي مدرسة العرفان والبرهان والبيان، ومن جهة ثانية، مدرسة الديمقراطية والحوار والنقد الذاتي والابتكار والبحث عن الجديد ..".. و الواقع أن صرخة "جسوس" رحمه الله و مخاوفه تحققت بالفعل ، فالمدرسة العمومية التي صنعت رجالا بالأمس، هي الآن مشتل لاستنبات المزيد من الضباع -دون تعميم طبعا-.. * المدخل الأساسي و قد أشرت في أكثر من مناسبة و خاصة في مؤلف" النموذج التنموي المنشود بأجزائه الثلاثة" ، و "مؤلف المدرسة النبوية اليوسفية بأجزائه الأربع" ، إلى أن المدخل الأساسي للإصلاح و التغيير يبدأ بالتعليم ، فعندما تصبح بنايات المدارس هي الأفخم و الأجمل في المدن و القرى، و رجال و نساء التعليم هم القادة حقا.. آنذاك يمكن الحديث عن النهضة و الصعود الحضاري.. و هذا ما فعلته الصين…" فالصين التي تنافس بقوة على إحتلال صدارة الاقتصاد العالمي، بذلت جهودا كبيرة في سبيل بناء الرأسمال البشري مقارنةً بالدول العربية التي استثمرت في الحجر و أهملت البشر، فالصين تجاوزتنا بعقود عديدة في المجال التعليمي والتقني، وذلك راجع إلي تردي النظام التعليمي المغربي بشكل خاص و العربي بشكل عام.. * افخر المباني فالسياسة التعليمية المتبعة في الصين سياسة فريدة وغير متبعة حتي في الدول الغربية المتقدمة، و ما يدعم هذا الطرح هو أن المدارس هي من افخر المباني في القرى والبلدات في أفقر مقاطعة في الصين وهي مقاطعة "غيزو" ، و هو عكس الوضع السائد في المغرب و أغلب البلدان العربية حيث تكون مراكز التسوق و اللهو في العادة افخر المباني في المدن. أما في القرى و المداشر فإن المدارس إن وجدت فهي بالتأكيد لا تصلح للاستعمال الآدمي حيث غياب المرافق الصحية و انقطاع الماء و التيار الكهربائي في غالب الأحيان.. * كلمة السر و استشهاد بعض المسؤولين المغاربة و العرب بالتجارب الآسيوية في النهوض و الصعود و اعتبار التعليم كلمة السر في تحقيق هذه الانجازات ، مؤشر إيجابي لكن لا ينبغي أن يقتصر على الاستشهاد و الاقوال و لكن ينبغي ان يتحول إلى أفعال.. * ثورة الميجي خاصة و أن الفهم العميق و الدقيق لتجربة بلدان شرق أسيا يتطلب العودة إلى بداية دورة العمران و عدوى التنمية…فالبداية كانت ب"ثورة الميجي" في اليابان التي إختارت منذ البداية توجه إصلاحي سليم و برغماتي، ينسجم من الخصوصيات الثقافية و الحضارية لليابان، و هذا التوجه قام على قاعدة "التقنية الغربية و الروح اليابانية" وهو ذات المنهج الذي إعتمدته باقي بلدان النمور الآسيوية و الصين و غيرها من القوى الصاعدة في آسيا .. للأسف، في عالمنا العربي و في نفس الفترة قامت ثورة محمد علي في مصري بل سبقت "ثورة الميجي"، لكن إختيار تم إعتماد منهج خاطئ يقوم على نقل القيم و إهمال التقنية و لازلنا ندور في نفس الحلقة المفرغة… ومادام أن العالم العربي لم يحدد بعد فكرة مركزية لسياساته التعليمية و التربوية، و هدف حضاري و تنويري لرسالته الإنسانية.. فلن يستطيع تحقيق الثورات الكبرى على أرضه من دون إراقة المزيد الدماء ..و حتى لا أطيل عليكم سأرحل هذا النقاش للمقال الموالي إن شاء الله تعالى ..والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون… كاتب و أكاديمي مغربي