لم تكد تمر ثلاثة أيام عن خروجه من السجن حيث كان قد حل ضيفا لمدة ثلاث سنين (2007-2004) على هذه المؤسسة من أجل التأهيل وإعادة الإدماج، حتى عاد إلى سابق عهده بل وزاد في الانغماس في السلوك والتصرفات الإجرامية الموجبة لإعادته للحبس وهذه المرة لفترة قد تمتد لسنين طويلة. كان (محمد غ•) قد اعتقل لأول مرة وسنه لا يتجاوز 18ربيعا سنة 1992 ضمن أفراد عصابة إجرامية توبعت من طرف العدالة لارتكابها السرقة تحت التهديد واعتراض سبيل المارة، وهي التهمة التي تم إدانته من أجلها بسنة حبسا نافذا أمضاها كاملة بين أسوار السجن بعيدا عن أسرته. كان شابا من مواليد 1974 وهو أصغر إخوته وأحبهم إلى قلب والديه، لكونه الوحيد الذي ازداد ذكرا للأسرة التي رزقت بخمس بنات. قبل مجيئه إلى الدنيا، تتذكر والدته بحسرة، كيف كان أبوه لا يكل التضرع إلى الله والدعاء إليه بتخليصه من مأزق الإناث اللاتي كان يرزق بهن في كل مناسبة واحدة بعد الأخرى، وكيف كان كلما اقتربت هي من الولادة، يمني هو النفس بولد ذكر لا أنثى يرثه بعد الممات، ويكثر في تلك الأيام من أعمال الخير والصدقات لعل الله يقبل طلبه ويهبه ولدا ذكرا. ذكرى لا تبلى، تلك التي عاشتها أسرة (محمد غ•) بازدياده، لا تنسى الأم كيف استقبل والده المناسبة، وكيف عاشها معه أهله وعشيرته، فالبيت الصغير الذي كان يضم أسرة من 7 أفراد تحول حينذاك إلى قبلة للمهنئين من الأحباب والجيران. فقيمة المناسبة لدى والد (محمد غ•) لم تكن لتقل شأنا عن "عيد كبير" لما تحمل من دلالة رمزية عميقة لدى أسرته وعائلته كافة، وحتى سكان الحي كان والد (محمد غ•) يشعر أنهم سيغيرون بعد هذه المناسبة السعيدة نظرتهم إليه، وحتى"أبو البنات" الذي كانوا يمعنون في المناداة به عليه، كان يتوقع منهم أن يغيروه باسم "أبو محمد" وهو ما كان يتمنى من سكان الحي. كان الوضع الاعتباري الذي أنزله إياه والداه قد منح (محمد غ•) مرتبة متقدمة لا تقل مستوى عن"رجل البيت" أو "السيد" بينما بقية أخواته البنات يقبعن في مؤخرة الأسرة، كالعبيد يعملن على خدمته وتلبية طلباته التي ما تنفك تتزايد. هذه الثنائية في التصنيف، ستتمدد وتتوسع مع تقدم الطفل المدلل في السن ويظهر ذلك خلال الأعياد والمناسبات حيث تكتفي الأسرة بشراء أجمل الثياب وأغلاها ثمنا ل(محمد غ•) فقط. هذا الأخير، الذي ببلوغه 14 عاما سيبدأ في التمرد على المدرسة حيث سيصبح كثير التغيبات بدون مبرر مما عرضه للطرد. سنة 1997، سيلتحق والد (محمد غ•) بالرفيق الأعلى، بعد مرض اشتد عليه، ليترك الأم وحيدة تصارع من أجل توفير لقمة العيش لخمس بنات وولد مدلل اختار تمايزه بتفوقه الذكوري، غير عابئ بالحمل الثقيل الذي صار كاهل الأم، ولا بخطر بالتشرد الذي تواجهه أسرته التي رفع مالك المنزل دعوى قضائية يطالبها بالإفراغ. كان الشارع ورفقة السوء هما الملاذ الوحيد الذي وجده (محمد غ•) في طريقه المفروش بالأشواك بعد أن ترك الفصل، ووجد ضالته في أربعة شبان في مثل سنه، يتظاهرون ببيع "المقدنوس" بسوق الخضر بدرب "السينغال"، كان نشاطهم لا يمت للتجارة بصلة، وينتهي في كثير من الأحيان بمركز شرطة "بوسبير" التي تتدخل عناصرها لفض النزاعات التي يتسببون فيها. توطدت العلاقة بينهم وكونوا عصابة إجرامية مختصة في السرقة واعتراض السبيل، كانوا يستهدفون العاملات اللاتي تضطرهن الظروف للخروج للعمل باكرا، يسلبونهن ما بحوزتهن تحت التهديد. وقد تم إلقاء القبض على هذه العصابة من طرف الشرطة وزج بأفرادها الخمسة في السجن. طيلة المدة التي أمضاها (محمد غ•) معتقلا، لم تبخل أسرته عليه بشيء، وهي التي لم تخرج بعد من محنتها بعد إفراغها عن طريق المحكمة من المنزل التي كانت تقطنه بدرب لابوت، هذا المنزل الذي أمضت به أزهى وأحلى أيامها. لترحل مكرهة إلى دوار "تقلية". كانت والدة (محمد غ•)، تحسب أن ابنها بإمضائه للعقوبة الحبسية سيتعلم الشيء الكثير من تجربة السجن وسيكون بإمكانه التمييز بين الصالح والطالح. لذلك كانت تمعن في إسداء النصح له وتطلب منه العودة إلى الرشد والابتعاد عن مرافقة الأشرار والبحث عن حرفة يتعلمها حتى لا يعود لسلوكه الطائش الذي يقود دائما إلى السجن.. كان الدعاء له هو الأمل الوحيد الذي يملأ قلب الأم ولا تيأس منه أبدا. د.تكرر دخول (محمد غ•) بنفس التهم للسجن. وبدأ الشعور بالإحباط يدب إلى قلب الأسرة الفقيرة من ابنها المدلل الذي بلغ عمره 27 سنة دون أن يستقيم حاله ،فالمدد التي قضاها في السجن لم تزده إلا نقمة على نفسه وعلى المجتمع. كانت ليلة 21 يوليوز 2001، آخر فترة ل(محمد غ•) يقضيها في حضن أسرتها، حيث وقبل أن تسطع شمس الصباح، كان رجال الأمن يهزون أركان البيت بطرقاتهم القوية ليداهموه بعد ذلك ويلقوا القبض على (محمد غ•) وسط صراخ وعويل أخواته، أما أمه فكانت مكتفية بالتساؤل "أش دار هذ المرة"... حجز رجال الشرطة مجموعة من الأشياء مخبأة في ركن من البيت واقتادوا المتهم الذي يلف يده بضمادة، إلى ولاية الأمن.++ كانت الشرطة القضائية قد عثرت، قبل ذلك بساعات، على جثة شاب مجهول الهوية بالقرب من شاطئ البحر، تحمل أثار جروح غائرة على مستوى الرأس. وبتمشيط دقيق للمحيط الذي وجدت فيه الجثة ،عثرت الشرطة أنذاك على شظايا زجاجة خمر مكسرة تحمل إحدى شظاياها بقع من الدم تبين بعد فحصها أنها للضحية. كانت التحقيقات التي تباشرها الشرطة قد اتخذت مسارا يتعلق بجريمة قتل. وأدلى احد الصيادين بمعطيات إلى الشرطة تفيد بأن شابا كان يتردد في الأيام الأخيرة، على الشاطئ طلب منه، سيجارة، وان هذا الشاب الذي استفزه بكلام ناب عندما أجابه بعدم توفره على السجارة، كان يحمل زجاجة خمر في يده. كما أمد الصياد رجال الشرطة المتحلقين حول الجثة، بمعلومة قيمة مفادها، أن هذا الشاب تبادل تحية حارة في صباح نفس اليوم مع شخص يتردد كثيرا على مقهى بالقرب من سينما "مغرب" انتقلت على الفور سيارة الشرطة إلى المقهى صحبة الصياد، حيث وجدوا الشخص المطلوب، هذا الأخير، أطلع المحققين أن الأمر يتعلق ب (محمد غ•) وهو حديث الخروج من السجن، وحول علاقته به أفاد هذا الشخص، أن صلته ب(محمد غ•) لا تتعدى علاقة القرابة. وكشف لرجال الشرطة عن بيت أسرته الجديد. وتبين من التحقيق مع المتهم، أن يوم الحادث كان على شاطئ البحر الذي قصده منذ الصباح الباكر وفي نيته اعتراض سبيل المارة وسلبها أغراضها تحت التهديد بالسلاح الأبيض، إلا أن عدم امتلاكه لهذه الأداة التي بحث عنها كثيرا في البيت ولم يجدها، جعلته يعدل عن هذه الفكرة إلى حين. وأضاف المتهم في تصريحاته المدونة في محاضر الشرطة، أنه بينما كان يحتسي الخمر على الشاطئ، حل الضحية بالمكان وأثار انتباهه فقصده وطلب منه هاتفه النقال لإجراء مكالمة هاتفية، إلا أن الضحية، رفض ذلك وامتنع أيضا عن مده بالنقود التي طلبها منه. وأوضح المتهم،أن الضحية وفيما كان يهم بمغادرة المكان، باغته بضربة قوية بواسطة قنينة الخمر الفارغة التي كان يحملها معه مما أفقدته توازنه وسقط الضحية أرضا، لينهال عليه بمجموعة من الضربات بواسطة شظايا زجاجية لم تمهله طويلا ليفارق الحياة. وقام بعدها المتهم بالاستيلاء على حافظة نقود الضحية ومن بينها أوراقه الثبوتية، وكذا هاتفه النقال ولاذ بالفرار. وقد قامت مصالح الشرطة بإشعار أهل الضحية الذي ينحدر من سيدي بنور والذي كان في زيارة لأحد أقربائه بحي "بوسبير". بعد انتهاء البحث واستكمال مراحل التحقيق، أحيل المتهم على غرفة الجنايات بالدار البيضاء التي حكمت عليه، وفق المنسوب إليه، ب30 سنة سجنا نافذا.