بداية وجب الاعتراف أنني لست أتقن من اليابانية حرفا أو اسما ، ولا أفقه فيها شيئا على الإطلاق ، إلا أنني أعرف عن اليابانيين وحِكمهم وعاداتهم القليل القليل ، ومن ذلك القليل الذي أعرفه هو أنهم شعب عملي ونشيط بامتياز ، شعب لا يبيع نظامه القرود ويضحك على من اشتراها ، بل يعتبر القرد رمزا للحكمة ، حتى أن أشهر القرود التي صنعت لها التماثيل وأخذت لها الصور وحظيت بالنجومية هي قرود يابانية ، وهي Mizaru و Kikazaru و Iwazaru و تعني بالترتيب: لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم ، ولئن كان اليابانيون شعبا ونظاما يؤكدون على أن هذه الحكمة تعني “: لا تنظر للشر ولا تتكلم بشر ولا تسمع الشر” ، فإن أنظمة عربية تبنت هذه الحكمة واشتركت رغم اختلاف الأقطار وتباعد الأمصار في تشويه معناها ومغزاها والمراد منها وذلك بتحويلها إلى قانون يجعل كل من تمسك به وحوله إلى واجب وسنة مؤكدة مواطنا يتمتع بمقومات المواطنة ” الصالحة “، ويجعل في المقابل ممن تعسر عليهم قبول التشويه أقلية ” طالحة ” ” ناطحة ” ” نابحة ” وغير ” فالحة ” مادامت ضد التيار سابحة . نعم أنت مواطن ممتاز ما دمت لا ترى ، وأنت كذلك مادمت لا تسمع ، وأنت مواطن صالح إن كنت لا تتكلم سرا أو علنا ، وأنت عكس ذلك إذا ما اخترت تجريب العكس ، وإن قلت العكس فجرب أن ترى الحقيقة كما هي ، وجرب أن تسمع صوت الحقيقة كما هو ، وجرب أن تتكلم عما رأيت وسمعت …، أكيد أنه لن يفسح لك المجال لترى تلك الحقيقة ، وحتما لن يسمح لك بمحاولة سماعها ، وبلا شك ستقمع قبل أن تنوي التعبير عن الرؤية والسماع ، وحتى إن لم تقمعك الأنظمة بما لها من أجهزة قمعية وسلطوية ، فإن الغالبية العظمى ممن تظنهم مثلك أمست تنطبق عليهم نظرية القرود الخمسة التي تحكي عن قيام مجموعة من العلماء بوضع خمسة قرود في قفص واحد ، ووضع سلم وسط القفص ، وجعل بعض الموز في أعلى السلم ،فكان كلما صعد أحد القرود لأخذ الموز إلا ويقابل هذا الصعود رش العلماء لباقي القرود بالماء البارد ، وهكذا وبعد فترة زمنية يسيرة ، أصبحت القرود تمنع وتضرب كل قرد يحاول تسلق السلم وجلب الموز حتى لا يرَّشون بالماء البارد ، ومع تكرار القمع والضرب لم يعد أي قرد يجرؤ على صعود السلم لأخذ الموز على الرغم من كل الإغراءات التي يقدمها العلماء وذلك خوفا من قمع بقية القرود ، وحين استقر الوضع على هذا الحال قام العلماء بتبديل أحد القرود الخمسة و وضعوا مكانه قردا جديد ، وطبعا فأول شيئ قام به القرد الجديد هو أنه حاول صعود السلم ليأخذ الموز، ولكن القرود الأربعة المتبقية كانت له بالمرصاد إذ قمعته ونكلت به ، وبعد عدة مرات من الضرب فهم القرد الجديد بأن عليه ألا يصعد السلم وعمل بما فهم حتى وإن كان لا يدري ما السبب ، وبعدها أيضا قام العلماء بتبديل أحد القرود القدامى بقرد جديد ،و حل به ما حل بالقرد البديل الأول حتى أن القرد البديل الأول شارك بقية القرود بالضرب و هو لايدري لماذا يضرب ، و هكذا حتى تم تبديل جميع القرود الخمسة الأوائل بقرود جديدة ، ليلاحظ العلماء في الأخير أنه حتى وإن لم يرشوا القرود بالماء فإن أي قرد يحاول كسر امتناع تسلق القرود للسلم والظفر بالموز ، إلا ويضرب ضربا مبرحا دون أن يعرف لا هو لا بقية القرود أسباب الضرب وأسراراره . وتلك لعمري نظرية تعبر عما في يجري في واقعنا ، فإياك إياك أن تفهم أو تتكلم أو ترى ، وإياك إياك أن تلقي السمع وأنت شهيد ، فمن يدري فلربما أصبحت قردا أنت الآخر ، ولربما ضربتك القرود التي تستأسد كلما غابت عن القيام بدورها الأسود