بعد عودة الملكية البوربونية مع الملك ألفونصو الثاني عشر سنة 1874، وبعد الجمهورية الأولى سنة 1873، وإلى غاية إعلان الجمهورية الثانية سنة 1931، توقف آباء الدستور الإسباني دائما أمام عقدة التعريف الممكن للشعب الإسباني. وأثناء صياغة دستور الجمهورية الثانية وهو السادس بعد دستور 1812، توقفت لجنة صياغة الدستور طويلا وبدت عاجزة على تعريف الشعب الاسباني في الباب الأول من دستور الجمهورية. وفي إحدى جلسات لجنة الصياغة، احتدم النقاش حول التعريف المذكور بحضور رئيس الحكومة آنذاك كانوفاس دي الكاستيجو الذي علق قائلا: “الإسبان هم الذين لا يمكن أن يكونوا شيئا آخر“. عبد الحميد البجوقي / هسبريس، الأحد 29 أكتوبر 2017 تحت عنوان ” إسبانيا الثورية” نشرت صحيفة نيويورك تريبيون في 9 شتنبر 1854 ثماني حلقات من مقالات” جُمِعت في الجزء الثامن من “الأعمال السياسية” لكارل ماركس ترجمة موليتور 1931، ص 115-209 تساءل فيها ماركس: لماذا لم تستطع المركزية أن تجد لها موطئا في بلد شهد قبل غيره من البلدان الإقطاعية الملكية المطلقة وذلك في أكثر أشكالها حدة ؟ ويجيب مقارنا بين المجتمع الاسباني و المجتمعات الأوروبية الأخرى. “في المجتمعات الأوروبية نهضت الملكية على أنقاض الطبقات الإقطاعية المتصارعة : الارستقراطية والمدن. وقد كانت الملكية المطلقة مركزا من مراكز الحضارة وحاملة للوحدة الاجتماعية. كانت المختبر الذي تمازجت داخله وتداخلت مختلف عناصر المجتمع الأمر الذي حمل المدن على القبول بمقايضة استقلالها المحلي الموروث عن القرون الوسطى بتقدم البرجوازية على سائر الطبقات وبسيطرتها على المجتمع البرجوازي ” الأهلي “. أما في يخص اسبانيا فإن الأرستقراطية، على النقيض من ذلك لم تفقد امتيازاتها. وكذلك المدن استطاعت الحفاظ على حيز كبير من استقلالها فيما فقدت قوتها ودورها “الحديث ” لماذا حصل ذلك ؟ يتساءل ماركس دائما. لا شك أن الملكية بذلت قصارى جهدها لتحول دون نمو المصالح المشتركة للطبقات الاجتماعية ، ودون التقاء هذه الطبقات على ما يجمع بينها، أي ما يتولد من ” التقسيم القومي للعمل” – كأن ماركس يصف الحالة الراهنة لاسبانيا- على مستوى تقسيم العمل القومي بإسبانيا . كما أن التراجع الاقتصادي الذي أصاب اسبانيا منذ القرن السادس عشر اضعف حركة التبادل في الداخل، وشل الصلات بين مختلف المقاطعات، وجعل المواصلات بينها تتردى. فانكفأت المقاطعات المختلفة على حياتها الداخلية وعلى استقلالها وتباينها. إلا أن هذا التفتت لم يحصل إلا لأن مادته كانت قائمة. ومادته هذه تحدرت من التاريخ الاسباني . فقد تكونت الملكية الاسبانية من اجتماع مناطق أراغون وكاستيل وغرناطة . وتمتعت المؤسسات البلدية والمدينية، التي تمثلت في مجلس الكورتيس، باستقلال لم تعرفه البرلمانات البريطانية أو الجمعيات العامة الفرنسية. ذلك أن ” أجزاء شبه الجزيرة الصغيرة استعيدت وحولت إلى ممالك مستقلة في حقبة كانت أوار المعارك الطويلة ضد العرب مستعرة. وتكونت في أثناء هذه المعارك عادات شعبية وقوانين جديدة . وتعاظمت موجات الاستيلاء المتعاقبة التي اضطلع بها النبلاء من قوتهم، إلا أنها أضعفت في الآن نفسه من سلطة الملكية. من جهة ثانية ، كسبت المدن والبلدات ، داخل البلد، أهمية متعاظمة إذ اضطر الناس إلى التجمع في أماكن محصنة وذلك لرد غائلات حملات البربر التي لم تكن لتنقطع” . يرجع إذن ماركس سبب نشوء الكيانات المستقلة في اسبانيا إلى حروب الاسترداد التي خاضتها الكيانات الاسبانية ضد العرب مما يدفع بالمناطق المحررة إلى الانكفاء والعزلة ومسؤوليته الخاصة في الدفاع وحفظ المناطق المسترجعة دون الاتكال على مساعدة كيانات أخرى أو من المركز وإذا نظرنا بعين الاعتبار إلى أن عملية الاسترداد والتي استغرقت ثمانية قرون قد سمحت لكل جهة أو منطقة من أن تحصن نفسها واستقلالها وأن تدعم وحدتها مستفيدة من ظروفها لتبني أسسها على معطيات قوية، فورثت مدن الحقبة الأخيرة من القرون الوسطى وبدايات عصر النهضة استقلال هذه المدن، ولا بد بالتذكير هنا أن المدن كانت تضم سلسلة من القلاع المنتشرة على مساحات شاسعة تربطها بالمدن ضمن اتحادات تأخذ صيغا مختلفة، وتحول الصراع بين الملكية وبين القوى المدينية في غالب الأحيان إلى حروب أهلية كما أشار إلى ذلك ماركس فيما يخص أحداث الحرب الأهلية التي دامت من 1520 إلى 1522 وسحقت فيها قوى الانفلات والتي تمثلت في المدن التي كانت بحوزة البرجوازية القوية آنذاك على الصعيد الأوروبي. حيث بقيت اسبانيا مثلها مثل تركيا بعد منتصف القرن التاسع عشر ركاما من المقاطعات السيئة الإدارة وعلى رأسها حاكم اسمي، إلا انه تجب الإشارة هنا إلى أن صيغة الحرب الأهلية أضحت مداك ميزة اسبانية، وقدرا مرتبطا بهكذا تشكل سياسي، فأصبح التاريخ الاسباني على الدوام مرتبطا بهذا النوع من الانتفاضات المتصلة دون أن يعرف حسب ماركس “ثورة جدية واحدة”. بسبب عجز المناطقية الإسبانية عن بلورة تيار وطني عام، هذا الأمر الذي استحوذ مؤخرا على انشغالات النخبة السياسية الاسبانية بعد دستور 1978. المفارقة العجيبة التي رصدها ماركس هنا هي تمييزه بين الشكل السياسي الاسباني الهش والمضمون المجتمعي المفارق، فحالة التفكك و الترهل التي تعرفها الحالة الاسبانية لم تنتقل عدواها يوما إلى المجتمع ففي الوقت الذي يبدو فيه الشكل السياسي الاسباني مترهلا فان المجتمع الاسباني يعد من المجتمعات الأكثر حيوية ونشاطا، فلم يكن يصعب على نابليون أن ينتصر على دولة بهكذا وضع سياسي، وضع يتميز بالهشاشة والانكفاء وهو رأي معاصريه، فاسبانيا كانت تبدو جسم بلا حياة، إلا أن هذه النظرة النابليونية لاسبانيا كلفته الكثير، فقد كانت دهشة نابليون كبيرة بل الحقيقة تقال وكما سجلها التاريخ كانت تجربة نابليون أليمة جدا بإسبانيا ، فقد فوجئ بان موت الدولة لم تنتقل عدواه إلى المجتمع الذي بقي يضج بالحيوية والحياة واحتفظ بمقدرة على المقاومة كلفت الغازي الفرنسي غاليا. يجب أن نعترف أن تصفية ارث فرانكو تلازم مع عودة الخصوصيات المحلية شبه القومية أو القومية بل إن هذا المشروع بني على الاعتراف بهذه الخصوصيات حيث أن المشروع الديمقراطي الاسباني الحالي يقوم وينبني على الاعتراف بالبنى السياسية المحلية التي نحى بعضها إلى توسل العنف ضد الإدارة المركزية بل احتل العنف مع إيطا الباسكية مكان الصدارة بين الأدوات السياسية الأخرى . كما أن الحالة الراهنة لكاطالونيا تنذر بعودة الجيش إلى الواجهة. إن طريقة ولوج إسبانيا للمرحلة الديمقراطية وطريقة بنائها لمشروعها الديمقراطي، تركت فراغات عدة في المشروع الديمقراطي الإسباني الحديث. وذلك لأن إسبانيا ببساطة لم تعرف مرحلة الانتقال الديمقراطي، بل عرفت دُخُولا إلى التجربة الديمقراطية مباشرة ودون المرور بمرحلة العدالة الانتقالية الضرورية لتصفية الأجواء السياسية داخليا، هناك وإلى جانب المضاعفات السياسية التي اشرنا إليها يطرح هكذا دخول إلى التجربة الديمقراطية يطرح كم اشرنا سالفا إلى شبح عودة الجيش الإسباني إلى واجهة الحياة السياسية نظرا لاعتبارات العقيدة العسكرية الموروثة عن الحقبة الفرنكاوية والتي لم يتم تجاوزها كإحدى نقاط جدول الأعمال الضرورية المفترض نقاشها في سياق طرح إشكالية العدالة الانتقالية لإسبانيا لتصفية سياسية لإرث فرانكو ، رأينا إحدى فصولها بالنسبة للداخل الاسباني إبان أحداث 23 فبراير 1981، عندما حاول فيه أفراد من القيادة العسكرية الاستيلاء على السلطة في إسبانيا من خلال انقلاب عسكري حيث اقتحم مجموعة من الحرس المدني بقيادة المقدم أنطونيو تيخيرو مبنى البرلمان خلال مراسم تنصيب ليوبولدو كالفو سوتيلو كرئيس للحكومة، واحتجزوا النواب كرهائن. وبالنسبة للخارج الاسباني أحداث جزيرة ليلى المغربية مما يبين أن العقيدة العسكرية للجيش الإسباني لازالت مبنية على العقيدة الفرانكية المعارضة لأي حركة تفلتية وهي المسالة التي لا تحظى بالكثير من النقاش في خضم استعمال الأدوات الدستورية .