يشكل التعليم أداة محورية في تشكيل الوعي الجمعي للمجتمعات، حيث يتأرجح بين توجهين متناقضين: الأول هو التلقين الذي يعيد إنتاج المعرفة، والثاني هو الإبداع الذي يسعى لتجاوز الحدود التقليدية. هذا التناقض ليس أبدا مجرد إشكالية تربوية، بل تجسيدا لرؤية أعمق للعالم؛ بين عقل يعتنق الاستقرار وآخر يسعى لتحفيز التساؤل والبحث. في هذا السياق، يبرز التساؤل عن كيفية تشكل التلقين في مسارات التعليم، وأثره في تثبيت الأنماط الفكرية الجامدة وهل يمكن للفكر الحر أن ينمو في بيئة تأصلت فيها ثقافة الامتثال؟ يظهر التحليل النفسي أن التلقين لا يقتصر على حشو العقل بالمعلومات، بل يعمل على ترسيخ بنية نفسية تميل إلى التبعية والخضوع، لذلك يشير إريك فروم، على سبيل المثال، إلى أن الإنسان يهرب من الحرية حين يجدها عبئا، فيلجأ إلى الامتثال كآلية دفاعية تمنحه الطمأنينة. هذه البنية تجد جذورها في أنظمة تعليمية تقليدية ترى في الحفظ والتكرار وسيلة لضبط الأفراد، فتقتل لديهم النقد وتخلق فيهم مقاومة قوية للتجديد. وفي هذا السياق، يعد المفكر البرازيلي باولو فريري من أبرز من نقدوا نموذج التعليم القائم على التلقين، حيث وصفه ب "نموذج التعليم البنكي"، الذي يتعامل مع المتعلم كوعاء فارغ يملأ بالمعرفة دون أن يكون له دور فاعل في إنتاجها. يرى فريري أن هذا النموذج يعمق علاقات القهر داخل المجتمع، إذ يكرس الطبقية، ويحول العملية التعليمية إلى أداة لإعادة إنتاج البنى التربوية، الاجتماعية والاقتصادية القائمة. إن التعليم، بحسب فريري، لا يجب أن يكون عملية نقل ميكانيكية للمضامين، بل حوارا جدليا يسهم فيه المتعلم بوصفه ذاتا واعية قادرة على الفعل والتحرر. ومن هنا، فإن مقاومة التلقين لا تنفصل عن مشروع تحرير الإنسان وإعطاء معنى لوجوده ككل. لكن يبقى السؤال الذي يجب طرحه هو: ماذا يحدث حين يتم قمع الإبداع؟ يجيب فرويد أن الطاقة الذهنية المكبوتة في هذه الحالة لا تختفي أبدا، بل تعود في شكل اضطرابات نفسية، ومنها مظاهر عدوانية، سواء نحو الذات أو ضد الآخر. فالمجتمعات التي أقصت السؤال لصالح الجواب الجاهز، غالبا ما شهدت احتباسا سيكولوجيا جمعيا وانغلاقا فكريا، كما حدث في فترات من التاريخ الإسلامي حين تمت محاربة الفلسفة واعتبارها تهديدا للتراث، مما أدى إلى تراجع الفكر الحر وسيادة التقليد. في المقابل، شهد العصر العباسي في بعض حقبه نهضة علمية حين اخترقت الفلسفة اليونانية النسيج الثقافي، وأصبح التساؤل مشروعا، ما يؤكد أن التقدم مشروط بحرية التفكير. أما في السياق الغربي، فقد مرت أوروبا بفترات مظلمة حين احتكر رجال الدين المعرفة، فكان كل خروج عن المألوف يواجه بالقمع، وكل سؤال يحال إلى الهرطقة، وينظر إليه كتشكيك في المسلمات، إلى أن جاءت النهضة الأوروبية التي أعادت الاعتبار للعقل النقدي، ووضعت الأسس لمجتمع قائم على التساؤل لا على الامتثال. وكما أشار ميشيل فوكو، فإن العلاقة بين المعرفة والسلطة متداخلة بشكل يجعل من التحكم في الفكر وسيلة للسيطرة على الأفراد، إذ أن "السلطة تنتج الحقيقة"، وتحدد ما هو مشروع معرفيا وما يجب إقصاؤه. من هذا المنظور، فإن فرض أنماط تعليمية قائمة على التلقين ليس مجرد خيار تربوي، بل هو امتداد لبنية سلطوية تخضع العقل لمعايير محددة سلفا. إذا كان التلقين يضمن إعادة الإنتاج، وفي الوقت ذاته يعطل القدرة على الإبداع، فهل يمكن إيجاد توازن بينهما؟ بمعنى آخر، كيف يمكن لمجتمع ألف الامتثال أن يتبنى الفكر النقدي دون أن يواجه مقاومة داخلية؟ إن الإشكالية هنا لا تتعلق فقط بإصلاح المناهج التعليمية كحل، بل بضرورة إعادة النظر في فلسفة التعليم والتربية ككل. فتراكم المعلومات لا يعني بالضرورة جودة المعرفة، فكم من مقررات دراسية مثقلة بالمحتوى لكنها لا تتيح مجالا للتفكير النقدي، مما يحول العقل إلى وعاء ممتلئ لا إلى أداة تحليلية وتأويلية حرة. إن هذا النمط من التلقين المعرفي المنهاجي يفضي إلى شيوع العقل المستقيل، وهو عقل يتنازل عن وظيفته في مساءلة المعطى وإعمال النقد، فيكتفي بنقل المعلومة دون تمحيص. في المقابل، يقتضي بناء معرفة حقيقية إحياء دور العقل الفعال كما في فلسفة ابن سينا، وهو العقل القادر على تجاوز المحسوس إلى المجرد، وتوليد المعاني من خلال التأمل والاستنباط. فالمعرفة الأصيلة لا تنبع من كم المعلومات، بل من نوعية التفاعل العقلي معها، ومن تحرير الفكر من القوالب الجامدة نحو أفق الاجتهاد والإبداع. إن تجاوز هذه الإشكالية في السياق البيداغوجي، يقتضي بالضرورة تبني رؤية استراتيجية حداثية تسهم في إعادة بناء المفاهيم الناظمة للعملية التعليمية على أسس عقلانية نقدية. وهذا ما يستلزم النظر إلى المعرفة لا بوصفها مادة جاهزة للتلقين، بل كمجال مفتوح للتأويل بعيدا عن تدريب المتعلم على استهلاك المفاهيم، بل أن يربى على القدرة على إنتاجها داخل سياق تفاعلي، حيث يتم تحفيز طاقاته التأملية والتخيلية في مناخ تربوي يتم فيه القطع مع "الاستبداد الرمزي" داخل الفصل وفضاءات المؤسسات. بهذا المعنى فقط، فإن الإصلاح الإبداعي هو الذي يستنفر قدرات العقل بدلا من ضبطه وتأطيره، بل لتحفيزه وتحريره من قيود التكرار والامتثال. إنه إصلاح يشتغل على الذهنيات، ويعيد تعريف المدرسة وفق وظيفتها الأصلية كمصنع للذات الحرة، القادرة على التفكير خارج ما هو معطى وخارج التمثلات النمطية في أفق المعنى الذي يحدده كل فرد لوجوده.