مُوَازاةً مع المُكتَسبات التي حقّقتها الأمازيغية في المغرب خلال السنوات الأخيرة، خاصَّة بعْد خطاب أجْدير الذي أعلنَ فيه الملك محمد السادس أنّ الثقافة الأمازيغية تُعتبر مُكوّنا من المكوّنات الثقافية المغربية، وأن النهوض بها يُعدّ مسؤولية وطنية، وترسيمها سنة 2011 في الدستور لغة رسمية إلى جانب اللغة العربية، يُلاحَظ أنّ اللغة الأمازيغية تعرفُ انحسارا على مُستوى تداوُلها الشفهي خاصّةً في الحواضر الكُبْرى. لا تُوجدُ إحصائيّاتٌ أو دراسةٌ دقيقة تُؤكّد ذلك، لكنَّ الممارسةَ اليوميّة تُعْطي الانطباعَ بأنَّ تداوُلَ الأمازيغية شفهيّا، بَدَأ ينحسر.. ففي المُدن الكبرى، مثل الدارالبيضاء والرباط، لمْ تعُد الأمازيغية مُتداولة في بيوتِ كثيرٍ من الأمازيغ وحلّتْ مَحلّها الدارجة. وفي الفضاءِ العامّ ثمّة انحسارٌ واضح لاستعمال الأمازيغية. في وقفة احتجاجية أمامَ مبنى البرلمان نظمها نشطاء أمازيغ، قالَ أحدهم وهوَ يهمُّ بإلقاء كلمة: "لا نُريد الحديث بلسانِ غيْرنا، لكنّي سأفعل، حتى يفهم الجميع"، ثمّ شرع في تلاوة كلمته باللغة العربية. وفي الندواتِ واللقاءات التي تُنظّمُ من طرف الهيئات والجمعيات الأمازيغية، بما في ذلك المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، غالباً ما تجري المداخلات باللغة العربية أو الفرنسية، من بابِ أنهما "اللغتان اللتان يفهمُهما الجميع"، وهو ما يطرحُ سؤالَ ما إنْ كانَت اللغة الأمازيغية تسيرُ نحوَ الانقراض شفهيّا في المغرب؟ سؤالٌ نبحثُ له عنْ جوابٍ في السطور الآتية مع فاعلين أمازيغ... تحدّيات كبيرة يقول عبد الله بادو، رئيس الشبكة الأمازيغية من أجل المواطنة "أزطا أمازيغ"، إنّه لا يُمْكن الجزمُ بتراجُع تداوُل اللغة الأمازيغية في الفضاءات العامة، وخاصة في المدن الكبرى والمجالات التي عرفتْ تمدُّنا خلال العقديْن الأخيريْن، في غياب إحصائيات رسمية ودقيقة أو دراسات سُوسيولُغَوية (sociolinguistique)، أما الفضاءات الخاصة، -يُردف بادو- "فلا أظن أنّ الأمازيغية عرفتْ تراجعا يذكر". وعلى الرّغم من إشارة بادو إلى أنَّ كلّ ما يُقالُ عن تراجع تداولِ اللغة الأمازيغية "يدخل في إطار الانطباعات الخاصة والشخصية للأفراد تعوزها الحجة والأرقام"، إلّا أنّ ذلك لا يمنع من القول -بحسب رأيه- بأن الأمازيغية اليوم تواجه تحديات كبيرة، بسبب العولمة الثقافية والانفتاح الإليكتروني وانتشار التقنيات الحديثة في التواصل NTIC "وهو ما زاد الأمور تعقيدا نظرا للانفتاح على لغات أخرى". جمال بخوش، الكاتب العام للرابطة المغربية للأمازيغية، قالَ، جوابا على سؤال حوْلَ سبب تراجُع تداوُل الأمازيغية في صفوف الأمازيغ في المدن الكبرى، إنّ ثمّة عواملَ ذاتيّةً وموضوعيّة خلف ذلك، ففيما يتعلق بالعوامل الذاتية المرتبطة بالإنسان الأمازيغي ذاته -يوضح بخوش- هناك عدم الاعتزاز بالأصول والهويّة الأمازيغية، "ومن ثَمّةَ ينظر الإنسان الأمازيغي إلى اللغة الأمازيغية أنها لغة قديمة مرتبطة بالأجداد فقط، ولا مكان لها اليوم في حياته خصوصا بين أقرانه، حتى وإن كانوا من أصول أمازيغية". العاملُ الذاتيُّ الثاني الذي أورده بخوش هو اعتقادُ بعض الأمازيغ، ممّن يفضّلون عدمَ التواصل بها، أن مجرد الحديث بالأمازيغية دليل على عدم التحضُّر، وأنَّ المدخل للمدنية والتحضر هو الحديث بالدارجة أو الفرنسية، مؤكّدا: "كثيرا ما سمعت هذا الكلام"؛ أمّا العامل الذاتي الثالث، فيتمثّل في عدم قيام الأسرة الأمازيغية بدورها في إكساب أطفالها اللغة الأمازيغية، وجعلها لغة التداول داخل البيت، ويوضّح باخوش: "بل إنك تجد الكثيرين حتى من المناضلين الأمازيغ يتكلمون مع أولادهم إما بالدارجة أو الفرنسية". نظرة دُونيّة وبخصوص العوامل الموضوعيّة، أوْضحَ بخوش أنَّ إحجامَ بعض الأمازيغ عن عدم الحديث باللغة الأمازيغية في المدن الكبرى، يرجع إلى النظرة الدونية وفي بعض الأحيان العنصرية التي تشكلت في لاوعي مجتمع المدينة تجاه الإنسان الأمازيغي، وما واكَبها من الأوصاف القدحية الجاهزة التي تصف الإنسان الأمازيغي بأقبح النعوت، فتلقى هذه النظرة صدى في نفس الإنسان الأمازيغي، بل تصير موجّها له حتى لا يتكلم بالأمازيغية فيُنعت بتلك النعوت، ويؤكّد بخوش أنه صادف كثيرا من الشباب الأمازيغ الذين عانوا من هذه النظرة. فضلا عن ذلك، يُردف المتحدّث، هناك عاملٌ موضوعيّ آخر، يتمثل في ضُعف الاهتمام باللغة الأمازيغية في المدرسة العمومية بالرغم من المجهودات المبذولة، وهوَ ما يجعل المتمدْرسين لا يتعلمونَ اللغة الأمازيغية، بل يجدون أمامهم دائما عوائقَ كثيرة في تداول حتى ما يُتقنونه من الأمازيغية، وينضافُ إلى ذلك عدم قيام الإعلام العمومي بدوره في دعم إشعاع اللغة الأمازيغية، بل في التشجيع على تداولها. في السياق نفسه قال عبد الله بادو إنّ التحدّيات التي تواجهُ الأمازيغيّة يُساهمُ في تفاقمها استمرار سياسة التهميش والإقصاء من طرف الدولة ومؤسساتها، مشيرا إلى أنّ ضعف استثمارات الدولة في حماية اللغات الوطنية والنهوض بها يقلل من حظوظها في سوق اللغات ويحدّ من تنافسيتها ولا يضمن لها مستقبلا مريحا، مؤكدا على أنَّ هذه التحدّيات لا تواجهُ اللغة الأمازيغية وحْدها، بلْ كلَّ اللغات الوطنية والعالمية، التي تتراجعُ وتعيش تنافسا شرسا بسبب الزحف الثقافي، والهيمنة التي تفرضها بعض اللغات العالمية خاصة اللغة الانجليزية بالدرجة الأولى والاسبانية في الدرجة الثانية. وانتقدَ رئيس الشبكة الأمازيغية من أجل المواطنة، استمرارَ التعاطي مع الأمازيغية بنفس السياسة التي تمَّ التعاطي بها معها قبْل دستور 2011، وتعطيل تفعيل الفصل الخامس منه، الذي نصَّ على إخراج القانون التنظيمي المتعلق بتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، وهو ما يرى بادو أنّه "سيُقلل من الضمانات القانونية والمؤسساتية لحماية اللغة الامازيغية والنهوض بها"، وزادَ "هناك أيضا ضبابية تلفُّ السياسة اللغوية للدولة، وعدم وضوح اختياراتها في مجال التعليم والإعلام". ولفتَ المتحدّث إلى أنّ من العوامل التي تحدّ من انتشار الأمازيغية، هناك عوامل مرتبطة باللغة الأمازيغية في حدّ ذاتها، "فهي في حاجةٍ إلى التأهيل والتطوير لتستطيع أن تقتحم العديد من المجالات"، مؤكّدا على ضرورة استكمال ورش مَعْيرتها الذي بدأ في المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، وذلك بخلق مَجْمع للغة الأمازيغية قادر على الارتقاء بها، وتطوير الدعائم لتيسير استعمالها في مناحي الحياة العامة، وتدارك بعض الأخطاء والهفوات التي واكبت عملية المَعيرة الأولى. لا خوْفَ من الانقراض وعلى الرّغم من التحدّيات التي تواجهُ الأمازيغية، والانطباع السائد بكوْن تداولها في تراجع، إلّا أنّ ذلك ليْس مؤشّرا على "قُرب انقراضها"، حسب رئيس الشبكة المغربية للأمازيغية جمال بخوش. واعتبرَ المتحدّثُ أنّ الأمازيغية، على العكس من ذلك، لا خوْف عليْها بعَد التنصيص عليها لغةً رسميّة في دستور 2011، "غير أنَّ هذا لا يعني أنْ نقف مكتوفي الأيدي، بل لابد من بذل مجهودات مضاعفة لتشجيع تداولها في الأجيال الصاعدة"، يقول بخوش. ولتحقيق ذلك يرى عبد الله بادو أنّه لا بدّ من اتخاذ جملة من التدابير التي تروم تعزيز التعدد اللغوي في المغرب، بدءا بإصدار القانون التنظيمي لتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، وبلورة ميثاق وطني للغات والتنوع الثقافي، معتبرا أنّ ذلك سيُوفّر ضمانات قادرة على تشجيع وضع سياسات متماسكة تُعنى باللغات على الصعيدين المحلي والوطني من شأنها أن تُعزّزَ فرصة استخدام اللغات الوطنية في المجتمع استخداما ملائما ومتجانسا. وأضاف أنّ ذلك ينبغي أنْ يُوازيه حرْص على أن تعمل هذه السياسات على الترويج لتدابير تسمح لكل جماعة لغوية محلية باستخدام لغتها الأم في مجالي التعامل اللغوي الخاص والعام، مع تمكين الناطقين بإحدى اللغات المحلية من تعلم واستعمال اللغتين الرسميتين واللغات الأجنبية، بالإضافة إلى العمل على تشجيع الناطقين بلغتهم الأم على تعلم لغات البلد الأخرى وكذلك اللغات الإقليمية والدولية. وعلى المستوى المؤسساتي، دعا بادو إلى مضاعفة الجهود التي تبذلها الدولة للنهوض بالأمازيغية في مجالات التعليم والإعلام والمسرح والسينما وغيرها من المجالات الفنية، ودعم المبادرات الجمعوية والجامعية والمؤسساتية الهادفة إلى توثيق وإحياء اللغة الأمازيغية، والعمل على وضع مناهج دراسية مناسبة ثقافيا ولغويا يحظى فيها تاريخ الأمازيغ وقيمهم ولغاتهم وتقاليدهم الشفوية بالاعتراف والاحترام والتشجيع.