رأينا من خلال المقالة الماضية أن الصدق من أهم الأخلاق التي دعا إليها الإسلام، وأن الكذب من أشد وأخطر الصفات التي لا يجوز أن يتصف بها المسلم على كل حال. كما وقفنا أيضا عند بعض صور الكذب والآثار السلبية التي تترتب على هذا السلوك المستقبح الهجين. في هذه المقالة الثامنة عشر ضمن هذه السلسلة، سنحاول أن نقف مع "كيف نربي أطفالنا على التحلي بالصدق ترك الكذب؟". نلاحظ جميعا نحن المسلمين أن لدينا مشكلا كبيرا فيما يخص الهوة الشاسعة والتي تبلغ حد التناقض في الكثير من الأحيان بين تعاليم ديننا المستقاة من الكتاب والسنة من جهة، وبين سلوكياتنا من جهة أخرى. وقد أشرت إلى هذا التباين بشيء من التطويل في المقالة الأولى من هذه السلسلة، فلن أطيل فيه الآن . التعامل مع الكذب، مثال واضح لهذا التباين والتناقض بين النظري والتطبيقي لدى الكثير من المسلمين. فإذا نظرنا إلى تعاليم ديننا الحنيف، سنجد أن الكذب من أشد الصفات والأخلاق تحريما في الإسلام كما بينت في المقالة الماضية. لكن –وبالمقابل- إذا نظرنا إلى الواقع، سنجد أن الكذب من أكثر الأخلاق انتشارا بين المسلمين ! أنا لا أعمم طبعا، ولا بد يوجد مسلمون صادقون ولله الحمد. لكن هذا لا يخفي ولا ينفي الانتشار الفظيع للكذب بين فئات كثيرة من المسلمين. مع أن هؤلاء الذين يكذبون، يعلمون كلهم أن الكذب حرام ومذموم! والغريب في الأمر، أن هذا التناقض لا يوجد لدى الكثير من غير المسلمين. ففي الغرب الذي أعيش فيه مثلا، لا يوجد هذا التناقض الصارخ بين القناعات والسلوكيات. وإن وجد، فليس بنفس الحدة والقوة التي هو بها بيننا نحن المسلمين. قد نتفق مع الغربيين وقد نحتلف في بعض القيم، لكن الإنسان في الغرب غالبا ما تكون تصرفاته انعكاسا لقاناعاته. قد تكون هذه التصرفات منحرفة بمنظورنا نحن، لكنها تعكس في النهاية ما يؤمن به وما يعتقده الشخص . وأنا هنا لا أنزه الغرب، ففي الغرب أيضا، كذابون وغشاشون وخداعون...لكن الذي يدفعني إلى المقارنة، هو اعتقادي أن المفروض فينا نحن المسلمين، أن نكون أصدق وأوفى وأحسن خلقا من غيرنا، لأن لدينا من المحفزات والدوافع لذلك أكثر مما لديهم. فنحن نشترك معهم في المحفزات العلمية والمادية وفي التجارب والخبرات الإنسانية. لكن، لدينا من المحفزات والدوافع الروحية والدينية ما ليس لدى الغير، من نصوص دينية ومراقبة الله تعالى واستحضار للجزاء الأخروي. ولدينا أيضا نموذج تطبيقي يتمثل في سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة. ومع هذا كله، نجد أن الكذب منتشر بين المسلمين أكثر مما هو منتشر بين الغربيين! لا شك أن هذا الأمر يدعو إلى الحيرة والاستغراب والبحث الجاد عن الحلول، بعد الوقوف على الأسباب. فكرت كثيرا في سبب هذا الانفصام بين القناعات والسلوكيات، فوصلت إلى نتيجة أن الأسلوب الذي نربي به أطفالنا، ربما هو السب الأساس. كيف ذلك؟ من البديهي أن الطفل يتعلم الكثير من السلوكيات في مرحلة مبكرة جدا من العمر. فقبل أن يبلغ السن التي يستطيع من خلالها فهم النظري واستيعاب النصائح والتوجيه الدينية بالخصوص، يكون قد تعلم الكثير من الأشياء من والديه أو من إخوته ومن محيطه بشكل عام، بطريقة (أوتوماتيكية) على سبيل التقليد والمحاكاة. وعندما يبلغ هذا الطفل السن المناسبة ليستوعب مضامين التوجيهات الدينة ويستشعر مراقبة الله والجزاء الأخروي، يكون قد اعتاد وتشبع بالكثير من السلوكيات التي أخذها من محيطه قبل بلوغه هذا السن. سنعلمه عندما يبلغ هذه المرحلة مثلا،ا أن الكذب قبيح ثم نعلمه فيما بعد أن الله قال في القرآن كذا وكذا ونعلمه أيضا استحضار مراقبة الله والجزاء الأخروي...لكن المشكلة أن هذا الطفل لم يعد صفحة بيضاء، لقد اعتاد واستمرأ الكذب ربما منذ السنة الثانية من عمره، وقد يكون كذب مئات وربما آلاف المرات قبل أن يبلغ هذه المرحلة العمرية التي يستطيع من خلالها استيعاب الخطاب الديني واستشعار مضمونه فيما يخص الأمر بالصدق والنهي عن الكذب. ورغم أننا سنشحنه بالنصوص وسنُقنعه بأن الكذب حرام، إلا أنه سيجد صعوبة لا محالة في ترك الكذب، لأنه قد اعتاده. منذ هذه المرحلة إذا، يبدأ هذا الانفصام بين القناعات من جهة وبين السلوكيات من جهة. وما قلته عن الكذب، ينسحب على باقي السلوكيات. لذلك فمن الأهمية بمكان أن نربي أولادنا ومنذ سن مبكر جدا على التحلي بالصدق واجتناب الكذب. وهذا الأمر لا يمكن أن يتم إلا إذا أخذنا الأمور التالية بعين الاعتبار: · كن قدوة صالحة لطفلك، واجعله يلمس في سلوكك التحلي بالصدق واجتناب الكذب حتى وهو في السنوات الأولى من عمره. فقد يتأثر الطفل بسلوكك منذ شهره العاشر كما يقول بعض خبراء التربية. ذات مرة، كان النبي صلى الله عليه وسلم في ضيافة إحدى الأسر المسلمة، فسمع الأم تنادي ابنها وتقول له: تعال أعطك، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وما أردت أن تعطيه؟" قالت: أريد أعطيه تمرا، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أما إنك لو لم تعطه شيئاً كُتبت عليك كذبة" (أبو داود). لقد تدخل النبي صلى الله عليه وسلم لينبه تلك الأم وينبه من خلالها كل الآباء والأمهات إلى خطورة وحرمة الكذب على الأطفال حتى في مثل هذه المواقف التي لا يأخذها الكثيرون بعين الجد. فإذا أردت أن يتربى طفلك على الصدق، فكن صادقا معه أولا وليجد فيك القدوة الحسنة. لا تعِده بشيء لا تستطيع الوفاء به مثلا، وإذا وعدته فإياك أن تخلف وعدك . فأنت محلّ قدوة بالنسبة له وأنت مثله الأعلى، وقد يقتدي بك أيضا في هذا السلوك الشنيع. لا تكذب عليه ولا تكذب على الآخرين في حضوره، وإذا حصل أن كذبت واكتشف طفلكك كذبك، فإياك أن تبرر ذلك أو أن تختلق كذبة أخرى من أجل تبرير الكذبة الأولى، اعترف أنك أخطأت واعتذر وأظهر ندمك أمامه ليحس هو أيضا بخطورة الكذب. · ساعد طفلك وشجعه على الصدق وعلى قول الحقيقة بردة فعلك الإيجابية الهادئة والحكيمة عندما يعترف بخطإه. فكلنا ولا شك نخطئ، والذي يدفع الأطفال في الكثير من الأحيان إلى الكذب، هوتفادي ردة فعل الوالدين المنفعلة والقاسية وربما العنيفة. ردة الفعل الأيجابية التي أقصدها، لا تعني أبدا تحسين القبيح في عين الطفل أوعدم تصحيح خطإه. لكن، لنقم بذلك برفق وحكمة وبطريقة تشجع الطفل على الصراحة والصدق في قادم المرات. لنقل للطفل ارتكب خطأ مثلا: "إن ما قمت به أمر سيء ومذموم...ولكن بسبب صدقك وصراحتك معي، فسأسامحك لأنني أقدر الصدق كثيرا، ثم تعاون معه على كيفية تفادي الوقوع في ذلك الخطإ مستقبلا. · لا تطلب من طفلك شيئا لا يستطيع القيام به ولا تحمله ما لا طاقة له به. فنحن بالغون ومكلفون، ومع ذلك، لا يكلفنا الله فوق طاقتنا. فالطفل يبقى طفلا، يجب أن نراعي سنّه وحاجياته ورغباته وطاقاته كذلك. وعندما نطلب من الطفل ما لا يستطيع القيام به أو يستطيع ذلك لكن بصعوبة بالغة، فإنه قد يلجأ إلى الكذب ليتفادى الإحراج الناتج عن عدم قيامه بما طلب منه. فلتكن انتظاراتنا من أطفالنا واقعية ومعقولة حتى لا يُضطروا إلى الكذب. · إذا بلغ الطفل سنا يستطيع من خلالها استيعاب الخطاب الديني، فازرع مراقبة الله وعظمته في قلبه لينشأعليها فتحجزه عن الوقوع في الكذب وفي الحرام بشكل عام أثناء غيابك. لأنك ومهما حرصت، لن تستطيع مراقبة طفلك طول اليوم. اجعله –بسلوككوقدوتك أنت أولا ثم بنصائحك ثانيا- يحس أن الله عليه رقيب. ولعله يقول يوما إذا دعته نفسه للحرام: "إن كان أبي أو أمي لا يراني، فإن الله يراني".