فراغ إستراتيجي ومستقبل غامض بعد ثلاثة عقود تقريبا من "هجوم السلام الفلسطيني" فإن حل الدولتين وصل إلى طريق مسدود، وقيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود 67 أصبح شبه مستحيل؛ وهو ما حذر منه الرئيس أبو مازن في خطابه الأخير في الأممالمتحدة، حيث قال إن الفلسطينيين سيقومون بمراجعة إستراتيجية لكل عملية التسوية؛ وكان واضحا في نعي تسوية أوسلو وفشل السلطة التي تحولت إلى سلطة بدون سلطة؛ بل حذر من أنه سيحل السلطة ويترك إسرائيل لتتحمل مسؤوليتها كدولة احتلال، والعودة إلى خيار الدولة الواحدة من البحر إلى النهر. إلا أن الرئيس أبقى الباب مواربا لكل احتمال، إلا اللجوء إلى العنف والإرهاب . ما بين الواقع المر الذي شخصه الرئيس والقيام بالمراجعة الإستراتيجية التي تحدث عنها هناك فراغ إستراتيجي ومستقبل غامض يكتنف القضية الفلسطينية، يتزامن مع حديث غامض أيضا عن معادلة تسوية جديدة (الصفقة الكبرى)؛ وفي حالة عدم سرعة الفلسطينيين في ملء الفراغ من خلال القيام بالمراجعة الإستراتيجية فإن قوى أخرى ستملؤه بما يتعارض مع المصالح والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني . ما يزيد الأمور تعقيدا أن الفراغ الإستراتيجي يتزامن مع انقسام داخلي وضعف شامل في مؤسسات النظام السياسي، سواء تعلق الأمر بمنظمة التحرير أو بالسلطة؛ الأمر الذي يطرح تساؤلات كبيرة عن الجهة المؤهلة للقيام بالمراجعة الإستراتيجية وتصويب المسار الوطني؛ لأن حركة فتح تاريخيا احتكرت ليس فقط موقع القيادة في المنظمة والسلطة بل أيضا مهمة رسم السياسات العامة لمنظمة التحرير الفلسطينية منذ 1969، سواء تعلق الأمر بتحديد الأهداف الإستراتيجية أو الوسائل النضالية المناسبة لكل مرحلة، أو شبكة التحالفات العربية والدولية. ولأن كلا من مشروع التسوية والسلطة الوطنية ارتبطا بحركة فتح فإن عليها الرهان على القيام بالمراجعة الإستراتيجية . لحركة فتح تعود فكرة الدولة الديمقراطية العلمانية 1970، ولها أيضا يُنسب البرنامج المرحلي وفكرة السلطة الوطنية المقاتلة على أي أرض فلسطينية 1974، ثم تبني فكر التسوية السياسية وحل الدولتين على أساس قرارات الشرعية الدولية؛ وذلك عام 1988، وهي وراء "التغيير الثاني" للميثاق 1996. منذ توقيع اتفاقية أوسلو 1993 ثم قيام السلطة الوطنية 1994 رهنت حركة فتح نفسها ومعها كل القضية الوطنية بمشروع حل الدولتين وإمكانية أن تتحول السلطة الوطنية إلى رافعة للدولة المستقلة، وعلى هذا الأساس جمدت أو علقت كينونتها كحركة تحرر وطني بذريعة أن المرحلة مرحلة تسوية سياسية ستؤول إلى دولة، واستحقاقات التسوية تتعارض مع وجود جماعات فدائية ومقاومة مسلحة، بل أحدثت الحركة تغييرا على مستوى التعبئة الوطنية والحزبية والثقافية حتى لا يتم اتهامها بالإرهاب أو التحريض، وتحولت إلى حزب سلطة. ونظرا للموقع القيادي لحركة فتح في المنظمة والسلطة فإن ما طرأ على برنامجها ومواقفها من تغيير انعكس على الأحزاب الفلسطينية الأخرى داخل المنظمة. بعد ما ذكرناه حول فشل أو مأزق حل الدولتين الذي يعني فشل ومأزق إستراتيجية حركة فتح، وبالتبعية إستراتيجية منظمة التحرير، فإن الكرة في ملعب حركة فتح لتضع إستراتيجية المرحلة القادمة حتى لا تبقى معلقة في فراغ إستراتيجي ستملؤه قوى فلسطينية أخرى أو أطراف خارجية. والسؤال: هل الوضعية الراهنة لتنظيم حركة فتح تؤهلها للقيام بهذه المراجعة الإستراتيجية؟. الخروج من حالة الفراغ الإستراتيجي والقيام بالمراجعة الإستراتيجية التي تحدث عنها الرئيس يتطلبان النظر بجدية في خيار حل الدولتين، فإما التمسك به والتأكيد عليه، وفي هذه الحالة يجب تغيير مرجعيته المؤسَسة على الاتفاقات الموقعة والإرادة الأمريكية والقبول الإسرائيلي، واشتقاق وسائل نضالية جديدة للوصول إلى الدولة الفلسطينية، أو الإقرار بفشل خيار حل الدولتين؛ وبالتالي الاشتغال على حل الدولة الواحدة بما يتطلب من إعادة بناء حركة فتح ومنظمة التحرير والنظام السياسي برمته باتجاه معاكس لاستحقاقات والتزامات اتفاقية أوسلو ومجمل عملية التسوية الراهنة . وحتى تقوم حركة فتح بهذا الدور عليها إعادة تصليب بنيتها التنظيمية ومؤسساتها وتغيير إستراتيجيتها وخطابها السياسي، وأيضا تصويب علاقاتها الوطنية، وخصوصا مع مكونات منظمة التحرير ومع فلسطينيي الشتات وإنهاء حالة الانقسام؛ وإعادة تصويب علاقاتها مع العالمين العربي والإسلامي؛ فالحركة فقدت كثيرا من أنصارها ومؤيديها عربيا وإسلاميا ودوليا بسبب ارتباط اسمها باتفاقية أوسلو وبالسلطة وبالتنسيق الأمني مع الاحتلال . حركة فتح دون غيرها هي المسؤولة والمؤهلة للقيام بالمراجعة الإستراتيجية، والمدخل أن تباشر استنهاض نفسها وفكرها حتى تكون مؤهلة لإعادة استلام زمام الأمر الوطني. وهذا يتطلب التحرر من السلطة واستحقاقاتها وأن تتولى الحركة مهمة إعادة بناء وتفعيل منظمة التحرير، إذ لا قيمة لها دون منظمة التحرير. والعودة إلى منظمة التحرير هي سلم النجاة للشعب الفلسطيني وللمشروع الوطني ولحركة فتح ذاتها . [email protected]