شئنا أم أبينا، فقد أصبح المغرب محاصرا بقيم ومفاهيم كونية كإفرازات مباشرة لنظام العولمة الجديد الذي حطّم الحدود الجغرافية والاقتصادية التي كانت الأنظمة السياسية التقليدية تلوذ وراءها، تحت ذرائع ومسميات انحسرت وتراجعت في العشر سنوات الأخيرة، وانكسرت في ظلها الحدود الوهمية التي كانت تشكل إحدى الأدوات السياسية للدولة لبسط نفوذها الاقتصادي دون ما وجود لمنافس أو شريك لها. فكلما أصبحنا نعيشه، سواء عبر وسائل الميديا أو المعروضات والمنتجات الاستهلاكية، يحمل في طياته قيما ويحملنا على الانخراط فيها، تحت إغراءات اجتماعية وسيكولوجية، من الصعوبة بمكان مواجهة تدفقاتها أو مقاومة إغراءاتها، مهما كان رسوخ "المبادئ والأعراف" والقوانين أحيانا .. بعض القوانين أمام بعض الظواهر يعرف التشريع المغربي، في منظومة قوانينه، غنى وزخما يغطي كافة مناحي الحياة وبمعظم القطاعات، وإن كان سريانها على المواطن لا يجري دوما بوتيرة منتظمة؛ فهناك قوانين تجريم حالات تلبسية كالزنا وشرب الخمر والتحرش الجنسي والدعارة بكل أشكالها، بيد أن إنزال الحدود في حقها تحول إلى صدارة النقاش في ظل تنامي "نداءات" التمسك ببعض مظاهر العولمة والمجتمع الحر.. كانت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وبعض الألوان الثقافية كالأشرطة السينمائية والمجلات أو بالاحتكاك المباشر بالثقافات الغازية، فأصبح القانون المغربي أمام هذا "الغزو العولمي" Globalizm Invasion يستشعر ضآلة قوته وهشاشته، ولم يعد يتماشى مع "موضة" العصر التي تترك باب الحريات مشرعا إلى حد ما في وجه الإنسان، ولا مجال لردعه ومتابعته ببعض البنود البالية والنصوص القديمة؛ كالعلاقة الرضائية التي لا يخلو منها أي شريط سينمائي ولا رواية بوليسية، مما يعد مظهرا طبيعيا "وحضاريا" لكل مجتمع حداثي حر ومنفتح، وكذلك الأمر بالنسبة إلى قضايا التحرش الجنسي وممارسة الدعارة.. والتي يقف منها القانون المغربي موقفا صارما ويتابع مقترفيها بألوان شتى من الحدود والعقوبات، إلا أن ملامستها على أرض الواقع واستشعارها من قبل المجتمع ليس دائما بالوضوح التام؛ فالظواهر من هذا القبيل مستشرية بين شرائح اجتماعية عديدة وبنسب مئوية فظيعة إلى درجة "يعجز" فيها القانون عن متابعتها وزجرها، فهي أكبر من التشريع نفسه. ويغدو أمرا مستهجنا أن يستهدف القانون حالة إجهاض واحدة في بيئة تعج بحالات الممارسة الجنسية اللامشروعة، وبالعلاقات الرضائية التي غزت المدن وامتد أثرها إلى الأوساط القروية، وكذا معاقرة الخمرة التي تشهد الإحصائيات بأن استهلاكها بين المغاربة يفوق كل التقديرات، علاوة على ما تدره من أموال طائلة على خزينة الدولة. إن السلطات المغربية تجعل من تشريعاتها وقوانينها أحيانا، ومن خلال هذا الواقع المعيش، "ذريعة" للإيقاع بشخص معين وبحسابات سياسوية ملغمة لا يسري أثرها على الجميع، وكأن الأخذ بالقانون يخضع لانتقائية وأهداف مغرضة، أو فخ ينصب لهذا دون الآخر ! المجتمع المغربي وأخذه بمظاهر العولمة بحكم موقعه التاريخي والإستراتيجي الرابط بين قارتي أوروبا وإفريقيا وممرا بحريا إلى أمريكا، كان المغرب دوما منفتحا على الشعوب المجاورة متأثرا بتلاقح الحضارات؛ وفي الآن نفسه محافظا على تقاليده الدينية، على الرغم من وجود تحديات ومفارقات يستشعرها من خلال بعض التيارات الثقافية الوافدة عليه، والتي لا تتوافق مطلقا مع موروثه الاجتماعي والعقدي، مما خلق لديه حالة "ازدواجية" فجة في الرأي والمواقف؛ يستنكر أفلاما بلقطات إباحية وعلاقات جنسية رضائية، لكنه في آن يأتي مثلها أو أشد إثارة منها حينما يخلو إلى نفسه أو يلوذ بين جدرانه الأربعة.. يرتدي الجينز Geans وصدره محلى بقلادة ذهبية من العيار الثقيل، ويعاقر كؤوس الخمرة، وفي لوحة أخرى تجده يتنافس على الصفوف الأمامية داخل المسجد وهو مجلبب يرتدي بلغة "مدفونة"؛ وإذا اقترب "البوناني" سارع إلى اقتناء الحلوى وإلصاق عينيه بالتلفاز حتى الساعات الأولى من صباح اليوم الأول من السنة الميلادية الجديدة؛ لكن إذا سألته عن التاريخ الهجري دفن عنقه بين كتفيه.. أما إذا تحدث في الموبايل أو أخذ مقود سيارته بين يديه فتلك هي قصة أخرى مع الثرثرة والدوس على قوانين السير والإساءة إلى القيم الحضارية . إن شخصية بهذه الخصوصيات ذات المفارقات العجيبة لا يمكنها الانتماء إلى زمن العولمة وقيمها بقدر ما هي مظهر براني لها لا يعكس عمقها وأخلاقياتها التي تصون الحقوق والحريات. إلا أن المغرب يجد نفسه محاصرا أو بالأحرى مستهدفا بغزو ثقافي كاسح، يمكن أن يتسرب أثره إلى جميع مناحي حياة المغربي فيصيبه في عقر داره، فتمسي قوانينه أمام هذا الزحف العولمي Globalized Invasion "متواضعة" وخنوعة؛ لم تعد بقادرة على ضبط حياة هذا المغربي وصد جموحه بهذه القوانين "البالية"، لذا يلجأ إلى خيار "الانتقائية" في تطبيقه للقانون، وفي هذا جور ودعوة صريحة إلى تحديث ترسانته من التشريعات والقوانين والانفتاح على المواثيق الدولية، كما يصبح مجبرا على اتخاذ موقف حازم؛ إما الاندماج في قيم الحداثة والعولمة ويلغي ما عداها، أو يتمسك بتقاليده ومنظوماته التشريعية كما ألفها منذ عقود، لا أن يلبس قوانينه جبة "الحداثة" في حالات معينة، ثم لا يلبث أن يستبدلها "بالتقليدانية" والمحافِظة في حالات أخرى. وهل المغرب بلد علماني؟ وحتى إذا افترضنا بوجود ميل إلى أخذ المغرب بشروط العلمانية، كما يتراءى لنا من خلال مظاهر تكتنف شوارعنا كالخمارات والملابس واستهلاك الميديا... فسيلفي نفسه أمام تناقض فج، طالما كانت هناك ثقافة اجتماعية عامة ضاربة في أعماق الأمية والهشاشة الاقتصادية، فضلا عن وجود مؤسسة دينية برمزية الملك التي لا يمكن فصلها عن السياسة، مما يتنافى مطلقا مع القيم العلمانية التي تنسجم مع مبادئ الديمقراطية والعدالة الاجتماعية ومجتمع المعرفة Knowledge Society.