بقيت السلطة السياسية في المغرب، حتى مع انتشار الإسلام الذي أصبح الإيديولوجية الرسمية للدولة مع المرابطين والموحدين، ذات طبيعة زمنية. فالأمير المرابطي أو الموحدي رغم تسييره للشؤون العامة، سواء الدينية أو الدنيوية، بقي مع ذلك تابعا لمؤسسة الفقهاء التي كان لها نفوذ كبير عليه. فهي التي كانت تضفي الشرعية على السلطة وتزكي قرارتها. فقبل انبثاق مؤسسة "السلطان الشريف"، كانت هناك "أولوية الفقيه على الأمير". وقد تكرس الطابع الزمني للسلطة بصعود المرينيين إلى الحكم، بحيث أقام هؤلاء نظاما للسلطنة وليس للخلافة كما كان الشأن في عهد الموحدين. وهكذا أطلق المرينيون للناس الحرية الكاملة في الانتماء للمذهب الذي يريدونه، وعلى هذا الأساس "لم يصبح السلطان المريني مصدرا للسلطات الدينية، وإنما أصبح هذا السلطان مصدرا للسلطات السياسية". وقد تجلى ذلك على الخصوص من خلال إشارة السلطان أبي الحسن الذي أكد على حقيقة أساسية في نظام الحكم المريني حين قال: "أوصى جدنا عبد الحق رضي الله عنه بوصية التزمناها وهي أن ثلاثة من الولاة لا مدخل للرعية فيه من السلطنة وهم صاحب القصبة وصاحب الشرطة والوالي، وثلاثة المرجع فيها للرعية وهم إمام الصلاة والخطبة والقاضي والمحتسب". ومما يؤكد أيضا هذا الفصل بين الديني والزمني، هو تشبث أمراء بني مرين بلقب السلطان، حيث "اتخذ رؤساء بني مرين لأنفسهم لقب (سلطان)، وتسمى السلطان منهم بأمير المسلمين. وأصبح السلطان يمثل السلطة السياسية العليا في الدولة، أما أمور الدين فكانت من شأن الفقهاء والعلماء في الدولة". لكن يبدو أن هذه السياسة لم تكن تتناسب والفترة التاريخية التي كان يعرفها المغرب، والتي تميزت على الخصوص بتزايد "الزخم الصوفي" واستفحال الظاهرة الشرفاوية. ورغم محاولة النظام المريني بلورة سياسة دينية ترمي بالأساس إلى ضرب الصوفية بالشرفاء، وإنشاء أجهزة دينية رسمية، فإن هذا لم يمنع من انتشار الطرق والزوايا في المغرب بشكل لم يسبق له مثيل، وقد استفحل هذا الانتشار خصوصا بعدما صعد الوطاسيون إلى الحكم. وأمام فراغ السلطة، واستفحال الخطر الإيبيري، تزعمت هذه القوى الدينية حركة الجهاد وأصبحت تنافس السلطة في مختلف أدوارها السياسية والدينية. وبصعود السلاطين السعديين إلى الحكم، ظهر جليا أن السلطة السياسية بدأت تنهج سياسية دينية أكثر هيمنة حيث بدأت تطمع في السيطرة على الحقل السياسي-الديني. وقد ارتكزت هذه السياسية بالأساس على إجراءين اثنين: تدجين مؤسسة الفقهاء وتدجين مؤسسة المتصوفة. تدجين مؤسسة الفقهاء إن المكانة الدينية السياسية التي كان يتمتع بها الفقهاء إبان حكم المرابطين والموحدين والمرينيين ستبدأ في التراجع والخفوت نتيجة لعاملين رئيسين: - انسلاخ الفقهاء عن العصبيات الحاكمة - ظهور الصلحاء كمنافسين جدد للفقهاء لكن التغيير الجذري في طبيعة السلطة لعب دورا حاسما في التأثير على وضعية الفقهاء، فظهور مؤسسة السلطان الشريف كان يعني بالأساس إخضاع الفقيه للسلطان بعدما كانت هناك أولوية للفقيه على الأمير في عهد الأسر الحاكمة السابقة. وقد تمت عملية الإخضاع هذه عبر عمليتين رئيسيتين: التصفية الجسدية وقد تجلى ذلك من خلال اغتيال مجموعة من الفقهاء، سواء في العهد السعدي أو العلوي، كان من أبرزهم: - الفقيه أبو عبد الواحد الونشريسي - الفقيه أبو محمد بن علي الزقاق - الفقيه أبو عبد الله الأندلسي - الفقيه محمد جسوس وهذه الاغتيالات أظهرت أن اصطدام الفقيه بالسلطان، سواء تعلق الأمر بشرعية السلطة (الونشريسي-الزقاق) أو بطبيعة سياستها (جسوس)، غالبا ما ينتهي إلى ضرورة إذعان الفقيه للسلطان حتى لو كان ذلك على حساب حياته. منح الامتيازات إن طموح السلطان الشريف للهيمنة على الحقل السياسي-الديني كان يتطلب استقطاب الفقيه واستمالته. لذا حظي الفقهاء بمجموعة من الامتيازات من أهمها: - تعيينهم في مناصب هامة كالقضاء والافتاء - توصلهم بهدايا وخلع من طرف السلاطين تدجين الطرق والزوايا إن تقاعس السلطة في عهد الوطاسيين عن الجهاد وفشلها في طرد المحتل الإيبيري، جعل شيوخ المتصوفة يتزعمون حركة الجهاد، مما زاد من تقوية نفوذهم، فانتشرت الزوايا في مختلف أنحاء المغرب، وخاصة في القرى والبوادي. وقد أدى تحالف الشرفاء السعديين مع أرباب الزوايا والطرق في تزعم حركة المقاومة إلى ازدياد نفوذ هؤلاء. لذا فقد كانت المنافسة شديدة بين شيوخ الزوايا والمتصوفة والسلاطين السعديين. وقد ظهر ذلك خصوصا عند امتناع شيوخ الزوايا عن أداء الضرائب للدولة، مما حدا بالسلطان السعدي محمد الشيخ إلى اتخاذ إجراءات زجرية ضد بعضهم. وهكذا أشار الناصري بهذا الصدد إلى أنه "لما كانت سنة ثمان وخمسين وتسعمائة أمر السلطان أبو عبد الله بامتحان أرباب الزوايا والمتصدرين للمشيخة خوفا على ملكه منهم... فامتحن جماعة منهم كالشيخ أبي محمد، فأخلى زاويته بمراكش وأمر برحيله إلى فاس". ورغم الحل الوسط الذي تم التوصل إليه بين السلطان المنصور وشيوخ الزوايا وذلك من خلال إعفائهم من الضرائب، فإنه بمجرد وفاة المنصور، استغل الشيوخ اقتتال أولاده على العرش، ليقووا نفوذهم ويوسعوا من مجال سلطتهم. لذا فقد انتهج السلاطين العلويون بعد توليهم الحكم سياسية مزدوجة للتقليص من نفوذ الطرق والزوايا وذلك من خلال تخريب الزوايا واحتواء الطرق". تخريب الزوايا سلك أغلب السلاطين العلويين سلوكا متشددا تجاه الزوايا نظرا لما كانت تشكله من خطر على مؤسسة السلطان الشريف، سواء من الناحية السياسية أو الدينية. فمن الناحية السياسية، شكلت الزوايا حاجزا بين السلطة المركزية وبين بعض رعاياها، وكذا حائلا بينها وبين توصلها بجزء من الضرائب. أما من الناحية الدينية، فشيوخ الزوايا أصبحوا ينافسون السلطان الشريف ليس في علمه الفقهي، بل فيما يتعلق بحظوته التقديسية، التي تتمثل بالأساس في البركة وأيضا في النسب الشريفي. ولعل هذه الحظوة هي التي شكلت الركيزة الأساسية لمشروعية السلطان الشريف، خصوصا في البوادي المغربية. لذا فقد انتهج العلويون سياسة صارمة تجاه الزوايا، وتمثل ذلك بالخصوص من خلال: - إخلاء المولى رشيد للزاوية الدلائية وتشريد أتباعها - إخلاء سيدي محمد بن عبد الله للزاوية الدرقاوية - إخلاء المولى عبد الرحمن بن هشام للزاوية الشرادية وفي السياق نفسه، قام المولى سليمان بشن حرب اقتصادية على مختلف الزوايا، وذلك من خلال الإفتاء بعدم جواز تقديم الزيارات للزوايا وتحريم بناء الأضرحة وكل ما يصاحب ذلك من "بدع". وهكذا تضمنت رسالة المولى سليمان ما يلي: "يا أيها الذين آمنوا، أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم... اتركوا عنكم بدع المواسم التي أنتم بها ملتبسون والبدع التي يزينها أهل الأهواء ويلبسون، وافترقوا أوزاعا، وانتزعوا الأديان والأموال انتزاعا، بما هو كتابا وسنة وإجماعا، وتسموا فقراء... فأنشدكم الله عباد الله، هل فعل رسول الله صلى عليه وسلم لحمزة عمه سيد الشهداء موسما، وهل فعل سيد هذه الأمة أبو بكر لسيد الأرسال صلوات الله عليه وعلى جميع الأصحاب موسما.... ومن أراد منكم التقرب بصدقة أو وفق المعروف إطعام أو نفقة، فعلى من ذكر الله في كتابه ووعد فيهم بجزيل ثوابه كذوي الضرورة غير الخافية والمرضى الذين لستم أولى منهم بالعافية، ففي مثل هذا تسد الذرائع، وفيه تمثل أوامر الشرائع...". احتواء الطرق رغم "التلاقي التاريخي بين الطرق والسلطان الشريف"، سواء من الناحية السياسية أو من الناحية الأيديولوجية، فإن هذا لم يمنع من الاصطدام بين المؤسستين؛ إذ لا ننسى أن غاية السلطان الشريف هي احتكار السلطة، لذا فإن سياسته الدينية تقوم بالأساس على عدم التحالف مع أية مؤسسة قائمة، بل السعي إلى تركيعها وإخضاعها. لذا فكيفما كان الدور السياسي أو التاريخي الذي حاولت أن تضطلع به الطرق، فإنها كانت تجد نفسها في مواجهة مع السلطان الشريف، حتى لو كانت هذه المواجهة ظرفية وليست بنيوية. من هنا ندرك اهتمام السلطان الشريف باحتواء هذه الطرق. وقد تمثل هذا الاحتواء من خلال الإجراءات التالية: - تقديم الهبات والعطايا لاستمالة شيوخ الطرق - تعيين شيوخ بعض الطرق في بعض المناصب المخزنية - منح ظهائر التوقير والاحترام التي يعفى صاحبها بمقتضاها من أداء الضرائب - انتماء بعض السلاطين للطرق، حيث يذكر أن السلطان عبد الرحمان بن هشام وابنه محمد كانا ينتميان إلى الطريقة الدرقاوية.