1 ما يحدث على الأرض الأمريكية من صيد للزنوج أو السود (ينبغي تسمية الأشياء بمسمياتها، وتلك أولى خطوات الوعي بالقضية)، يطرح قضية التمييز، وأول التمييز يكون في اللغة. فكيف يُخفي الإنسان لونه أو شكله أو لغته !مضحك حد البكاء، ومثير للسّخف حدّ الاشمئزاز، كل إخفاء لهذا اللون من الألوان التي يتلون بها سكان الأرض، وكأن السواد عار شنار، حقه الإضمار والإخفاء، وهو ما يحاولونه في اللغة، بإطلاق عبارات من قبيل "الملونون" أو "أصحاب اللون" أو "ذوو الأصل الإفريقي"، تمييزا لهم عن الرجل القادم من أوروبا، والذي يُكتفى بالقول في حقّه "أمريكي" فحسب، وأول الحقوق تكون في وباللغة. 2 ما يحدث من قنص ومطاردة أمر قديم يتكرر مرارا، ويكفي الرجوع قليلا أو كثيرا إلى الوراء لنقف على مواجهات أعنف من تلك الواقعة اليوم، وأول الفظائع ما حدث إبان ما سُمي بالاكتشافات الجغرافية، والتي صرّفت فيها أوروبا أزماتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، بمباركة وتأشير من الكنيسة الكاثوليكية الرومانية (التي قسمت العالم حينها نصفين، أوروبي عاقل، والنصف الآخر حيواني غير عاقل ينبغي ترويضه واحتلاله واستغلاله، فقد منح المرسوم البابوي البرتغال الحق في غزو ونهب و"اختزال الأشخاص إلى عبودية دائمة"). وشبيهة واقعة اليوم ما حدث خلال "حرب" الستة أيام التي حولت مدينة لوس أنجلس سنة 1992 إلى أرض محروقة، والسبب دائما تبريئ أربعة شرطيين "بيض" انهالوا بالضرب على أمريكي أسود حتى الموت. (يدعى رودني كينغ)، فالأمر يتجدد على مدار السنة أو الشهر أو حتى اليوم. ودائما كان السود (خصوصا) يُقتلون بدم بارد، ويحفظ الملف في مكان بارد. 3 والذين يعرفون تاريخ البلاد الأمريكية، يعرفون تمام المعرفة أن هذا "الشعبَ" شعب "لقيط"، غير متجانس إطلاقا، وأن الشعلة التي يحملها ذاك التمثال لا تعدو أن تكون حلما، وأن تلك النار التي بيده إنما يحرقون بها بعضهم بعضا، وعلى مهل، أو يلوحون بها إلى غيرهم. فعلى امتداد تاريخ غير نظيف لا يتجاوز خمسمئة سنة (1492 م) أنشئت هذه الإمبراطورية الحديثة، وحققت الحلم الأوروبي كأول خطوة في درب "الاستعمارات" الجغرافية. 4 والقول بالشبهة التي تلاحق التاريخ الأمريكي ليس ادعاء ولا افتراء، فأكبر التساؤلات التي ينبغي الإجابة عنها أن يُعرف مصير "الهنود" الحمر أصحاب الأرض الأولون (ويبقى التصنيف بالنظر إلى اللون حاضرا تمييزا، والتمييز عنصرية)، وأصغر الحقائق أن يُعلم أن حوالي 15 في المئة (على الأقل) من السلعة السوداء المحشوة في الأقبية المظلمة داخل بطون السفن القادمة من إفريقيا المدماة (وُجدت أثار أظافر يحاول أصحابها اقتلاع السقف المغلق فوقهم) كانت تنفق خلال الرحلة، ويلقى بها في البحر (مقال منشور في جريدة نيويورك تايمز). ولكي يُستكمل هذا الحلم العريض جِيء بالسواعد السوداء من عندنا. 5 جيء بالسواعد الإفريقية في إطار ما يسمى "بالتجارة الثلاثية"، والتي لم تكن مثلثة ولا مربعة، ولكنها كانت في اتجاه واحد، تجاه الأغوار السحيقة للمناجم ومزارع القطن والبن والكاكاو وقصب السكر... وجيء بالمرأة الإفريقية الولود، التي كانت تلد اليد العاملة (كان يُحتفظ بالعبدة السوداء الخِصب، وكان القانون في جل الولايات حينها يعتبر السود أشياء تباع وتورّث مدى الحياة) والتي كان السيد الأبيض يتلهى بها في أبشع صور التلهي والسادية والتي لم يعرف لها التاريخ نظيرا. 6 ويتوالى الاستقطاب الأمريكي من كل حدب وصوب، ودُوّخ الناس بالكذبة الكبرى، التي ما يزال مفعولها ساريا، كِذبة "الحلم الأمريكي"، والتي ليست سوى حلم فئة صغيرة، بيضاء شديدة البياض والنقاء، تراكم من الثروات ما يعجز المرء على عده أو حتى تصوره. (تبلغ ثروة واحد منهم ما يقارب أو يفوق 130 مليار دولار). ومن يقدر الأمور يعرف أننا بصدد أكبر تجمع للرأسمال في التاريخ الحديث، تجمع شديد الجشع والافتراس. وفائض القيمة أول ما يفترس، فتُقتلع معها حقوق ملايين من العمال، تسرق أعمارهم وعرقهم، ويلقى لهم بالفتات القليل، الذي يعودون به إلى بلادهم، البلاد الغارقة في خدمة الدين، الدَّين الذي لم يقترضوه لا هم ولا آباؤهم. 7 وقبل ذلك ثار الزنوج في نهاية القرن الثالث الهجري، الذين جُلبوا (دوما) من الأرض الإفريقية، ثاروا ضدا على الميز العنصري والقهر الذي مورس على الطبقة السفلى من طبقات حكم العباسيين، ثورة استمرت أربع عشرة سنة (أحرقوا خلالها مدينة البصرة سنة 275 ه). طالب أصحابها بالعدل والمساواة ورفع الحيف والظلم، بعد أن سيموا سوء العمل وهم يجففون أحواز دجلة والفرات من أسباخ الملح. 8 ليس في التسمية بالزنوج معشار ذرة من قدح، لكن اللفظ يحمل معه حمولته النفسية التي يُحمّل بها كرها واعتباطا، وتلك آفة اللغة.