صوب الصحافي رشيد نيني- قبل أيام – بوصلة قلمه في إطار عموده اليومي "شوف تشوف" نحو "الممنوعين من الترشح"، وذلك عبر ثلاث حلقات متتالية أسقط من خلالها القناع أو الأقنعة عن واقع حال الممارسة السياسية والحزبية التي لم تعد تسر الناظرين، باستعراضه نماذج من رؤساء جماعات متورطين في قضايا جارية على صعيد المحاكم المختصة، مرتبطة في شموليتها بتبديد أموال عمومية وسوء تدبير الشأن المحلي، وما يدور في فلك ذلك من "حلب" ونهب وسلب وشطط وتجاوز، ومن عبث خفي ومعلن بالمال العام بدون حرج أو حياء. وإذا كان الصحافي المذكور نجح في الكشف عن العورة السياسية وأفلح في رفع الستار عن السوءة الحزبية، فلا يمكن إلا القول: "ما خفي كان أعظم". الوجوه التي كشف عنها صاحب عمود "شوف تشوف" لا تحتاج بالضرورة إلى قلم جريء أو إلى قدرات في التحرير الصحافي أو إلى كفايات في تحليل الشأن الحزبي والسياسي، من أجل نشر غسيلها أمام الملأ، ليس فقط لأنها موضوع قضايا جارية أمام المحاكم بات يعلم بها القاصي قبل الداني، بل لأنها باتت مكشوفة أكثر من أي وقت مضى، فيكفي القول إن هناك حالات كثيرة لمنتخبين تحولوا بقدرة قادر إلى منعشين عقاريين وأصحاب مشاريع ورجال أعمال بدون حسيب أو رقيب، مكرسين مفاهيم للأحزاب السياسية والانتخابات مرادفة ل"التسنطيحة" و"تخراج العينين" والنفاق السياسي والعبث والمصالح المتشابكة وانعدام المسؤولية، والجري وراء ما تجود به الممارسة السياسية من مكاسب ومناصب ومسؤوليات وكراسي، تعبد طرق الارتقاء السياسي والاجتماعي والاقتصادي. وهؤلاء ليسوا فقط "ممنوعين من الترشح" كما وصفهم "رشيد نيني"، بل "ممنوعين من الصرف" بلغة الإعراب، يتموقعون خارج قواعد الرفع والنصب والجزم والجر، وبذلك فهم لا يستحقون فقط "المنع من الترشح" حتى لا يعيثوا في أرض السياسة عبثا ووقاحة وفسادا، بل أن يتم التعامل معهم وفق قواعد إعرابية بديلة، مبنية على ضوابط الافتحاص والتدقيق والبحث والتقصي بشأن الممتلكات الظاهرة والباطنة، تفعيلا لمبدأ "ربط المسؤولية بالمحاسبة". وهذا المبدأ الدستوري لا بد أن يكون كالموت "لا يستثني أحدا" ممن يتحملون المسؤوليات محليا وإقليميا وجهويا ووطنيا. غياب "ربط المسؤولية بالمحاسبة" مازال يسيل لعاب صناع العبث ويفتح شهية الكائنات الانتخابية من أجل التمادي في ممارسة العبث السياسي بكل مستوياته وتجلياته. ويكفي أن نتأمل "حرب التزكيات" و"الترحال السياسي" الذي تشتد جمرته في مواسم الانتخابات و"الحملات الانتخابية السابقة لأوانها"، ويكفي استحضار رئيس إحدى الجماعات الذي وقع أرضا بعدما اجتاحته حالة من الهستيريا دفاعا عن الكرسي على بعد أسابيع من الاستحقاقات الانتخابية، ويكفي التوقف عند الكثير من الكائنات الانتخابية البئيسة التي دخلت في طقوس قذرة لم تعد تخفى على أحد بحثا عن الأصوات، التي من شأنها حفظ الكراسي وصون المكاسب وتعبيد طرق ومسالك الارتقاء السياسي والاجتماعي والاقتصادي ... ليتبين لنا حجم العبث السياسي الذي بات أكبر جائحة تتهدد الوطن وتمنعه من كل فرص النهوض والتطور والازدهار. وبمفهوم المخالفة، لو تم التفعيل الأمثل لمبدأ "ربط المسؤولية بالمحاسبة" وتم تحريك آليات "عدم الإفلات من العقاب"، وتحركت عجلات المؤسسات والأجهزة المنوط بها تعزيز الحكامة الرشيدة ومحاربة الفساد وحماية المال العام بما يلزم من الإرادة والجرأة والمسؤولية، ما كنا اليوم نتحدث عن حرب التزكيات أو الترحال السياسي أو الوعود والأكاذيب المعسولة التي تتمدد مساحاتها في مواسم الانتخابات، وما كنا نوجه البوصلة نحو "الكائنات الانتخابية" و"صناع العبث الحزبي والسياسي"؛ لذلك فليس أمامنا من خيار سوى الرهان على تغيير الصورة، لأن واقع الممارسة الحزبية والسياسية لم يعد يسر الناظرين. وهذا التغيير بات اليوم ضرورة قصوى أكثر من أي وقت مضى، استحضارا لحجم العبث السائد وتداعياته على التنمية المجالية وعلى المعيش اليومي للمواطن، واعتبارا للرهانات الاقتصادية والتنموية ذات الصلة بالنموذج التنموي الجديد، وبالمشاريع الإستراتيجية التي أطلق ويطلق عنانها الملك محمد السادس بكل جرأة وتبصر. وعليه، وبقدر ما نثمن ما يعيشه المغرب من دينامية إصلاحية وتنموية ودبلوماسية متعددة الزوايا، بقدر ما نعلن أسفنا احتجاجا على ما بات يعيشه المشهد الحزبي والسياسي من مشاهد العبث والانحطاط؛ لذلك نلح على ضرورة توفر إرادة حقيقية في محاربة الفساد وتعقب العابثين الحزبيين والسياسيين والمتربصين بالمال العام، فالمغرب الممكن أو المأمول أو المنتظر لا يمكن قطعا بناؤه بوجوه قديمة كان لها نصيب بدرجات ومستويات مختلفة في ما وصلنا إليه من ارتباك تنموي مكرس للإحساس بفقدان الثقة والإحباط واليأس والنفور. وإذا رفع الجميع شعار "مغرب اليوم ليس كمغرب الأمس" في عز الأزمة الدبلوماسية مع الإسبان والألمان، فلا بد أن نكون جميعا جبهة واحدة في مواجهة ممارسات الفساد والعبث والانحطاط، وأن نرتقي بمستوى السلوك السياسي والاجتماعي والاقتصادي، لنكون في مستوى ما ينتظرنا من رهانات آنية ومستقبلية، في ظل "نموذج تنموي جديد" نعول عليه أفرادا وجماعات لوضع قطار الوطن على سكة التقدم والإقلاع الشامل. وإذا خصصنا المقال للممنوعين من الصرف، فمن باب توضيح الرؤية فنحن نقصد بهم كل صناع العبث الحزبي والسياسي، وكل الكائنات المفسدة للانتخابات، وكل المتربصين والعابثين بالمال العام، وكل المنتخبين الذين لا يظهرون للمواطن إلا في مواسم الانتخابات بحثا عن الأصوات بكل الطرق القبيحة والوسائل القذرة، وكل المسؤولين المحليين والجهويين الذين حولوا المدن والأرياف إلى مجالات بئيسة لا صوت يعلو فيها على صوت الارتباك والتواضع، وكل الذين يقسون على الوطن بأنانيتهم المفرطة وجشعهم وعبثهم وانعدام مسؤوليتهم؛ وهؤلاء وغيرهم كثير، لا بد من إزاحتهم من واقع الممارسة السياسية ومن خوض الترشح في الانتخابات، وإخضاع من تحمل منهم مسؤولية التدبير المحلية لسلطة "المحاسبة"، ليس فقط من باب حماية البناء الديمقراطي وصون العمليات الانتخابية، بل ومن أجل استئصال شوكة كل "كوفيدات العبث" التي تتهدد جسد الوطن، وتمنعه من كل فرص النهوض والارتقاء. وفي هذا الإطار، نحمل المسؤولية بشكل مباشر للأحزاب السياسية التي لم تعد تميز بين "الصالح" و"الطالح" في منح "التزكيات"، والمواطن الذي يكرس العبث الانتخابي والسياسي، إما بعزوفه عن التصويت أو بتصويته على "الممنوعين من الصرف"، والأجهزة المعنية بالحكامة ومحاربة الفساد وحماية المال العام، التي لا بد أن تتحرك في الميدان لردع العابثين والفاسدين، دون إغفال الإعلام، الذي لا بد أن يتحمل مسؤولياته المواطنة في فضح الفساد والكشف عن عورة المفسدين والمتهورين والعابثين. وبهذا الشكل يمكن أن نجود ممارستنا الديمقراطية ونجعل من الانتخابات الحرة والنزيهة فرصتنا للتغيير المأمول، ونحمي الوطن من كيد الكائدين وحسد الحاسدين. غير هذا سنعيد إنتاج نفس المسلسل، بنفس الممثلين وأحيانا بنفس السيناريو، مع اختلافات طفيفة في تقنيات الإخراج ...