الطالبي العلمي يكشف حصيلة السنة التشريعية    ميزانية مجلس النواب لسنة 2026: كلفة النائب تتجاوز 1.59 مليون درهم سنوياً    بنكيران: النظام الملكي في المغرب هو الأفضل في العالم العربي    تقرير: سباق تطوير الذكاء الاصطناعي في 2025 يصطدم بغياب "مقياس ذكاء" موثوق    لماذا تصرّ قناة الجزيرة القطرية على الإساءة إلى المغرب رغم اعتراف العالم بوحدته الترابية؟    بطولة ألمانيا لكرة القدم.. فريق أونيون برلين يتعادل مع بايرن ميونيخ (2-2)    كوريا الشمالية تتوج ب"مونديال الناشئات"    البطولة: النادي المكناسي يرتقي إلى المركز الخامس بانتصاره على اتحاد يعقوب المنصور    مدرب مارسيليا: أكرد قد يغيب عن "الكان"    موقف حازم من برلمان باراغواي: الأمم المتحدة أنصفت المغرب ومبادرته للحكم الذاتي هي الحل الواقعي الوحيد    نبيل باها: "قادرون على تقديم أداء أفضل من المباراتين السابقتين"    عائلة سيون أسيدون تقرر جنازة عائلية وتدعو إلى احترام خصوصية التشييع    ألعاب التضامن الإسلامي (الرياض 2025).. البطلة المغربية سمية إيراوي تحرز الميدالية البرونزية في الجيدو وزن أقل من 52 كلغ    طنجة.. وفاة شاب صدمته سيارة على محج محمد السادس والسائق يلوذ بالفرار    "جيل زد" توجه نداء لجمع الأدلة حول "أحداث القليعة" لكشف الحقيقة    بحضور الوالي التازي والوزير زيدان.. حفل تسليم السلط بين المرزوقي والخلفاوي    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    إسبانيا تشارك في المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب بالدار البيضاء    خلاف بين وزارة الإدماج ومكتب التكوين المهني حول مسؤولية تأخر منح المتدربين    طنجة.. الدرك البيئي يحجز نحو طن من أحشاء الأبقار غير الصالحة للاستهلاك    الرباط وتل أبيب تبحثان استئناف الرحلات الجوية المباشرة بعد توقف دام عاماً    "يونيسيف" ضيفا للشرف.. بنسعيد يفتتح المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب    "أونسا" يؤكد سلامة زيت الزيتون    بيليم.. بنعلي تقدم النسخة الثالثة للمساهمة المحددة وطنيا وتدعو إلى ميثاق جديد للثقة المناخية    شبهة الابتزاز والرشوة توقف مفتش شرطة عن العمل بأولاد تايمة    لقاء تشاوري بعمالة المضيق-الفنيدق حول إعداد الجيل الجديد من برنامج التنمية الترابية المندمجة    مخاوف برلمانية من شيخوخة سكانية بعد تراجع معدل الخصوبة بالمغرب    تعليق الرحلات الجوية بمطار الشريف الإدريسي بالحسيمة بسبب تدريبات عسكرية    توقعات أحوال الطقس اليوم السبت    الداخلة ترسي دعائم قطب نموذجي في الصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي    مهرجان الدوحة السينمائي يعرض إبداعات المواهب المحلية في برنامج "صُنع في قطر" من خلال عشر قصص آسرة    بعد السرقة المثيرة.. متحف اللوفر يعلن تشديد الإجراءات الأمنية    تتويج مغربي في اختتام المسابقة الدولية للصيد السياحي والرياضي بالداخلة    دكاترة متضررون من تأخير نتائج مباراة توظيف أساتذة التعليم العالي يطالبون بالإفراج عن نتائج مباراة توظيف عمرت لأربع سنوات    تشريح أسيدون يرجح "فرضية السقوط"    تدشين المعهد المتخصص في فنون الصناعة التقليدية بالداخلة تعزيزاً للموارد البشرية وتنمية القطاع الحرفي    قطاع غزة يستقبل جثامين فلسطينيين    فضيحة كروية في تركيا.. إيقاف 17 حكما متهما بالمراهنة    السلطة تتهم المئات ب"جريمة الخيانة" في تنزانيا    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    كاتبة الدولة الإسبانية المكلفة بالهجرة: المبادرة الأطلسية التي أطلقها الملك محمد السادس تشكل نموذجا للتنمية المشتركة والتضامن البين إفريقي    حمد الله يواصل برنامجا تأهيليا خاصا    العرائش.. البنية الفندقية تتعزز بإطلاق مشروع فندق فاخر "ريكسوس لكسوس" باستثمار ضخم يفوق 100 مليار سنتيم    "صوت الرمل" يكرس مغربية الصحراء ويخلد "خمسينية المسيرة الخضراء"    اتصالات المغرب تفعل شبكة الجيل الخامس.. رافعة أساسية للتحول الرقمي    الأحمر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    عيد الوحدة والمسيرة الخضراء… حين نادت الصحراء فلبّينا النداء    فرحة كبيرة لأسامة رمزي وزوجته أميرة بعد قدوم طفلتهما الأولى    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    الوجبات السائلة .. عناصر غذائية وعيوب حاضرة    أشرف حكيمي.. بين عين الحسد وضريبة النجاح    انطلاق فعاليات معرض الشارقة للكتاب    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حديث في ما جرى
نشر في تطوان بلوس يوم 17 - 10 - 2020

كنا نعتقد أن مشكلتنا قائمة مع جائحة "كورونا" التي لازالت مصرة على العبث بأوراقنا ولخبطة خططنا ومساراتنا وأنماط عيشنا وتفكيرنا، لكننا بتنا نقتنع يوما بعد يوم، أن مشكلاتنا الحقيقية قائمة مع جائحة المشهد السياسي الذي بات ملاذا آمنا لبعض العابثين والمتهورين والوصوليين والمتربصين بالكراسي وما تجود به من ريع ومكاسب ومغانم وتسلق للدرجات، ومن ارتقاء سياسي ومالي واجتماعي، بعيدا كل البعد عن خدمة الأمة والدفاع عن قضاياها وانتظاراتها، إلى درجة أضحت فيها الممارسة السياسية في أذهان الناس، مرادفة للأنانية المفرطة والمصلحة العمياء والوصولية والانتهازية والعناد واللغط والتسنطيح وتخراج العينين، في واقع سياسي وقانوني، لا زالت تفصله مسافات عن مبدأ "ربط المسؤولية بالمحاسبة".
المتأمل في تصريحات البرلماني صاحب مقولة "البيليكي" وهو يدافع داخل قبة البرلمان بشراسة وبسالة قل نظيرهما عن أحقية البرلمانيين في التعويضات والمعاشات، هي رسالة واضحة المضامين لا تحتاج إلى تعليق أو تأويل أو تفسير، تعكس أزمة حقيقية في الممارسة السياسية وما يجري في فلكها من ديمقراطية وانتخابات وأحزاب سياسية وعمل برلماني وحكومي، كنا ننتظر منه ومن غيره من نواب الأمة، أن يتحلوا بنفس درجة الشراسة والجرأة والبسالة والحماسة، أن يتنازلوا عن كبريائهم وأنانيتهم وحساباتهم الضيقة، للترافع عن قضايا الفقراء والغلابى والمستضعفين الذين زادت أوضاعهم تأزما وتعقيدا بسبب الجائحة الكورونية وتداعياتها، للدفاع بجرأة ومواطنة عن القطاعات الحيوية والاستراتيجية التي أبانت الجائحة عن حجم ضعفها وقصورها ومحدوديتها، من صحة وتعليم وبحث علمي وحماية اجتماعية وشغل وسكن وغيرها، لتقديم الحلول والبدائل الممكنة التي من شأنها الإسهام في التخفيف من حدة الأزمة الكورونية القائمة خاصة وسط الفئات الفقيرة والمعوزة، أن يوحدوا الطاقات والقدرات لتخليص المدن مما بات يعتريها من مشاهد العبث والتهور والفوضوية والأنانية، من انتشار كاسح للباعة المتجولين والكلاب الضالة، واحتلال مقلق للملك العام أمام أنظار السلطات ومن غياب للفضاءات الخضراء وملاعب القرب و دور الثقافة والشبابة والرياضة، التي من شأنها إبعاد أطفالنا وشبابنا من ورم الانحراف بكل مستوياته، كنا ننتظر منه ومن غيره من "نواب الأمة" أن يحرصوا على المال العام في لحظة خاصة واستثنائية، انكشفت فيها سوءتنا أمام جائحة جارفة، كشفت عن عمق المأساة ودرجة المعاناة وحجم ما نتخبط فيه من أعطاب واختلالات تنموية منذ سنوات ..
وحتى لا نكون قاسيين على البرلماني الذي ترافع بشراسة قل نظيرها عن أحقية البرلمانيين في التعويضات والمعاشات، نرى أن ما صدر عنه من تصريحات تحكمت فيه الحماسة والأنانية والذاتية، في لحظة لم يتم فيها تقدير التداعيات المتعددة المستويات لمثل هكذا تصريحات سياسيا وحزبيا وشعبيا، اعتبارا لخصوصيات الظرفية الخاصة والاستثنائية التي نعيشها، والتي تتطلب المزيد من التعبئة الجماعية والتحلي بما يكفي من روح المواطنة والمسؤولية واستحضار المصلحة العامة، والبعد عن إثارة القلاقل والنعرات والصراعات الخفية والمعلنة، بشكل من شأنه توفير الظروف الآمنة التي من شأنها المساعدة على مجابهة ما يواجهنا من تحديات آنية ومستقبلية، مرتبطة بالأساس بما وضعه الملك محمد السادس من خارطة طريق في خطابي العرش الأخير وافتتاح الدورة التشريعية، لانعاش الاقتصاد الوطني والنهوض بقطاع الحماية الاجتماعية بكل مستوياته، وبما نتطلع إليه من نموذج تنموي جديد، نعول عليه جميعا للمرور إلى مرحلة "المسؤولية" و"الإقلاع الشامل"..
وهي في ذات الآن، تصريحات شئنا أم أبينا، بمثابة مرآة عاكسة في مجملها لواقع حال السياسة التي باتت في المتخيل الفردي والجماعي، مرادفة ومقرونة بالسباحة المجانية في حوض الريع الذي أضحى قنطرة عبور آمنة وسلسة للارتقاء في السلم الاقتصادي والمالي والاجتماعي، وحتى نكون واقعيين، فكيف يمكن لمنتخب محلي أو برلماني أو مسؤول حكومي (مع وجود الاستثناء طبعا) ألف "عسل الريع" منذ سنوات، وما يذره عليه من مكاسب ومن تعويضات سخية مثنى وثلاث ورباع …، ومن فرص للارتقاء المجتمعي، كيف له أن يلتفت لهموم ومشاكل الأمة وكيف له أن يترافع ببسالة وشراسة للدفاع عن قضاياها وانتظاراتها؟ في واقع ريعي كهذا تكاد تغيب عنه شمس المسؤولية والشفافية والمساءلة والمحاسبة، من الطبيعي أن تحضر الأنانية المفرطة ومن المنطقي أن تخيم ثقافة المصالح والمكاسب والتسابق نحو الريع، ومن الطبيعي أن يخرج برلماني أو مسؤول حكومي للترافع والدفاع عن الحقوق والمكاسب، بدل الترافع عن المصلحة العامة والدفاع عن قضايا الأمة وانتظاراتها..
تصريحات البرلماني المثير للجدل، بقدر ما لم تحرك في ذواتنا كمهتمين بالشأن السياسي والاجتماعي أي نوع من المفاجئة أو الاستغراب، لأنها معبرة عن الواقع وعاكسة له، بقدر ما نرى أن تصريحات من هذا القبيل، تعمق الهوة بين المواطن والسياسة وتفقد الديمقراطية وما يجري في فلكها من انتخابات وأحزاب سياسية، قيمتها وجدواها، وتكرس إحساس المواطن بفقدان الثقة في العمل السياسي والانتخابات والأحزاب السياسية، وبعدم قدرته على صناعة التغيير في ظل مشهد حزبي مصاب بالضعف والهوان، بات اليوم في حاجة ماسة إلى إصلاح حقيقي بعيدا عن الترميمات أو "الروتوشات" أو تبادل المواقع .. وحتى الظرفية كما تمت الإشارة إلى ذلك سلفا، تفرض خطابا سياسيا مسؤولا، يستحضر خصوصيات ما تمر به الدولة من أزمة كورونية، ويستوعب تداعياتها المتعددة الزوايا على الاقتصاد والمجتمع، وما يقتضيه الوضع القائم من تعبئة جماعية ومن استحضار للمصلحة العامة للوطن والمواطن على حد سواء، ومن بعد عن كل الخرجات أو التصريحات التي من شأنها إثارة المزيد من الخلافات والنعرات والقلاقل التي لا محل لها من الإعراب ..
وعليه، فمن غير المقبول، أن نشاهد أو نسمع تصريحات ترافع بشراسة عما تدره مهمات "تطوعية" في جوهرها، من مكاسب وتعويضات تدخل في زمرة "الريع" وأخواته، ونحن نعيش في زمن "الجائحة" التي عرت عن كل شيء وكشفت عن كل شيء وقالت كل شيء، ومن غير المقبول أيضا، أن يظل "الريع السياسي" حديث القاصي قبل الداني، أن يظل ذاك "الكوفيد المرعب" الذي يعبث بجسد المال العام بدون خجل أو حياء، بعيدا عن آليات المحاسبة والمكاشفة والمساءلة، مكرسا لمفهوم للسياسة في ذهن المواطن، مقرونا بالعبث والمصلحة والجشع والأنانية المفرطة والوصولية والارتقاء في السلم الاجتماعي، ولا أبلغ من صورة منتخب محلي أو برلماني أو مسؤول حكومي يمارس أكثر من مهمة في ذات الآن، وكل مهمة تذر عليه مكاسب وتعويضات بالجملة، ولا أبلغ من صور الكثير من المنتخبين الذين اقتحموا السياسة وهم في درجة الصفر، وتحولوا بين عشية وضحايا إلى مقاولين ومنعشين عقاريين وأصحاب ثروات في غياب لبيت القصيد في دستور 2011 (ربط المسؤولية بالمحاسبة) ولشعار من أين لك هذا؟..
ما نعيشه من جائحة لا أحد يمكنه التكهن بمتى ستضع أوزارها، يفرض استعجال "حماية المال العام" والتفكير في السبل القانونية الممكنة لإيجاد حلول مقبولة لمعاشات وتعويضات البرلمانيين والمسؤولين الحكوميين، وعقلنة وتقنين ما يتلقاه المسؤولون من تعويضات مرتبطة بما يضطلعون به من مهام، والحرص على القطع مع واقع "تعدد المهمات والمسؤوليات"، فلم يعد مقبولا ونحن في ظل الجائحة، أن يحضر بين ظهرانينا "مسؤولون سوبرمان" يجمعون بين عدد من المهمات والمسؤوليات في ذات الآن، تذر عليهم "تعويضات" بسخاء، كما لم يعد مقبولا أن يظل العمل السياسي والحزبي بالأساس بهذا المستوى من العبث والضعف والهوان المكرس للمصلحة والأنانية المفرطة، ما لم تبادر الأحزاب السياسية إلى تغيير جلدها وتطهير بيتها الداخلي، بالارتقاء بمستوى ديمقراطيتها الداخلية وتعزيز آليات الحكامة وإتاحة الفرصة للكفاءات والطاقات الشابة، والاضطلاع بمسؤولياتها الجوهرية في تأطير المواطنين، بشكل يعيد الاعتبار للانتخابات والعمل السياسي ويعيد المواطن إلى حضن السياسة، فلا يمكن كسب الرهانات القائمة إلا في ظل أحزاب سياسية قوية، تجعل خدمة المواطن في صلب خططها وبرامجها السياسية، أما الفاعل السياسي برلمانيا كان أو مسؤولا حكوميا، فلابديل له اليوم، سوى الارتقاء بمستوى خطابه السياسي والبعد عن "الخرجات" غير محسوبة العواقب، والمكرسة للمزيد من الجدل والخلاف الذي يزيد من غموض وضبابية المشهد السياسي، فالبرلماني مهما كان لونه السياسي، مهمته الدفاع عن قضايا الأمة التي بدونها ما كان له أن يصل إلى قبة البرلمان، بالإسهام في بلورة تشريعات رصينة معبرة عن تطلعاتها وانتظاراتها، وأي خروج عن هذا الدور المركزي، لن يكون إلا انزلاقا وخروجا عن النص، وسواء تعلق الأمر بالبرلمان أو بالحكومة، تبقى الأمة هي صاحبة السيادة، ولا يمكن قطعا تصور انتخابات أو برلمان أو حكومة أو عمل سياسي، إلا في ظل "أمة"، يفترض أن يكون البرلمان خير مدافع عن مصالحها وقضاياها، وأن تكون "الحكومة" عبر برامجها، خير معبر عن تطلعاتها وانتظاراتها ..
لسنا بصدد تمرير درس حول الأحزاب السياسية، أو إلقاء محاضرة في علم السياسة، وليس المجال هنا، للنبش في حفريات المشهد السياسي وما يعتريه من مشاهد البؤس، ولكن هي محاولة متواضعة، تأتي في سياق مواكبتنا لمستجدات ومتغيرات المشهد السياسي والاجتماعي الوطني، وفي ظل ذلك، كان لابد لنا من تخصيص مقال تفاعلا مع صدر عن برلماني "بيليكي" من تصريحات لم تسلم من كماشة الجدل واللغط والانتقاد، وكعادتنا في مثل هذه المواقف، لن نوجه سهام الجدل أو اللغط ولن نشهر سيف الانتقاد في وجه الرجل الذي خانته الحماسة في لحظة كانت تقتضي التحلي بالحكمة والمسؤولية، لكن في ذات الآن، نرى أن ما صدر عنه، وإن كان يخصه ويلزمه، فهو يختزل "مواقف" شرائح واسعة من المسؤولين (برلمانيون، مسؤولون حكوميون، رؤساء مجالس ومؤسسات وهيئات عمومية …) يسبحون في فلك الريع في ظل ما يمارسونه من مهمات متعددة المستويات، ونحن على اقتناع تام، أن المال العام لا يمكن حمايته أو تحصينه إلا بالتشريع وليس بالشعارات الرنانة والحملات العابرة، وهذا يقتضي إعادة النظر في كل القوانين التي تؤسس للريع بكل مستوياته وأشكاله وتكرسه على مستوى الواقع، فما تم تقعيده بالقانون، فلا يمكن تقنينه أو تصفيته إلا بالقانون.
ونحن لازلنا نعيش في زمن جائحة كورونا، كنا نأمل كمواطنين وكمتتبعين للشأن السياسي والاجتماعي الوطني، أن نستشعر تغيرا في الممارسات السياسية وأن نتلمس نوعا من الجنوح نحو حماية "بيضة المال العام" استحضارا لخصوصية الظرفية التي تفرض إعادة ترتيب الأولويات والاختيارات، وإعادة الاعتبار لعدد من القطاعات الحيوية والاستراتيجية وعلى رأسها الصحة والتعليم والبحث العلمي والحماية الاجتماعية، لكن يبدو لحد الآن أننا لم نستوعب "الدرس الكوروني" كما يجب، فمن غير المقبول ونحن في زمن الأزمة والجائحة، أن نستمر في العبث بالمال العام يمينا وشمالا، ويكفي أن نستحضر ما أثاره قبل أيام، الدعم الممنوح للفنانين من لغط واحتجاج، وقبله التعويضات التي منحت بسخاء لقطاع الصحافة والإعلام ولرئيس وأعضاء المجلس الوطني للصحافة، دون إغفال التعويضات السخية التي منحت لأعضاء "مجلس الهيئة الوطنية لضبط الكهرباء"، وغير ذلك، من التعويضات السخية التي يستفيد منها في صمت رؤساء وأعضاء العديد من المجالس والهيئات والمؤسسات، بشكل يكرس الفوارق الاجتماعية ويقوي الإحساس لدى شرائح واسعة من المواطنين بانعدام العدالة والمساواة الاجتماعية، وبعدم جدوى الديمقراطية والأحزاب السياسية والانتخابات …
ويكفي أن نستحضر حجم الأسر التي تقدمت بطلبات الدعم الاجتماعي أثناء سريان الحجر الصحي، سواء من حاملي بطاقة الراميد، أو ممن يشتغل في إطار القطاع "غير المهيكل"، بعيدا عن كل أشكال الحماية الاجتماعية والصحية، ليتبين عمق المأساة وحجم المعاناة التي تحضر بين ظهرانينا في النسيج المجتمعي ونحن عنها غافلون، ويكفي النظر إلى حجم الخصاص في المنظومة الصحية ومحدودية قطاع التربية والتكوين والبحث العلمي، وعمق الأزمة التي باتت تتربص بعدد من القطاعات الاقتصادية التي تضررت أكثر من غيرها بسبب الأزمة، وعلى رأسها الفلاحة والسياحة وقطاع الفندقة والمطاعم والنقل واللوجستيك وتموين الحفلات والأعراس وغيرها، مشاهد من ضمن أخرى، لايمكن إلا أن نستحضر آثارها على النسيج الاقتصادي، ونقدر تداعياتها المحتملة الآنية والمستقبلية على الأمن الاجتماعي في ظل الانكماش الاقتصادي وتباطؤ حركية الرواج التجاري، وفي ظل هذا الوضع المقلق، تزداد حاجتنا الماسة إلى التحلي بقيمة المواطنة الحقة، وما يرتبط بها من مسؤولية واتزان ورصانة وتعاون وتضامن وتعاضد ونزاهة، ومن استحضار للمصلحة العامة للوطن، بعيدا عن الأنانية المفرطة والحسابات الضيقة والنعرات والصراعات الهدامة..
الملك محمد السادس كما تمت الإشارة إلى ذلك سلفا، وضع في خطابي العرش وافتتاح الدورة البرلمانية، خارطة طريق الإنعاش الاقتصادي وخطة ورش تعميم التغطية الصحية والحماية الاجتماعية لكل المغاربة، لتجاوز محنة "كورونا" وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية، وبقدر ما نثمن وننوه بالمبادرات الملكية الرائدة التي يسكنها على الدوام، هاجس التنمية والارتقاء بمستوى عيش المغاربة، بقدر ما نرى أن الظرفية تقتضي أحزابا سياسية حقيقية تضع المواطن في صلب اهتماماتها وبرامجها، وإلى مسؤولين أكفاء، يستحضرون الوطن قبل كل شيء، قادرين على التفكير والخلق والإبداع والابتكار والإصغاء لنبض الشعب وعدم التردد في قول الحقيقة، وإلى رجالات دولة مشهود لهم بالمواطنة والنزاهة والتضحية ونكران الذات وخدمة الصالح العام، فلا يمكن الإصلاح بعقليات باتت نمطية، ولا يمكن البتة النهوض والارتقاء، إلا برجالات تؤمن بفلسفة الإصلاح بعيدا عن "كوفيد" الريع ومفرداته، ولا يمكن إدراك التغيير المنشود، إلا في ظل أحزاب سياسية "مواطنة" قادرة على تأطير المواطن وصناعة النخب الحقيقية التي من شأنها التدبير الأمثل للشأن العام، والإسهام الإيجابي في إنجاح مختلف الأوراش التنموية المفتوحة وعلى رأسها "النموذج التنموي الجديد" المرتقب أن تقدم تفاصيله العريضة أمام أنظار الملك مطلع السنة القادمة.
وعليه وبناء على ما سلف، واستحضارا لجائحة كورونا وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية، وتقديرا لما أبانت عنه الجائحة من مظاهر الخصاص والمحدودية في عدد القطاعات الحيوية والاستراتيجية (الصحة، التعليم، البحث العلمي، الحماية الاجتماعية، الفلاحة …)، وحرصا على الأمن الاجتماعي، ومراعاة للفوارق السوسيومجالية التي تعمقت بؤرها بسبب الأزمة الكورونية، ومن باب المواطنة الحقة والإسهام الفردي والجماعي في خدمة الوطن في هذه اللحظة الخاصة والاستثنائية، وترقبا للنموذج التنموي المرتقب الذي نعول عليه جميعا لتخليصنا من أعطابنا واختلالاتنا التنموية، آن الأوان للقطع مع كل ممارسات العبث والأنانية المفرطة التي تنتصر للمصلحة الخاصة على حساب قضايا الأمة وانتظاراتها وتطلعاتها، فالمصلحة العامة فوق الجميع والوطن يعلو ولا يعلى عليه، وليس أمامنا ونحن لم ننفلت بعد من مخالب الجائحة، إلا أن نتنازل عن أنانيتنا وكبريائنا وعاداتنا السيئة وطباعنا القبيحة التي كرست مغربا بات يختزله البعض في تلك "البقرة الحلوب" التي لا تصلح إلا للحلب والنهب والسلب، وأن نستعجل التشريع المناسب الذي من شأنه أن يضع حدا للجدل القائم منذ سنوات بشأن تعويضات ومعاشات البرلمانيين والوزراء، وأن يقنن ما يتلقاه كبار المسؤولين من تعويضات حرصا على "المال العام" الذي بات من الضروري منذ أكثر من أي وقت مضى، توجيهه نحو القطاعات الحيوية والاستراتيجية التي كشفت كورونا حجم محدوديتها ودرجة قصورها وضعفها..
ندرك تمام الإدراك أن اللحظة تقتضي التعبئة الجماعية والتعاضد والتعاون وطرح كل أسباب القلاقل والنعرات والصراعات والتحلي بروح المواطنة الحقة خدمة للصالح العام، لأن ناعورة كورونا التي لازالت مصرة على الدوران بقوة، تدق ناقوس الخطر وتجعلنا نقتنع يوما بعد يوم أن "القادم أسوء"، وفي ذات الآن، نرى أن الخطر الحقيقي الذي يتربص بنا ويمنعنا من فرص النهوض والارتقاء، يكمن فيما بات يسيطر على ذواتنا من فيروسات أقوى وأشد فتكا من الفيروس التاجي، نختزل تفاصيلها في الأنانية المفرطة والمصلحة الخاصة وانعدام روح المسؤولية والوصولية والانتهازية، وهي فيروسات وغيرها، التغلب عليها يمر أولا عبر التحلي "بالمواطنة الحقة" و"استحضار الصالح العام" و "حب الوطن"، ويمر ثانيا عبر إعادة الاعتبار لسلطة القانون وفرض سيادته، وحماية المال العام من العابثين والمفسدين والمهووسين بالريع، وتعزيز آليات الحكامة وما يرتبط بها من مسؤولية ومساءلة ومحاسبة وعقاب، وحتى لا ننسى، فجائحة كورونا أعادت الاعتبار للأوطان في ظل إقبال الدول على إغلاق الحدود الوطنية لحماية صحتها العامة، في ظل وباء عالمي عابر للدول والقارات، وتموقعنا جميعا في الوطن الذي كان حضننا الآمن في جائحة جارفة، وهي فرصتنا اليوم لإعادة بناء الوطن والإسهام الفردي والجماعي في النهوض به والارتقاء بأوضاعه، ليكون على الدوام ملاذنا الآمن وحضننا الدافئ في لحظات الرخاء والازدهار كما في لحظات المحن والجوائح والأزمات الفجائية..
نختم بالقول، أن عنوان المقال (حديث في ما جرى) تقاطع من باب الصدفة مع كتاب "أحاديث في ما جرى" الذي لخص جانبا من مذكرات الأستاذ الراحل "سي عبدالرحمان اليوسفي" رحمه الله، وهي فرصة لنستحضر سيرة رجل من رجالات الدولة البارزين، الذي سجل له التاريخ ما تميز به من وطنية عالية ومن مسؤولية والتزام واستقامة وثبات على المبادئ، ومن غيرة وطنية صادقة ونكران للذات وعفة وتواضع وحكمة وتبصر واستحضار للمصلحة العامة وتشبث بمقدسات الأمة وبالوحدة الترابية للمملكة، كما سجل له التاريخ براءة ذمته من الريع، ونحن في زمن الجائحة الكورونية، لابد للفاعلين السياسيين الذين أسرتهم سلطة الريع، أن يتأملوا في سيرة الرجل وغيره من رجالات الدولة الذين قضوا أو الذين لازالوا على قيد الحياة، ويستحضروا ما تمتع به الرجل من تقدير وما حضي به من إجماع قل نظيره في الأوساط السياسية والنضالية والفكرية والشعبية، ونحن على اقتناع، أن الوطن لايمكن بناؤه أو الارتقاء به، إلا برجالات دولة مخلصين و أوفياء، يستحضرون الوطن في الحركات والسكنات، يشتغلون في صمت بعيدا عن التطبيل والتهليل والخرجات والنعرات، ويبتعدون بأنفسهم عن الشبهات ما ظهر منها وما بطن، أما الوصوليون والانتهازيون والمصابون بهوس الريع والمناصب والكراسي وتسلق الدرجات، فهم أكبر جائحة تتهدد الوطن، لا ينفع معها مصل أو لقاح، سوى فرض سيادة القانون ومحاربة الفساد والإثراء غير المشروع وربط المسؤولية بالمحاسبة، وفي ذات الآن، نوجه البوصلة نحو المواطن(ة)/الناخب(ة) الذي لابد له أن يتحمل مسؤوليته كاملة في اختيار من يمثله سواء على مستوى البرلمان أو المجالس المحلية والجهوية، وفق شروط ومعايير الكفاءة والنزاهة والاستقامة والمسؤولية، ولا يسعنا إلا أن نجدد الرحمات على صاحب "أحاديث في ما جرى" وغيره من رجالات الدولة الذين تركوا بصمات بارزة في الذاكرة السياسية والنضالية الوطنية، فالتاريخ لا يذكر إلا من ناضل من أجل الأوطان بصدق ومحبة وصفاء ونقاء، فحب الأوطان من الإيمان، فطوبى لمن بنى الأوطان …
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.