يحتل الشعر العربي في وجدان الناس، وفي قلوب الناشئة والكبار على حد سواء، منزلة رفيعة تعلو على المنازل، ومكانة سنية لا تدانيها مكانة. ويتعلق الأمر بالشعر العربي قديما ووسيطا، وفي مرحلة ما سمي بالبعث والإحياء، وصولا إلى ثورة الخمسينيات الشعرية في القرن الفائت التي اجترحت بنية وأفقا مختلفين للشعر. أما الآن، فقد تراجع سلطانه، وتضاءل حضوره لأسباب ذاتية وموضوعية يقصر المقال عن إيرادها وذكرها جميعا لأنها من الوفرة والتشابك، وفي رأس تلك الأسباب بروز سلطان القص والرواية، وإعلاء النقاد والإعلام والجوائز لشأنها، وإعراض البرامج والمناهج المدرسية في كل أطوار التعليم، عن تنزيله تربويا وديداكتيكيا، والاحتفاء به، وتربية ذوق جدير وحقيق بفتوحاته ومنجزاته. فالشعر قديما كان علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه في ما روي عن الخليفة عمر بن الخطاب. فهو ديوانهم، وسجل مفاخرهم ومآثرهم. وكان للشعراء في الجاهلية، وفي العصرين الأموي والعباسي، سطوة وسيادة ورهبة تخشاها القبائل والأعيان والملوك، وترهبها العشائر والأفخاذ والبطون. نبوغ شاعر ما، وسطوع نجمه في القبائل والأسواق، عُدَّ إيذانا وبدءا بفتوة وحصانة القبيلة التي أنجبته لأنه سيصبح لسانها الذائد عن حياضها، والمُعْلي المذيع لأيامها وأمجادها تفاخرا وتباهيا بها في السلم والحرب. ولم تكن الأغراض الشعرية أو الموضوعات بلغة عصرنا، سوى ذرائع ومطايا يأتيها الشعراء ويمتطونها لغايات محددة، ومرامٍ معينة سواء أتعلق الأمر بالمدح أو الهجو أو الفخر أو النسيب والتشبيب. ولعل المدح أن يكون أوكَدَها وأقوى شوكةً بينها، وأبعد أثرا في النفس الإنسانية: في نفس الممدوح، وفي نفس المتلقين ثانيا. فالمدح كان جامعا مانعا، حائزا، محيطا بباقي الأغراض حيث يصهرها ويذيبها في "تنور" حميته وحماسته، وحمأة لغته، وفخامة وجزالة صياغته وصوره التي تزين ما لا يزين، وترصع بالجمال ما أصله القبح والفساد والطغيان في كثير من الأحيان. فالغزل مدح، والفخر بالذات وبالجماعة مدح، والهجو مدح مقلوب يخفي ما حقه الإظهار، ويبدي سوءة الغير بغير وجه حق. وقد بات من المقرر المعلوم أن إيصال المدح للمعني به، يتطلب التجويد والتنقيح والمغالاة، وليّ عنق المحال ليصبح طوع اليد قريب المنال. وذكر شمائل وفضائل الممدوح من دون تثبت بوجودها من عدمها فيه، ما خلا قلة شهد لها التاريخ والمرويات المسنودة بالخلال الحميدة، والخصال المجيدة، وحيازة القيم والمثل الرفيعة كمثل الكرم والجود والسخاء، والبذل، والإيثار والتضحية، ونكران الذات، والعفو عند المقدرة، وغض الطرف، إلى آخر ذلك من مزايا وأفضال. ومن ثَمَّ، وُضِعَ معيار الفحولة والجودة والتجديد، وتفتيق أجفان المعاني الجياد، وتوليد حسن الألفاظ العرائس، وجرس الكلمات، وحسن المأتى، انطلاقا من مضامين شعر المدائح، لينسحب تاليا على باقي موضوعات الشعر وأغراضه. وقد اتصل المدح بالهجاء اتصالا موثوقا مقرونا ممزوجا. فهو يستدعي بالإضمار أو بالإظهار ضديده. ولنا في شعر شعراء الرسول، دليل على ما قلنا. إذ كان مدح الرسالة المحمدية، مدخلا ومناسبة لهجاء مشركي قريش، وملء مكة المناوئين للنبي الأكرم. فكعب بن زهير، وحسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، وآخرين، نهضوا بمهمة الدفاع عن الرسالة وصاحب الرسالة، ورد الأذى عنه، والتصدي للمشركين بالقدح والتشهير والتأثيم والوعد والوعيد. وكذلك فعل شعراء معدودون في العصر الأموي والعباسي. أقول معدودين لأن عدد المداحين للنبي، تقلص وتناقص حتى لدى الخوارج والشيعة والطالبيين. قصارى ما كان يمدح به النبي لا يتخطى شذرا مبعثرا في نسيج القصيد، ونزرا يسيرا متصلا عادةً بمدح آل البيت، وفي مقدمتهم الخليفة علي، وفاطمة الزهراء، وابنهما الشهيد الحسين. وقد بلغ من خطورة الشعر وسطوته، أن محمدا صلوات الله عليه، كان يتقيه، ويتوعد هاجيه ومهاجميه بسوء المنقلب والسعير. بل، بهدر دم كل من ينال من النبوة والرسالة سواء أكان عربيا مشركا أم كان يهوديا شاكا ومناوئا. ومن أمثلة خطورة الشعر بالمعنى الإيجابي والسلبي، أن الشاعر كان بإمكانه هدم عزة ومجد قوم، وإطفاء نار الحروب الضروس، والمعارك الشرسة المديدة كحرب البسوس، وحرب داحس والغبراء، وغيرها من حروب العصبيات القبلية. وهل لنا أن نعرج على شعر الغزل الذي كانت العرب تخافه وتتقيه حَذَرَ أن يقترب من بناتها فيكسر من ثمة كبرياء البيوت، وشرف العوائل أنّى كانت مكانتها وطبقتها. حتى أن بعض الخلفاء والأمراء والولاة لم يترددوا لحظة في نفي وسجن وقتل الشعراء الغزليين الكبار كقيس بن الملوح، وجميل بثينة، وعمر بن أبي ربيعة، ووضاح اليمن، والعُرْجي، وديك الجن، وابن العجلان النهدي. ولم يكن مصير الهجائين ببعيد ومختلف عما حل بالشعراء الغزلين. وكفى بمصير شاعر العربية الأكبر أبي الطيب، مثلا وبرهانا، وشعراء شاهقين كالحطيئة وبشار بن برد، وابن الرومي، وغيرهم، دليلا آخر. هو ذا الشعر في سمته وبجدته العربية المبينة. الشعر الذي أعلى الجاحظ من بيانه، معتبرا إياه خاصية العرب الأدبية والإبداعية الفريدة المتفردة بين الأمم، وكذا فعل من جاء بعده، وحدا حدوه. إنه الشعر الذي اهتز الرسول لسحره وبيانه وأثره في النفس والقلب والوجدان حتى قال: (إن من البيان لسحرا). ولم يذمَّ سوى الشعر ذي الغواية والإغراء، والفاحش الهاتك لأعراض الناس: (والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون سورة الشعراء الآية 224). كما اهتز له الصحابة وعلى رأسهم عمر بن الخطاب الذي له في الشعر، آراء "نقدية" انطباعية اشتهرت بين الشعراء والنقاد فرددوها على مر العصور والأحقاب. وكيف لنا أن نثير الموضوع من دون الإشارة إلى أحد أشهر القصائد التي قيلت في مدح الرسول، عنيت: قصيدة البردة، وفي عنونة أخرى: (قصيدة الكواكب الدرية في مدح خير البرية) التي كتبها البوصيري في القرن الثالث عشر الميلادي. وهي القصيدة لتي يعرفها الخاص والعام حيث أشاعها بين الناس، الفقهاء في الأعياد الدينية، والمناسبات الاحتفالية العائلية كالأعراس، والعقائق، والختان، وفي المآتم والأحزان. مع العلم أنها محشوة بما لا يقبله العقل، ولا يستسيغه المنطق. ولم يكن أمير الشعراء أحمد شوقي أقل مستوى، وأدنى شاعرية وهو يمدح النبي بقصيدة بديعة فارهة: ريمٌ على القاع بين البان والعلم /// أحل سفك دمي في الأشهر الحُرُم رمى القضاء بعيني جؤذر أسدا /// يا ساكن القاع أدركْ ساكن الأجَم وقد أضفت عليها أم كلثوم الخالدة، رونقا وروعة ومهابة بصوتها الفخم الأسطوري. كما صدحت بشعر شوقي في مدح النبي الذي يقول: وُلِدَ الهدى فالكائنات ضياءُ /// وفم الزمان تَبسُّمٌ وثناءُ والجدير بالذكر أن القصائد المدحية في الرسول الكريم أو في غيره، والتي ناست بين النظم البارد، والشعر الحار، إنما كان الشاعر يستهلها بالغزل جريا على عادة العرب حتى يستطيب الممدوح القول الشعري، وترتخي له أعضاؤه، ويهتز انشراحا وانتشاء قبل الوصول إلى المطلوب الأول من إنشاء القصيدِ. كما برع الشاعر السوري الكبير عمر أبو ريشة في ملحمته البديعة عن النبي، والعراقي الشاهق محمد مهدي الجواهري، والإحيائي محمود سامي البارودي، وشاعر النيل حافظ إبراهيم، والمصري الرومانسي محمود حسن إسماعيل، والشاعر الباكستاني الكبير محمد إقبال، وآخرين كُثْرٌ. ولا شك أن ما سمي بشعر المولديات، هو ما قدح نار المدائح النبوية، وقاد إلى استحضار سيرة النبي العَطِرَة في شتى المناسبات، وبخاصة في مناسبة مولده عليه السلام. وهو شعر ظهر واشتهر في مصر وفي المغرب على وجه التحديد؛ إذ حظيَ بعناية العلماء والأدباء، منذ بداية احتفال المغرب بالمولد النبوي في العصر المريني إذا أسعفتني الذاكرة بعد أن نما إلى علم المغاربة أن مصر تحتفل بالذكرى، وتحيطها بكل مظاهر التبجيل والحفاوة والإجلال على عهد الفاطميين فما بعد، إظهارا لانتمائهم إلى البيت النبوي، وعملا على تكريس شرعيتهم السياسية من خلاله. ولم تكن تنزاح موضوعات شعر المولديات عن معاني الحنين إلى البقاع المقدسة، ومدح النبي، وتعداد معجزاته متْحا من سيرة ابن إسحاق، وابن هشام، وابن سعد، لتخلص إلى مدح سلطان الوقت. على أنه كان نظما أكثر مما هو شعر في أغلب ما وصلنا منه. ولربما في تقديري الشخصي- أن الاحتفاء بالمولد النبوي وتخليده في أعصر حديثة نسبيا بالقياس لزمن الميلاد المنير، هو ما أشعل جذوة المدائح في الرسول وعترته وصحبه، بعد أن خمد مديحه قبل ذلك في زمن طال وامتد قرونا لا لنسيان أو عدم تقديس وتقدير، أو تجاهل متعمد، وإنما لأن ورود ذكره في الصلوات الخمس كل يوم، وفي تلاوة القرآن، كافيان مكتفيان يتضمنان مدحا وتبجيلا ومحبة للرسول الأكرم. ولعل ذلك أن يكون أحد لأسباب التي جعلت كبار شعراء العربية في الأعصر الذهبية للشعر العربي: العصر الأموي، والعصران العباسيان، والعصر الأندلسي، لا يخصون نبيهم بشعر مدحي رفيع كما فعل لاحقا البوصيري، ومن تلاه من الشعراء. أو لعل باعهم الشعري، وشيطانهم اليقظ كل الوقت، يقصر عن اللحاق بخير الورى، فتنهار عبقريتهم، ويتَّضِع علو كعبهم اللغوي والتعبيري حين يقتربون من نور محمد والرسالة المحمدية؟ أم أن صدى مقولة الأصمعي، فعلت فعلها في الشعراء الخناديد فأحجموا عن غمس أقلامهم في محبرة المدح الديني، وكل ما يتصل بخدمة الدعوة لا خذلانا للرسالة وصاحب الرسالة، ولكن خوفا وخشية من أن يفضحهم ضعفهم، ويُزْري بهم عجزهم وحُبْسَتُهم، فيسقطون في النظم عوض الشعر. أما مقولة الأصمعي فيما روي عنه، فهي: (الشعر نَكَدٌ لا يقوى إلا في الشر، ويسهل). أو: (طريق الشعر إذا أدخلته في باب الخير لاَنَ). وليس بخافٍ أن المقصود بالشر، عند التأويل، ليس غير الخيال والتخييل المجنح، والحرية الرحبة والوسيعة. ومن ثَمَّ، ينفتح الطريق لاحِبا مطروقا موْطوءا للقولة الشهيرة أيضا: (أعذب الشعر أكذبه). فكأن الصدق وبالٌ على الشعر لأنه يُرْديه مسرح الرداءة، ويمرغ الشعر في الضحالة والتكلف والاعتساف، ويجفف منبع الخيال فيه، ونسمة الحرية المطلوبة والمشتهاة لحياته وألقه. لقد خرجت خاوي الوفاض، وعدت بخف حنين من رحلتي في رحاب طبقة الفحول الشعراء: (أبو نواس، بشار بن برد، ابن الرومي، أبو تمام، البحتري، المتنبي، أبو فراس الحمداني، أبو العلاء المعري، الشريف الرضي....) الذين مدحوا سلاطين وأمراء، وولاة، وأرباب مال وجاه، فأتوا في مدائحهم بالمبهر الماتع المدوخ من حيث الفخامة وجمال الصياغة، ونفائس المعاني، وعرائس الألفاظ والمباني، بينما سكتوا أو مروا سراعا على مدح النبي العظيم، من خلال مدح آل بيته أولا بأول. أم ترى أن الكذب أسعفهم فحلقوا عاليا في سماء الصورة والخيال والمحال؟ وإذن، فلنقدح أكثر زناد التفكير في أمر هذا الأمر المحير؟