يرى الباحث الاقتصادي نور الدين العوفي، مؤسس مجلة “النقد الاقتصادي”، أن على “النموذج التنموي الجديد أن يقطع مع السيرورة التي آلت إلى الإختلالات البنيوية التي تم تشخيصها في بلادنا على مستوى التربية والتكوين والصحة والسكن والتشغيل والخدمات العمومية والحماية الاجتماعية”. ويراهن العوفي، أستاذ العلوم الاقتصادية بجامعة محمد الخامس، عضو اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، وعضو أكاديمية الحسن الثاني للعلوم والتكنولوجيا، في حواره مع موقع “لكم”، على أن “سياسة الإنعاش هي السياسة الأمثل لوقف التدهور وتجنُّب الانهيار، ولإنقاذ بعض الأنشطة الإنتاجية من الإفلاس وتنشيط الدورة الاقتصادية من جديد”.
ويخلص العوفي، رئيس الجمعية المغربية للاقتصاد وعضو اللجنة العلمية لتقرير الخمسينية، على أنه يتعين “بلورة مخطط وطني للإنعاش يقوم على الاستثمار، وعلى ضخ الدماء في شرايين الاقتصاد الوطني لا يقل أهمية، فوق هذا المستوى أيضاً”. وفيما يلي نص الحوار: ماذا يعني لك الحجر الصحي، وما الذي تمارسه فيه؟ نحن معشر الأساتذة قد نكون أقل الناس امتعاضاً من الحجر الصحي المفروض، لسبب بسيط وهو أننا تعودنا المكوث في البيت للقيام بواجباتنا المهنية. لم يكن لدي يوما ما مكتب في الجامعة، اللهم إذا استثنيت السنوات القليلة التي تحملت فيها مسؤولية رئيس شعبة العلوم الاقتصادية بجامعة محمد الخامس، ثم مسؤولية الإشراف على ماستر اقتصاد المؤسسات. والأمر، بطبيعة الحال، يكاد ينسحب على أغلب الزملاء. يبقى البون، مع ذلك، شاسعا بين الحجرين، المهني والصحي. في الأول، القبوع في البيت ليس بالشكل المطلق الذي عليه الحال في الثاني، لا شيء يقيد من الحركة، أو يمنع من الضرب في الأرض الواسعة. في الحجر الصحي مقاساة، ومعاناة، ومكابدة شديدة بالنسبة لكثير من الناس، خاصة منهم الفئات المعوزة. لا أخفيك أن الوضع الشاق لهؤلاء الناس، الذين هم منا وإلينا، يوجعني أيما وجع، ويجعلني أخجل من الاشتكاء من حالي الخاص، والاستياء من شروط الحجر التي تظل، بالقياس، أقل بأساً، وابتلاء. وكيف تعيش أيام الحجر؟ وقت العمل يتمدَّد ويتمطَّط أكثر من المعتاد على حساب الأوقات الأخرى.الانهماك المتواصل في أشغال اللجنة، أقصد اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، منذ الصباح حتى آخر النهار، يكاد لا يترك لي فسحة لقضاء الحاجات الاعتيادية. باعتماد صيغة العمل عن بعد، يتسارع إيقاع الورشات، والاجتماعات، والاستماعات بشكل كبير، كما تتضاعف وتيرة إنتاج الأوراق، والمسودات، والمذكرات. وكأن اللجنة تريد، بذلك، أن تُسابق الزمن، وتُسارع الجائحة، مُتحدِّية إياها؛ وكأنها لا تريد أن تستكين لقيود الحجر. هناك أمرٌ ثان يجعل من هذا الحجر الصحي غير المسبوق تجربة شديدة الوطأة، وهو الخوف الذي في الصدور، الخوف من ذلك المجهول، المتربص بنا في كل مكان، المحمول إلينا حتى من أعز الناس. تداهمني في لحظات الخشية الوجودية هذه لوحة الصرخة لإدفارد مونش، هي هنا صرخة جماعية، كورالية، ناطقة بنهاية العالم. لكن بالقرآن يطمئن القلب، وتعود السكينة، ثم بالمشي، لمدة ساعة، جيئة وذهاباً داخل البيت يستعيد الجسم بعض الحيوية. ما الذي تقرأه، وما هو التفكير الذي يشغل بالك أكثر في فترة الحجر الصحي؟ أقرأ، إلى حدود التخمة، “الأدبيات الرمادية”، أي التقارير المتعلقة بأعمال اللجنة، ما يُنتجه الأعضاء ويتقاسمونه بينهم، وما يأتي من خارج اللجنة، من مذكرات تقدَّمت بها الأحزاب السياسية، والمنظمات المهنية والنقابية، ومن مقترحات تأتي من كل حدب وصوب، من الأفراد ومن الجمعيات المدنية. كمٌّ هائل من الأوراق، تَجْهَدني وتَنهَكُني قراءتها والإحاطة بفحواها. أكمام لا ينقطع صبيبها، في طياتها تكمن، والله أعلم، “حقيقة” النموذج التنموي الذي أجمع الجميع على أن مدة صلاحيته قد انتهت، وأنه لم يعد ينفع البلاد والعباد، وأن أداءه لم يعد يٌثْمر سوى المزيد من الفوارق، ومن الفقر والهشاشة والإقصاء. المعضلة المغربية برمتها تحت المجهر، فوق المشرحة، لكنها سوف تظل ملتبسة، غارقة في الغموض، صعبة على الإدراك، إذا لم يجتمع الذكاء الوطني للإمساك بخيوطها والتوافق على الحل الشامل والأمثل لها . قبل النوم وقد أخذ مني التعب كل مأخذ أحاول أن أواصل قراءة الكتاب الذي هو تحت اليد، وهوكتاب “البجَعة السوداء” (Le cygne noir)، لمؤلفه نسيم نيقولا طالب. كتاب يصب في صميم الحدث/الجائحة . التحليل الإحصائي يقوم على قانون “التوزيع الطبيعي”(loi normale)، وهو قانون لا يأخذ في الحسبان سوى الأحداث الاحتمالية التي تكون قريبة من المتوسط، أي الأحداث التي نعتبرها طبيعية لشيوعها، ولتواترها، أما الأحداث النادرة الحدوث، أي التي تقع في ذيول المنحنى فهي لا تستحق الاهتمام. لنسيم طالب فرضية معاكسة، تقول باحتمالية الذُّيول، أي الأحداث الطرفية، والاستثنائية، والعشوائية. البجعة السوداء استثناء يتحول إلى قاعدة. من كان يحسب حساب الكوفيد 19؟ لا أحد على الإطلاق. وقبل أيام فرغت من قراءة الكتاب الماتع، والجامع المانع “الماضون إلى الماضي” للصديق الأستاذ عبد الإله بلقزيز. كتاب ماتع، من حيث اللغة. فيه احتفاء باذخ بلسان الضاد، يمتح مفرداته من قاموس القرن الثالث الهجري، قاموس مُترع بالبلاغة والبيان، شاهد على الطاقة التوليدية، والسيمانتيكية للسان العربي، وقدرته الفائقة على الاستيعاب والإثراء والتجدُّد. والكتاب من وجه آخر، جامع مانع، كثُرت معانيه وتعددت. ومن المعاني التي اسْتنبطتها من قراءتي للكتاب معنى الانهيار. يمضي بنا المؤلف إلى الماضي ليُطْلعنا، بحذْق شديد، على الوضعيات التراجيدية التي يكابدها الراوي المتعدد من جراء الانهيارات التي طالت المهن والحرف التقليدية (وهي، على التوالي، البرَّاح، والدلاَّل، والنَّفار، وطالب معاشو، والحْلايْقي، والكسَّال، وفقيه الحْضار، والخطَّابة)، وهي الانهيارات التي أحْدثتها صدمة التحديث. في شروط الجائحة، يأخذ موضوع الانهيار هذا أبعاداً غير مسبوقة، سوف تطال أشكال الإنتاج، وتشمل أنماط ومناحي الحياة قاطبة. ما هي المشاريع التي تشتغل عليها وأنت في الحجر الصحي؟ سبق أن قلت أن المساهمة في أشغال لجنة النموذج التنموي تأخذ مني القسط الأوفر من الوقت والجهد. أسعى في البقية الباقية من الوقت ومن الجهد أن أدفع ببعض المشاريع البحثية الضاغطة نحو الإنجاز. ولقد تمكنت، بشق النفس، أن أضع اللمسات الأخيرة على بحث جماعي حول موضوع “التصنيع والتنمية” في بلادنا، صدر في الآونة الأخيرة في ثلاثة أجزاء بالصيغة الإلكترونية، أما الصيغة الورقية فهي أيضاً قيد الحجر الصحي بالمطبعة. كما أننا في هيئة تحرير مجلة “النهضة” أنهينا العدد الجديد الذي سوف يصدر في الأيام القليلة المقبلة بالصيغة الإلكترونية. وهناك مشاريع أخرى في انتظار ساعة الفرج. ما هي قراءتك اليوم لما يجري خلال أزمة كورونا، وعن ماذا كشفت؟ جائحة كورونا قلبت كل الموازين القديمة، وخلطت كل الأوراق الذابلة، كما عصفت بكثير من المسلمات والمعتقدات والميثولوجيات. من المسلمات التي سقطت، مثل أوراق الخريف، القدرة المطلقة على التوقُّع. لا أحد تحسَّب الأمر، لا أحد تمكَّن من رصْد البجَعة السوداء في الأفق. ومن المعتقدات التي طوَّح بها الوباء القدرة المطلقة للعقل، أقصد العقل العالِم والمُتعالم، على إدراك الحقيقة. لقد بدا العلم مكتوف العقل، في حيرة من أمره أمام كائن ميكروسكوبي، فرض الحجر والعزلة على العالم من أقصاه إلى أقصاه. لم يجد العِلْم المُتعالِم في جعبته ما يسعفه على فهم ما حدث، كيف حدث، ولماذا حدث. ولحد الساعة، وقد مرت ستة أشهر، لم تتمكن المختبرات العملاقة مجتمعة من إيجاد لقاح ضد الفيروس الفتاك. لم يقِلَّ إيماني بالعقل، وبأهمية العلم في التقدم البشري، لكن مشاهدتي لما يجري تدفعني إلى التنسيب، تنسيب كل شيء حتى الحقيقة العلمية، وإلى إعمال النقد حتى عندما يتعلق الأمر بالسلطة العلمية، أو بسلطة العقل، والإقرار بمحدودية المعرفة العلمية. هذه الخلاصة تغدو أكثر قوة في المجال الاقتصادي حيث تترف الإيديولوجيات المتضاربة، والميثولوجيات المتهافتة. ميثولوجيات “العولمة السعيدة”، التي أمست اليوم “عولمة شقية”، أصابتها الجائحة في مقتل، إذ شاهدنا كيف تحول العالم، في رمشة عين، من “قرية صغيرة” إلى جزر معزولة، محصورة، منكفئة على ذاتها. لقد ارتدت العولمة على عقبيها، إلى عكسها. وعادت الدولة لوطنية إلى مربعها الأصلي، تبحث عن حبل النجاة داخل حدودها، وفي حدود إمكانياتها وقدراتها الداخلية. يقول الشاعر هولدرلين، حيثما تكون الأزمة، تكون شروط التجاوز. هذه الجائحة تنطوي، من وجه ثان، على إمكانيات حقيقية للخروج منها.التدابير الاحتياطية، والحمائية، والاستباقية التي اتخذتها الدولة كانت صائبة إلى حد بعيد؛ وما من شك في أنها مكَّنت من مُجانبة الكارثة. كان هناك خياران: حفظ النفس أو حفظ الاقتصاد. عكس كثير من الدول المتقدمة، انحاز المغرب بلا تردد إلى الخيار الأول، خيار صعب، لكنه الخيار الأفضل والأمثل والمنسجم مع الثوابت والقيم الثقافية والأخلاقية التي لم تنل منها اللاعقلانية الاقتصادية المرتبطة بالعولمة النيوليبرالية. عودة الدولة الوطنية، والعود أحمد، إلى أدوارها الطبيعية، وعلى رأسها حماية المجتمع من النوائب أعادت الثقة المفقودة بينهما، خاصة في السنوات الأخيرة. بل إن هذا الانحياز إلى الإنسان بدل الاقتصاد، بالرغم من التكلفة الباهظة التي على الدولة أن تتحملها، هو بالذات ما جعل المجتمع ينخرط، عن وعي، في عملية الحجر الصحي، ويُفجِّر طاقاته الكامنة، ويُبدع في أشكال التضامن، والتعاضد، والتآزر. كيف ستؤثر التجربة الحالية على مستقبل عيشنا المشترك؟ وكيف تنظر إلى المستقبل؟ في أعقاب التغلب، بحول الله، على الأزمة الصحية، علينا أن نجابه، بنفس العزم والحزم، الأزمة الاقتصادية والاجتماعية. في تقديري، هناك شبه إجماع بين الخبراء الاقتصاديين على أن سياسة الإنعاش هي السياسة الأمثل، لوقف التدهور، وتجنُّب الانهيار، ولإنقاذ بعض الأنشطة الإنتاجية من الإفلاس، ولتنشيط الدورة الاقتصادية من جديد. دور الدولة في بلورة مخطط وطني للإنعاش يقوم على الاستثمار، وعلى ضخ الدماء في شرايين الاقتصاد الوطني لا يقل أهمية، فوق هذا المستوى أيضاً. خطة للإنعاش تقوم على فرضيات مختلفة عن الفرضيات التقليدية، التي كانت إلى اليوم تستهدف التوازنات المالية على حساب التوازنات الاجتماعية والبشرية. هذا الإطار الماكرواقتصادوي لم يعد يفي بالغرض، بعد أن نفِدت صلاحيته، علي المستوى الوطني والدولي، بحلول الجائحة. على النموذج التنموي الجديد أن يقطع مع السيرورة التي آلت إلى الاختلالات البنيوية التي تم تشخيصها في بلادنا على مستوى التربية والتكوين، والصحة، والسكن، والتشغيل، والخدمات العمومية، والحماية الاجتماعية. الاستثمار العمومي المنتج ينبغي أن يذهب إلى “الضروري من التنمية”الذي تمثله بالذات هذه القطاعات الحيوية والاستراتيجية، والتي تشكل القاعدة الارتكازية للاقتصاد الوطني، ولاستقلاله، ولتعزيز السيادة على المقدرات البشرية والطبيعية التي تزخر بها بلادنا. بهذا “الضروري من التنمية”سوف تعيد بلادنا إنتاج العيش المشترك. إنه الدرس الذي أستخلصه شخصياً من هذه الجائحة التي ما تزال، مع الأسف، ساكنة بيننا، جاثمة على نفوسنا.